بالرغم من مضي أكثر من قرن من الزمان على وفاة كارل ماركس فلا يزال فكره يشغل حيزاً من اهتمام الباحثين والمفكرين الذين ينتمون إلى أكثر من تخصص ولا يكاد يخلو مؤلف واحد اهتم بتاريخ النظرية إلا ووقف على ما كتب . لأن ماركس يعتبر أحد أهم المنظرين الثوريين، والفلاسفة الماديين النقديين تأثيراً في التاريخ الإنساني، فما تزال أفكاره حتى الآن تجتذب المثقفين في أماكن كثيرة من العالم على الرغم من تهاوي الكثير من الصروح السياسية والاقتصادية، التي قامت على هدي أطروحاته في القرن العشرين المنصرم .
شهد ماركس ظروف التصنيع المبكر في أوروبا وما نتج عنه من آثار سلبية على الطبقة العاملة، مما دفعه إلى الاهتمام بسرعة التخطيط لإحداث عملية التحول الاجتماعي، والإقرار بضرورتها، فنكب بجهد لا مثيل على دراسة وتفسير وتحليل ونقد العوامل، التي أدت إلى ظهور الرأسمالية والمبادئ، التي ارتكزت عليها للحفاظ على وجودها واستمرارها، وذلك بهدف القضاء عليها وتجاوزها إلى تشكيلة اقتصادية - اجتماعية ينتفي فيها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. بهذا نجد أن الفلسفة الماركسية شكلت مدخلاً ثورياً للتغيير الاجتماعي والتقدم الإنساني.
درس ماركس طبيعة هذا الاستغلال وحلله وتنبأ بالنتائج التي سيفضي إليها، فهذا الاستغلال قد اتخذ صور شتى عبر التاريخ، من اقتصاد المرحلة العبودية إلى الإقطاعية وأخيراً إلى الرأسمالية، حيث انقسم أفراد المجتمع فيها إلى ساد وعبيد ثم إلى إقطاعيين وفلاحين، وأخيراً برجوازيون وعمال. وفي كل ذلك كانت قوانين الاقتصاد السياسي هي التي تتحكم بوجود وتطور وفناء نظام اجتماعي – اقتصادي معين، ومجيء نظام أرقى منه. وينطلق ماركس في تفسيره لطروحاته من افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج هو الذي يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع، فإما أن ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية، لهذا أوضح ماركس في البيان الشيوعي 1848، " بأن كل التاريخ السابق لم يكن إلا تاريخ صراع طبقي ". إن هذا الفهم للتاريخ، يصوره كتاريخ قوة تحركه صراعات القوى وتناقضاتها، التي تتمثل في الطبقات الاجتماعية، حيث كان يوجد دائماً طبقات تمتلك وطبقات لا تمتلك، وتبعاً لذلك طبقات حاكمة وطبقات محكومة. لذا فإن الأغلبية الساحقة من البشر حسب التصور الماركسي كانت تعمل بمشقة.
أما فيما يتعلق بالنظام الرأسمالي فيرى ماركس أن الديناميكية الداخلية لقوانين الاقتصاد السياسي لهذا النظام ستفضي لا محال إلى الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، حيث ستؤول الأمور في مسارها المعقد إلى ثورة مجتمعية تحطم فيها البروليتاريا قيودها، وتسقط البرجوازية وتلغي الشروط المادية لأشكال استغلالها وفي مقدمتها (الملكية الخاصة )، ومع هذه الثورة التي ستكون حتمية ستحقق البروليتاريا سيادتها. " فماركس يؤمن بأن البروليتاريا وحدها فقط يمكن لها أن تسقط الرأسمالية، وتحرر نفسها، وكل الفئات المضطهدة في المجتمع، من كافة أشكال الاستغلال والاستعباد ". لهذا يعتبر ماركس أن تحقيق الكامل لإنسانية الإنسان، ولعملية انعتاقه من القوى الاجتماعية التي تقيده، غير منفصل عن عملية وعي وجود هذه القوى، وعن التغيير الاجتماعي الذي يتأسس على هذا الوعي. لأن الفلسفة الماركسية هي فلسفة احتجاج. احتجاج متشرب بالإيمان في الإنسان وبقدرته على تحرير ذاته، وتحقيق لطاقاته .
تأسيساً على ما تقدم نستنتج أن ماركس يؤمن بأن قوى التغيير كامنة في المجتمع ذاته، وليست خارجة عنه، ويعود السبب في ذلك إلى ارتباطها بالأوضاع المادية داخل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، فالصراع – وإن كان أمراً حيوياً لتخليص النظام من أزمته – فإنه لا يتم بمعزل عن الشروط الموضوعية التي تشكل عوامل الحركة الثورية . بهذا تشكل طبقة البروليتاريا حسب التعبير الماركسي القوى الاجتماعية (الثورية) التي سيوكل إليها تجسيد عملية التغيير الاجتماعي. باعتبارها قوى اجتماعية تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لعملية التغيير وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تتجزأ طبقة الرأسمالية وتتبعثر طبقة الفلاحين وجميع فئات الرأسمالية الصغيرة، توّحد البروليتاريا صفوفها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم هي الطبقة الوحيدة لكي تكون زعيماً لجميع جماهير الشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم الرأسمالية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطاً ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.
أما عن المبررات التي دفعتنا إلى دراسة وتحليل النتاج السوسيولوجي لكارل ماركس وبالأخص فيما يتعلق بعلم المجتمع، فإننا نستطيع القول وبكل جدارة أنه بالرغم من مضي أكثر من مئة عام على وفاته (ماركس)، إلا أن أعماله الفكرية مازالت تنبض بالحياة حتى اليوم، وإن شئنا الدقة فهي تشكل المكون الأساسي المفاهيمي والنظري داخل نظرية الصراع، ويدرك كل إنسان عاش في القرن العشرين المنصرم كيف أن أفكار ماركس كان لها تأثير هائل على الممارسة السياسية. حيث كانت الماركسية على صعيد الفكر والعقيدة والممارسة تشكل جسراً قوياً وحياً، واستطاعت أن تؤثر تأثيراً فعالاً في صياغة وتشكيل أقدار ومصير ملايين من الرجال والنساء. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يعتبر ماركس أول من أدخل السياسة في علم الاقتصاد الجديد من أجل تحقيق الثورة الاجتماعية، فجعل بذلك الاقتصاد اقتصاداً سياسياً، أي اقتصاد يقوم على سلطة سياسية، ولذلك يمكن الإطاحة به بتنظيم سياسي ووسائل ثورية. بمعنى آخر إن ماركس يكون قد استنهض روح التمرد التي لا تنبع إلا من كونها منتهكة وليس من كونها واقعة تحت تأثير الضرورة، بذلك يكون ماركس قد ساعد في تحرير الفقراء عبر إقناعهم بأن الفقر ذاته هو ظاهرة سياسية وليس ظاهرة طبيعية وإنه نتيجة العنف والانتهاك وليس نتيجة الشح. أي أن ماركس حوّل المسألة الاجتماعية إلى قوة سياسية موجودة في مصطلح " الاستغلال " أي الفكرة القائلة بأن الفقر هو نتيجةً للاستغلال من خلال الطبقة الحاكمة، التي تمتلك وسائل الإنتاج والعنف . ويستشهد ماركس بالمجتمع الرأسمالي القائم في صميمه على الاستغلال.
تميز الفكر الماركسي باعتباره مرحلة قائمة بذاتها في تاريخ الفلسفة الاشتراكية، على الرغم من أنه اعتمد بشكل كبير على أفكار سابقيه من مفكري الاشتراكية. إلا أن عبقريته تكمن في تنظميه للأفكار الشيوعية المشوشة، وإيجاد فلسفة ومنهج لتحقيقها على أرض الواقع الاجتماعي. حيث يعتبر ماركس أول مفكر اشتراكي أدرك أن وضع التفاصيل والجزئيات لدستور المدينة الفاضلة أقل أهمية من كشف الطريق المؤدي إلى هذه المدينة، وكيفية الوصول إلى هذا الطريق، وكان أول من أدرك أن اكتشاف هذا الطريق يتوقف على دراسة طبيعة المنطقة دراسة تحليلية .
تعد النظرية الصراعية من أهم النظريات المعروفة في علم الاجتماع نظراً لكون الصراع يخيم على علاقات البشر ويخيم على علاقات الجماعات والمجتمعات. بذلك تكون نظرية الصراع شائعة بين علماء الاجتماع لأنه لا يوجد نظرية واحدة بل توجد عدة نظريات صراعية على جانب كبير من الأهمية والفاعلية.
وإذا كان التركيز لدى الصراعيين على علاقات التناقض واللا مساواة والصراع، فإنهم يختلفون حول العامل الأساسي لهذه العملية، كما أنهم يختلفون في نظراتهم للنتائج التي يمكن أن تترتب على عملية الصراع.
فعلى سبيل المثال يرى كارل ماركس أن علاقات الإنتاج، التي تتضمن لا مساواة في الملكية، تشكل أساس اللا مساواة والاستغلال واحتمال الصراع. وبذلك جعل من التوزيع غير العادل في علمية الإنتاج أساساً للصراع الطبقي. وهذا ما سوف نقوم بمناقشته من خلال استعراض نظريته في علم المجتمع.
- فلسفة علم المجتمع عند كارل ماركس:
يعتمد ماركس في رؤيته للمجتمع على التفسير المادي للتاريخ الذي يتلخص في أن الأوضاع الاقتصادية للمجتمع هي الأساس الذي يؤثر في كافة الأوضاع والنظم الاجتماعية والفكرية الأخرى، بحيث تنطبع هذه الأوضاع والنظم بالصورة التي يقتضيها البناء الاقتصادي القائم. وعلى ذلك فإن علاقات الإنتاج ووسائله هي التي تحدد شكل المجتمع ونظامه، وبالتالي يكون لكل نظام إنتاجي، شكل معين للمجتمع يقابله ويختلف هذا الشكل باختلاف وسائل الإنتاج وطرقه. بذلك يتلخص التصور المادي للتاريخ في أن البناء الاقتصادي للمجتمع هو الأساس الذي يفسر في التحليل الأخير، البناء الفوقي بما يتضمنه من نظم قانونية وسياسية وأفكار فلسفية ودينية خاصة بكل مرحلة محددة .
فالمجتمع حسب رأي ماركس مهما كانت مرحلته التاريخية أي (التكوين الاقتصادي الاجتماعي) يعتمد على الأساس الاقتصادي، أي نمط الإنتاج الذي ينقسم بدوره إلى مكونين أساسيين هما: قوى الإنتاج التي تعني مجموعة الطاقات المادية والبشرية التي تتوظف في العملية الإنتاجية كوسائل العمل وأدوات الإنتاج (كالآلات والأجهزة والمباني، إضافةً إلى الطاقة البشرية بما تتمتع به من إمكانيات فنية وخبرة وعمل). أما المكون الثاني فهو علاقات الإنتاج التي تعني الارتباطات الأساسية التي يشغلها الناس بعضهم مع بعض من أجل تنفيذ النشاط الاقتصادي (ملكية الإنتاج، أوضاع الطبقات، التفاعل الطبقي، توزيع وتبادل السلع المادية). وترتبط قوى الإنتاج بعلاقات الإنتاج، فالأفراد خلال إنتاجهم الاجتماعي لا يؤثرون على الطبيعة فقط وإنما يتبادلون التأثير فيما بينهم من خلال التعاون والتبادل، أي أنهم يؤسسون علاقات فيما بينهم من خلال العمل، ولذلك فإن كلمة " أسلوب الإنتاج " تطلق على قوى الإنتاج وعلاقاته معاً.
تأسيساً على ما تقدم وفي ضوء التفسير المادي للمجتمع، يمكننا القول إن من أهم معالم التحليل الماركسي أن علاقات الإنتاج هي التي تحدد التقسيم الاجتماعي والتركيب الطبقي للمجتمع، وهذا البناء الطبقي يحدد بدوره طبيعة النظم القانونية والسياسية . " أي أن مجموع علاقات الإنتاج هذه هي التي تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والقاعدة التي تقوم عليها البنية القانونية والسياسية التي تعكس بدورها أشكالاً محددة من الوعي الاجتماعي ". بهذا تكون علاقات الإنتاج في المجتمع الطبقي ليست علاقات بين فرد وآخر، ولكنها بين المزارع والمالك، بين العامل والرأسمالي. ويؤمن ماركس أن هذه العلاقات الطبقية القائمة على الاستغلال هي المفتاح الأساسي لفهم المجتمعات الطبقية.
تتبع علاقات الإنتاج تطور القوى الإنتاجية والعلاقة بينهما وقد تكون علاقة تطابق ( العمل الفردي والملكية الفردية أو العمل الجماعي والملكية الجماعية ) وقد تكون علاقة تناقض ( العمل الجماعي والملكية الفردية ). بمعنى أن علاقات الإنتاج قد تأخذ شكل التعاون والتعاضد أو شكل الاستغلال والسيطرة، حيث تتصل بكل أشكال التقسيم الاجتماعي للعمل ونظام الملكية وأشكال التوزيع والتبادل. إلا أن قوى الإنتاج أسرع في تطورها من علاقات الإنتاج التي تتميز بالثبات النسبي لكنها عرضة لتغيرات فجائية يتم بواسطتها تصفية شكل علاقات الإنتاج القائمة وإحلال أخرى محلها، وبذلك يتغير أسلوب الانتاج ( وهذا التغير لابد أن يصاحبه عمل ثوري من قبل الطبقات التي تكون علاقات الإنتاج في غير صالحها... ) ومن هنا ندرك مرونة القانون الاجتماعي ونسبيته.
إن قوى التغير الاجتماعي - حسب اعتقاد ماركس - كامنة في المجتمع ذاته، وهي ليست راجعة إلى عوامل خارجية كالعقل أو الفكرة المطلقة أو البيئة الجغرافية أو تزايد السكان أو التطور المزعوم للعقل أو الفكر، فالأفكار عند ماركس مرتبطة بأوضاع الحياة المادية وفي هذا الصدد يقول ماركس: " ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ". لذلك فإن الأفكار الثورية - لعملية التحول الاجتماعي- لا تظهر ولا تنتشر إلا في ظروف موضوعية مواتية، ونظام لم يعد يتمشى مع المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الأوضاع المادية للمجتمع، كذلك فإن الجماهير هي التي تصنع التاريخ وتحقق التغير من خلال إنتاج السلع المادية وليس القادة أو الرجال العظام.
إن التطور الاجتماعي هو تطور أساليب الإنتاج التي تعاقبت على المجتمع الإنساني. حيث ينقسم المجتمع (الطبقي) في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي إلى طبقتين: طبقة تملك وسائل الإنتاج، وطبقة لا تملك شيئاً منها، وإنما تملك فقط قوة عملها أي قدرتها على بذل المجهود أي استخدام وسائل الإنتاج لزيادة معدله، ومن هنا ينشأ الصراع الطبقي الذي جعله ماركس سمة رئيسية لتاريخ المجتمع البشري في مراحل معينة من تطوره ". بمعنى أن النقطة المركزية في الطروحات الماركسية تتمثل في افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع فإما ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية.
يؤكد ماركس في البيان الشيوعي 1848، أن الصراع بين الطبقات وجد في جميع مراحل التطور الاجتماعي، لأن نظام الإنتاج يوجد دائماً طبقة مستغَلة وطبقة مستغِلة، طبقة مأمورة وطبقة آمرة. فيقول: " إنّ تاريخ أي مجتمع، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية ". والصراع - كما يرى ماركس – قد وجد منذ تلاشى نظام الملكية الجماعية للأرض، وقام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. فنظام الملكية الفردية قد فصم الجماعة إلى طبقتين طبقة من يملكون وطبقة من لا يملكون، وهاتان الطبقتان تتصارعان وتتنازعان، وهذا الصراع لا يهدأ إلى أن يقوض الجماعة بأكملها أو يهدم الطبقات المتصارعة، ثم تقوم جماعة جديدة تتصارع فيها طبقات جديدة إلى أن يقضي عليها هي الأخرى. لذا تعد نظرية الصراع الطبقي، وجهاً آخر للتصور المادي للمجتمع والتاريخ، لتفسير عوامل التغير الاجتماعي في المجتمعات الطبقية القائمة على الاستغلال. بذلك فإن الصراع عند ماركس " لا يحدث فجأة، بل بشكل متكرر "، كنتيجة حتمية لتعارض الأهداف والمصالح بين هاتين الطبقتين، حيث يؤدي في النهاية ومن خلال الثورة الاجتماعية إلى تغيير علاقات الإنتاج أو شكل الملكية السائدة، فالطبقة المستغِلة، لا يمكن أن تتنازل عن امتيازاتها الطبقية طواعيةً، " لأنها تحتل موقعاً متميزاً كطبقة مسيطرة "، لذا لابد من إجبارها من خلال الثورة الاجتماعية - حسب رأي ماركس – حتمياً. تأسيساً على ما تقدم يمكننا اعتبار الصراع الطبقي وما يؤدي إليه من ثورات اجتماعية المحرك الأساسي للتغير الاجتماعي في جميع المجتمعات الطبقية حتى يتم الانتقال إلى مجتمع بلا طبقات، وتاريخ كل مجتمع - كما ذكرنا سابقاً - ليس سوى تاريخ صراع الطبقات، ( الأحرار والعبيد، النبلاء والعامة، السيد الإقطاعي والقن، البرجوازي مالك وسائل الإنتاج والعامل )، باختصار المستغلون والمستغلين في تعارض دائم، وتصارع مستمر، يتخذ شكلاً سافراً في بعض الأحيان، ومقنعاً في أحيان أخرى، وينتهي الأمر دائماً إما بتغيير ثوري للمجتمع بأسره أو بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً.
تأسيساً على ما تقدم قسّم ماركس المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين: الأولى طبقة البرجوازية طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الإنتاج الاجتماعي الذين يستخدمون العمل المأجور. الثانية البروليتاريا طبقة العمال الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أية وسائل إنتاج، و " الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملاً. ولا يجدون عملاً إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال ". بذلك يرى ماركس من خلال هذا التقسيم أن النظام الرأسمالي يشتمل في داخله على بذور فنائه، لأنه أوجد طبقة ثانية تعارضت مصالحها مع مصالح الطبقة البرجوازية وهي طبقة البروليتاريا.
كما تتميز هذه المرحلة - بالإضافة إلى وجود طبقتين متعارضتين - بتعدد النشاط الاقتصادي وتنوعه وبالتطور التكنولوجي في وسائل الإنتاج. وعلى الرغم من أن العامل قد تحرر في ظل الرأسمالية بمعنى أنه كان يعمل متى يشاء وأينما شاء، على عكس أسلوب الإنتاج الإقطاعي الذي عمل على تحديد حرية العامل (الأجير)، إلا أنه في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي مضطراً لبيع عمله للرأسمالي لأنه - كما أشرنا سابقاً – لا يملك وسائل الإنتاج. بالمقابل نجد الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج يستمر في تحسين وسائل الإنتاج للحصول على مزيد من الربح أي فائض القيمة (القيمة الزائدة)، وهذا يعني أن علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي القائمة على مبدأ الملكية الخاصة قد أدت إلى ظهور الربح الرأسمالي، فعندما يزداد نمو القوى الإنتاجية تصبح علاقات الإنتاج متخلفة عنها بحيث تكون معوقة لتطورها. في هذا السياق يرى ماركس أن وفرة الإنتاج الرأسمالي بسبب التقدم الذي طرأ على أساليبه ستؤدي إلى انهياره بسبب ما يحدث فيه من أزمات دورية، فهو كالساحر الذي أطلقت تعاويذه السحرية قوى جبارة يعجز عن السيطرة عليها فتقضي عليه . " لأن البرجوازية لا تستطيع البقاء دون أن تُثوَّر باستمرار أدوات الإنتاج". مما يؤدي إلى عدم قدرة علاقات الإنتاج على مسايرة التقدم التقني في وسائل الإنتاج، فيترتب على ذلك عدم امتداد نتائج هذا التقدم التقني إلى من يعملون بجهدهم البشري لإنتاج تلك الأدوات، وكذلك في عملية الإنتاج ذاتها. بمعنى آخر يمكن لنا صياغة هذا القانون على النحو التالي: " إن التغيرات في القوى الإنتاجية لابد أن تستدعي، عاجلاً أم آجلاً، تغيرات مناسبة في علاقات الانتاج، وعلاقات الإنتاج بدورها تؤثر في القوى الإنتاجية فتساعد على تطويرها إذا كانت ملائمة لها، وتصبح كابحاً لها إذا دخلت في تناقض معها. فقانون الملائمة عند ماركس يعبّر عن ديالكتيك قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الجاري على أساس تطور قوى الإنتاج ".
وبشكل عام يعتقد ماركس أن تغيير البناء الاجتماعي، ودخول المجتمع في مرحلة حضارية تاريخية يعود إلى التغيير في البناء المادي لسبب أو لآخر. وهذا من شأنه أن يؤثر على البناء الفوقي، أي بعبارة أخرى إن الجوانب المادية هي التي تؤثر على الأفكار والقيم والعادات والقوانين والأعراف الاجتماعية، ومع ذلك لا يلغي ماركس العوامل الفكرية تماماً، وإنما يرى دراسة هذه العوامل ينبغي أن تكون في ضوء العوامل المادية والاجتماعية. فالتطور الاجتماعي عنده يقوم على أساس تاريخي شبه ميكانيكي، حيث يلعب الإنسان فيه دور مهماً من خلال جهوده وتحديه للظروف المختلفة، وبهذا يكون الإنسان صانعاً لتاريخه.
شهد ماركس ظروف التصنيع المبكر في أوروبا وما نتج عنه من آثار سلبية على الطبقة العاملة، مما دفعه إلى الاهتمام بسرعة التخطيط لإحداث عملية التحول الاجتماعي، والإقرار بضرورتها، فنكب بجهد لا مثيل على دراسة وتفسير وتحليل ونقد العوامل، التي أدت إلى ظهور الرأسمالية والمبادئ، التي ارتكزت عليها للحفاظ على وجودها واستمرارها، وذلك بهدف القضاء عليها وتجاوزها إلى تشكيلة اقتصادية - اجتماعية ينتفي فيها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. بهذا نجد أن الفلسفة الماركسية شكلت مدخلاً ثورياً للتغيير الاجتماعي والتقدم الإنساني.
درس ماركس طبيعة هذا الاستغلال وحلله وتنبأ بالنتائج التي سيفضي إليها، فهذا الاستغلال قد اتخذ صور شتى عبر التاريخ، من اقتصاد المرحلة العبودية إلى الإقطاعية وأخيراً إلى الرأسمالية، حيث انقسم أفراد المجتمع فيها إلى ساد وعبيد ثم إلى إقطاعيين وفلاحين، وأخيراً برجوازيون وعمال. وفي كل ذلك كانت قوانين الاقتصاد السياسي هي التي تتحكم بوجود وتطور وفناء نظام اجتماعي – اقتصادي معين، ومجيء نظام أرقى منه. وينطلق ماركس في تفسيره لطروحاته من افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج هو الذي يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع، فإما أن ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية، لهذا أوضح ماركس في البيان الشيوعي 1848، " بأن كل التاريخ السابق لم يكن إلا تاريخ صراع طبقي ". إن هذا الفهم للتاريخ، يصوره كتاريخ قوة تحركه صراعات القوى وتناقضاتها، التي تتمثل في الطبقات الاجتماعية، حيث كان يوجد دائماً طبقات تمتلك وطبقات لا تمتلك، وتبعاً لذلك طبقات حاكمة وطبقات محكومة. لذا فإن الأغلبية الساحقة من البشر حسب التصور الماركسي كانت تعمل بمشقة.
أما فيما يتعلق بالنظام الرأسمالي فيرى ماركس أن الديناميكية الداخلية لقوانين الاقتصاد السياسي لهذا النظام ستفضي لا محال إلى الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، حيث ستؤول الأمور في مسارها المعقد إلى ثورة مجتمعية تحطم فيها البروليتاريا قيودها، وتسقط البرجوازية وتلغي الشروط المادية لأشكال استغلالها وفي مقدمتها (الملكية الخاصة )، ومع هذه الثورة التي ستكون حتمية ستحقق البروليتاريا سيادتها. " فماركس يؤمن بأن البروليتاريا وحدها فقط يمكن لها أن تسقط الرأسمالية، وتحرر نفسها، وكل الفئات المضطهدة في المجتمع، من كافة أشكال الاستغلال والاستعباد ". لهذا يعتبر ماركس أن تحقيق الكامل لإنسانية الإنسان، ولعملية انعتاقه من القوى الاجتماعية التي تقيده، غير منفصل عن عملية وعي وجود هذه القوى، وعن التغيير الاجتماعي الذي يتأسس على هذا الوعي. لأن الفلسفة الماركسية هي فلسفة احتجاج. احتجاج متشرب بالإيمان في الإنسان وبقدرته على تحرير ذاته، وتحقيق لطاقاته .
تأسيساً على ما تقدم نستنتج أن ماركس يؤمن بأن قوى التغيير كامنة في المجتمع ذاته، وليست خارجة عنه، ويعود السبب في ذلك إلى ارتباطها بالأوضاع المادية داخل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، فالصراع – وإن كان أمراً حيوياً لتخليص النظام من أزمته – فإنه لا يتم بمعزل عن الشروط الموضوعية التي تشكل عوامل الحركة الثورية . بهذا تشكل طبقة البروليتاريا حسب التعبير الماركسي القوى الاجتماعية (الثورية) التي سيوكل إليها تجسيد عملية التغيير الاجتماعي. باعتبارها قوى اجتماعية تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لعملية التغيير وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تتجزأ طبقة الرأسمالية وتتبعثر طبقة الفلاحين وجميع فئات الرأسمالية الصغيرة، توّحد البروليتاريا صفوفها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم هي الطبقة الوحيدة لكي تكون زعيماً لجميع جماهير الشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم الرأسمالية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطاً ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.
أما عن المبررات التي دفعتنا إلى دراسة وتحليل النتاج السوسيولوجي لكارل ماركس وبالأخص فيما يتعلق بعلم المجتمع، فإننا نستطيع القول وبكل جدارة أنه بالرغم من مضي أكثر من مئة عام على وفاته (ماركس)، إلا أن أعماله الفكرية مازالت تنبض بالحياة حتى اليوم، وإن شئنا الدقة فهي تشكل المكون الأساسي المفاهيمي والنظري داخل نظرية الصراع، ويدرك كل إنسان عاش في القرن العشرين المنصرم كيف أن أفكار ماركس كان لها تأثير هائل على الممارسة السياسية. حيث كانت الماركسية على صعيد الفكر والعقيدة والممارسة تشكل جسراً قوياً وحياً، واستطاعت أن تؤثر تأثيراً فعالاً في صياغة وتشكيل أقدار ومصير ملايين من الرجال والنساء. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يعتبر ماركس أول من أدخل السياسة في علم الاقتصاد الجديد من أجل تحقيق الثورة الاجتماعية، فجعل بذلك الاقتصاد اقتصاداً سياسياً، أي اقتصاد يقوم على سلطة سياسية، ولذلك يمكن الإطاحة به بتنظيم سياسي ووسائل ثورية. بمعنى آخر إن ماركس يكون قد استنهض روح التمرد التي لا تنبع إلا من كونها منتهكة وليس من كونها واقعة تحت تأثير الضرورة، بذلك يكون ماركس قد ساعد في تحرير الفقراء عبر إقناعهم بأن الفقر ذاته هو ظاهرة سياسية وليس ظاهرة طبيعية وإنه نتيجة العنف والانتهاك وليس نتيجة الشح. أي أن ماركس حوّل المسألة الاجتماعية إلى قوة سياسية موجودة في مصطلح " الاستغلال " أي الفكرة القائلة بأن الفقر هو نتيجةً للاستغلال من خلال الطبقة الحاكمة، التي تمتلك وسائل الإنتاج والعنف . ويستشهد ماركس بالمجتمع الرأسمالي القائم في صميمه على الاستغلال.
تميز الفكر الماركسي باعتباره مرحلة قائمة بذاتها في تاريخ الفلسفة الاشتراكية، على الرغم من أنه اعتمد بشكل كبير على أفكار سابقيه من مفكري الاشتراكية. إلا أن عبقريته تكمن في تنظميه للأفكار الشيوعية المشوشة، وإيجاد فلسفة ومنهج لتحقيقها على أرض الواقع الاجتماعي. حيث يعتبر ماركس أول مفكر اشتراكي أدرك أن وضع التفاصيل والجزئيات لدستور المدينة الفاضلة أقل أهمية من كشف الطريق المؤدي إلى هذه المدينة، وكيفية الوصول إلى هذا الطريق، وكان أول من أدرك أن اكتشاف هذا الطريق يتوقف على دراسة طبيعة المنطقة دراسة تحليلية .
تعد النظرية الصراعية من أهم النظريات المعروفة في علم الاجتماع نظراً لكون الصراع يخيم على علاقات البشر ويخيم على علاقات الجماعات والمجتمعات. بذلك تكون نظرية الصراع شائعة بين علماء الاجتماع لأنه لا يوجد نظرية واحدة بل توجد عدة نظريات صراعية على جانب كبير من الأهمية والفاعلية.
وإذا كان التركيز لدى الصراعيين على علاقات التناقض واللا مساواة والصراع، فإنهم يختلفون حول العامل الأساسي لهذه العملية، كما أنهم يختلفون في نظراتهم للنتائج التي يمكن أن تترتب على عملية الصراع.
فعلى سبيل المثال يرى كارل ماركس أن علاقات الإنتاج، التي تتضمن لا مساواة في الملكية، تشكل أساس اللا مساواة والاستغلال واحتمال الصراع. وبذلك جعل من التوزيع غير العادل في علمية الإنتاج أساساً للصراع الطبقي. وهذا ما سوف نقوم بمناقشته من خلال استعراض نظريته في علم المجتمع.
- فلسفة علم المجتمع عند كارل ماركس:
يعتمد ماركس في رؤيته للمجتمع على التفسير المادي للتاريخ الذي يتلخص في أن الأوضاع الاقتصادية للمجتمع هي الأساس الذي يؤثر في كافة الأوضاع والنظم الاجتماعية والفكرية الأخرى، بحيث تنطبع هذه الأوضاع والنظم بالصورة التي يقتضيها البناء الاقتصادي القائم. وعلى ذلك فإن علاقات الإنتاج ووسائله هي التي تحدد شكل المجتمع ونظامه، وبالتالي يكون لكل نظام إنتاجي، شكل معين للمجتمع يقابله ويختلف هذا الشكل باختلاف وسائل الإنتاج وطرقه. بذلك يتلخص التصور المادي للتاريخ في أن البناء الاقتصادي للمجتمع هو الأساس الذي يفسر في التحليل الأخير، البناء الفوقي بما يتضمنه من نظم قانونية وسياسية وأفكار فلسفية ودينية خاصة بكل مرحلة محددة .
فالمجتمع حسب رأي ماركس مهما كانت مرحلته التاريخية أي (التكوين الاقتصادي الاجتماعي) يعتمد على الأساس الاقتصادي، أي نمط الإنتاج الذي ينقسم بدوره إلى مكونين أساسيين هما: قوى الإنتاج التي تعني مجموعة الطاقات المادية والبشرية التي تتوظف في العملية الإنتاجية كوسائل العمل وأدوات الإنتاج (كالآلات والأجهزة والمباني، إضافةً إلى الطاقة البشرية بما تتمتع به من إمكانيات فنية وخبرة وعمل). أما المكون الثاني فهو علاقات الإنتاج التي تعني الارتباطات الأساسية التي يشغلها الناس بعضهم مع بعض من أجل تنفيذ النشاط الاقتصادي (ملكية الإنتاج، أوضاع الطبقات، التفاعل الطبقي، توزيع وتبادل السلع المادية). وترتبط قوى الإنتاج بعلاقات الإنتاج، فالأفراد خلال إنتاجهم الاجتماعي لا يؤثرون على الطبيعة فقط وإنما يتبادلون التأثير فيما بينهم من خلال التعاون والتبادل، أي أنهم يؤسسون علاقات فيما بينهم من خلال العمل، ولذلك فإن كلمة " أسلوب الإنتاج " تطلق على قوى الإنتاج وعلاقاته معاً.
تأسيساً على ما تقدم وفي ضوء التفسير المادي للمجتمع، يمكننا القول إن من أهم معالم التحليل الماركسي أن علاقات الإنتاج هي التي تحدد التقسيم الاجتماعي والتركيب الطبقي للمجتمع، وهذا البناء الطبقي يحدد بدوره طبيعة النظم القانونية والسياسية . " أي أن مجموع علاقات الإنتاج هذه هي التي تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والقاعدة التي تقوم عليها البنية القانونية والسياسية التي تعكس بدورها أشكالاً محددة من الوعي الاجتماعي ". بهذا تكون علاقات الإنتاج في المجتمع الطبقي ليست علاقات بين فرد وآخر، ولكنها بين المزارع والمالك، بين العامل والرأسمالي. ويؤمن ماركس أن هذه العلاقات الطبقية القائمة على الاستغلال هي المفتاح الأساسي لفهم المجتمعات الطبقية.
تتبع علاقات الإنتاج تطور القوى الإنتاجية والعلاقة بينهما وقد تكون علاقة تطابق ( العمل الفردي والملكية الفردية أو العمل الجماعي والملكية الجماعية ) وقد تكون علاقة تناقض ( العمل الجماعي والملكية الفردية ). بمعنى أن علاقات الإنتاج قد تأخذ شكل التعاون والتعاضد أو شكل الاستغلال والسيطرة، حيث تتصل بكل أشكال التقسيم الاجتماعي للعمل ونظام الملكية وأشكال التوزيع والتبادل. إلا أن قوى الإنتاج أسرع في تطورها من علاقات الإنتاج التي تتميز بالثبات النسبي لكنها عرضة لتغيرات فجائية يتم بواسطتها تصفية شكل علاقات الإنتاج القائمة وإحلال أخرى محلها، وبذلك يتغير أسلوب الانتاج ( وهذا التغير لابد أن يصاحبه عمل ثوري من قبل الطبقات التي تكون علاقات الإنتاج في غير صالحها... ) ومن هنا ندرك مرونة القانون الاجتماعي ونسبيته.
إن قوى التغير الاجتماعي - حسب اعتقاد ماركس - كامنة في المجتمع ذاته، وهي ليست راجعة إلى عوامل خارجية كالعقل أو الفكرة المطلقة أو البيئة الجغرافية أو تزايد السكان أو التطور المزعوم للعقل أو الفكر، فالأفكار عند ماركس مرتبطة بأوضاع الحياة المادية وفي هذا الصدد يقول ماركس: " ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ". لذلك فإن الأفكار الثورية - لعملية التحول الاجتماعي- لا تظهر ولا تنتشر إلا في ظروف موضوعية مواتية، ونظام لم يعد يتمشى مع المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الأوضاع المادية للمجتمع، كذلك فإن الجماهير هي التي تصنع التاريخ وتحقق التغير من خلال إنتاج السلع المادية وليس القادة أو الرجال العظام.
إن التطور الاجتماعي هو تطور أساليب الإنتاج التي تعاقبت على المجتمع الإنساني. حيث ينقسم المجتمع (الطبقي) في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي إلى طبقتين: طبقة تملك وسائل الإنتاج، وطبقة لا تملك شيئاً منها، وإنما تملك فقط قوة عملها أي قدرتها على بذل المجهود أي استخدام وسائل الإنتاج لزيادة معدله، ومن هنا ينشأ الصراع الطبقي الذي جعله ماركس سمة رئيسية لتاريخ المجتمع البشري في مراحل معينة من تطوره ". بمعنى أن النقطة المركزية في الطروحات الماركسية تتمثل في افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع فإما ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية.
يؤكد ماركس في البيان الشيوعي 1848، أن الصراع بين الطبقات وجد في جميع مراحل التطور الاجتماعي، لأن نظام الإنتاج يوجد دائماً طبقة مستغَلة وطبقة مستغِلة، طبقة مأمورة وطبقة آمرة. فيقول: " إنّ تاريخ أي مجتمع، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية ". والصراع - كما يرى ماركس – قد وجد منذ تلاشى نظام الملكية الجماعية للأرض، وقام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. فنظام الملكية الفردية قد فصم الجماعة إلى طبقتين طبقة من يملكون وطبقة من لا يملكون، وهاتان الطبقتان تتصارعان وتتنازعان، وهذا الصراع لا يهدأ إلى أن يقوض الجماعة بأكملها أو يهدم الطبقات المتصارعة، ثم تقوم جماعة جديدة تتصارع فيها طبقات جديدة إلى أن يقضي عليها هي الأخرى. لذا تعد نظرية الصراع الطبقي، وجهاً آخر للتصور المادي للمجتمع والتاريخ، لتفسير عوامل التغير الاجتماعي في المجتمعات الطبقية القائمة على الاستغلال. بذلك فإن الصراع عند ماركس " لا يحدث فجأة، بل بشكل متكرر "، كنتيجة حتمية لتعارض الأهداف والمصالح بين هاتين الطبقتين، حيث يؤدي في النهاية ومن خلال الثورة الاجتماعية إلى تغيير علاقات الإنتاج أو شكل الملكية السائدة، فالطبقة المستغِلة، لا يمكن أن تتنازل عن امتيازاتها الطبقية طواعيةً، " لأنها تحتل موقعاً متميزاً كطبقة مسيطرة "، لذا لابد من إجبارها من خلال الثورة الاجتماعية - حسب رأي ماركس – حتمياً. تأسيساً على ما تقدم يمكننا اعتبار الصراع الطبقي وما يؤدي إليه من ثورات اجتماعية المحرك الأساسي للتغير الاجتماعي في جميع المجتمعات الطبقية حتى يتم الانتقال إلى مجتمع بلا طبقات، وتاريخ كل مجتمع - كما ذكرنا سابقاً - ليس سوى تاريخ صراع الطبقات، ( الأحرار والعبيد، النبلاء والعامة، السيد الإقطاعي والقن، البرجوازي مالك وسائل الإنتاج والعامل )، باختصار المستغلون والمستغلين في تعارض دائم، وتصارع مستمر، يتخذ شكلاً سافراً في بعض الأحيان، ومقنعاً في أحيان أخرى، وينتهي الأمر دائماً إما بتغيير ثوري للمجتمع بأسره أو بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً.
تأسيساً على ما تقدم قسّم ماركس المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين: الأولى طبقة البرجوازية طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الإنتاج الاجتماعي الذين يستخدمون العمل المأجور. الثانية البروليتاريا طبقة العمال الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أية وسائل إنتاج، و " الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملاً. ولا يجدون عملاً إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال ". بذلك يرى ماركس من خلال هذا التقسيم أن النظام الرأسمالي يشتمل في داخله على بذور فنائه، لأنه أوجد طبقة ثانية تعارضت مصالحها مع مصالح الطبقة البرجوازية وهي طبقة البروليتاريا.
كما تتميز هذه المرحلة - بالإضافة إلى وجود طبقتين متعارضتين - بتعدد النشاط الاقتصادي وتنوعه وبالتطور التكنولوجي في وسائل الإنتاج. وعلى الرغم من أن العامل قد تحرر في ظل الرأسمالية بمعنى أنه كان يعمل متى يشاء وأينما شاء، على عكس أسلوب الإنتاج الإقطاعي الذي عمل على تحديد حرية العامل (الأجير)، إلا أنه في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي مضطراً لبيع عمله للرأسمالي لأنه - كما أشرنا سابقاً – لا يملك وسائل الإنتاج. بالمقابل نجد الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج يستمر في تحسين وسائل الإنتاج للحصول على مزيد من الربح أي فائض القيمة (القيمة الزائدة)، وهذا يعني أن علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي القائمة على مبدأ الملكية الخاصة قد أدت إلى ظهور الربح الرأسمالي، فعندما يزداد نمو القوى الإنتاجية تصبح علاقات الإنتاج متخلفة عنها بحيث تكون معوقة لتطورها. في هذا السياق يرى ماركس أن وفرة الإنتاج الرأسمالي بسبب التقدم الذي طرأ على أساليبه ستؤدي إلى انهياره بسبب ما يحدث فيه من أزمات دورية، فهو كالساحر الذي أطلقت تعاويذه السحرية قوى جبارة يعجز عن السيطرة عليها فتقضي عليه . " لأن البرجوازية لا تستطيع البقاء دون أن تُثوَّر باستمرار أدوات الإنتاج". مما يؤدي إلى عدم قدرة علاقات الإنتاج على مسايرة التقدم التقني في وسائل الإنتاج، فيترتب على ذلك عدم امتداد نتائج هذا التقدم التقني إلى من يعملون بجهدهم البشري لإنتاج تلك الأدوات، وكذلك في عملية الإنتاج ذاتها. بمعنى آخر يمكن لنا صياغة هذا القانون على النحو التالي: " إن التغيرات في القوى الإنتاجية لابد أن تستدعي، عاجلاً أم آجلاً، تغيرات مناسبة في علاقات الانتاج، وعلاقات الإنتاج بدورها تؤثر في القوى الإنتاجية فتساعد على تطويرها إذا كانت ملائمة لها، وتصبح كابحاً لها إذا دخلت في تناقض معها. فقانون الملائمة عند ماركس يعبّر عن ديالكتيك قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الجاري على أساس تطور قوى الإنتاج ".
وبشكل عام يعتقد ماركس أن تغيير البناء الاجتماعي، ودخول المجتمع في مرحلة حضارية تاريخية يعود إلى التغيير في البناء المادي لسبب أو لآخر. وهذا من شأنه أن يؤثر على البناء الفوقي، أي بعبارة أخرى إن الجوانب المادية هي التي تؤثر على الأفكار والقيم والعادات والقوانين والأعراف الاجتماعية، ومع ذلك لا يلغي ماركس العوامل الفكرية تماماً، وإنما يرى دراسة هذه العوامل ينبغي أن تكون في ضوء العوامل المادية والاجتماعية. فالتطور الاجتماعي عنده يقوم على أساس تاريخي شبه ميكانيكي، حيث يلعب الإنسان فيه دور مهماً من خلال جهوده وتحديه للظروف المختلفة، وبهذا يكون الإنسان صانعاً لتاريخه.