أ. د. عادل الأسطة - عن الهموم الذاتية في الزمن الفلسطيني :

كنت نويت أن أكتب عن رأي كاتب فلسطيني في كتاباتي ، وعن رأي صحفي في كتابي " الفلسطيني في الرواية العربية " وعن رأي ناشر في كتابي " أفكار وموضوعات في الأدب الفلسطيني و " العربي " ، ثم وجدتني أكرر أسطر محمود درويش التي طالما استشهدت بها في الكتابة الطارئة التي تحول دون الكتابة في موضوع ذاتي .
في " حالة حصار " ٢٠٠٣ كتب الشاعر :
" كتبت عن الحب عشرين سطرا / فخيل لي / أن هذا الحصار / تراجع عشرين مترا ... " .
ومن يعد إلى كتابي " أدب المقاومة ... من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات " في طبعته الثانية ( دمشق ٢٠٠٨ ) يقرأ مقالة مضافة إلى طبعة الكتاب الثانية عنوانها " نص الانتفاضة الأدبي : سؤال الموضوع ... سؤال الفن " وفيها ترد الأسطر الشعرية السابقة وعليها ، وعلى قصة أكرم هنية " سحر الحب " ، بنيت المقالة .
ولأن ما حدث معي الأسبوع الماضي بهذا الشأن يحدث دائما ، نظرا لطبيعة حياتنا التي تفاجئنا كل يوم بحدث جديد يشغلنا عن الالتفات إلى الشأن الخاص ، فقد صرت أردد الآية ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) .
في يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني ٢٩ / ١١ / ٢٠٢٢ ؛ يوم الثلاثاء ، ارتقى إلى رحمته تعالى خمسة فلسطينيين بينهم الأخوان جواد وظافر عبد الرحمن الريماوي ، وهما في بداية العشرينيات من عمرهما . عندما أردت أن أكتب شيئا في ذلك اليوم وفي صبيحة الأربعاء مكثت نصف ساعة أحاول فعجزت ووجدتني أقرأ وأنظر في الصور وأعقب : " لهما الرحمة والمغفرة ولك طول العمر . له الرحمة والمغفرةولك طول العمر . تعازي الحارة . الرحمة للشهداء والزوال للاحتلال ودولة إسرائيل . كلنا في فلسطين مشروع شهداء . كان الله في عون والديهما " .
وأنا أصغي إلى الأخبار وأشاهد الأب يبكي ولديه والأم تعبر عن حزنها وفقدانها تذكرت أمي وأبي يوم فقدا ابنهما البكر وهو في الثالثة والعشرين من عمره ، علما بأنه كان لهما من الذكور خمسة آخرون ومن الإناث ست بنات ، وكانت أمي حاملا في شهرها الخامس .
بكى أبي كما لم يبك في حياته من قبل ومن بعد ، ونادرا عموما ما رأيته يبكي ، وبكت أمي لأيام بكاء فاق بكاءها كله في فترة حياتها ؛ بكاءها يوم مات أبوها وبكاءها يوم كان أبي يغضبها فتحرد عند أهلها لأيام ، ولم يقتصر حزنها على البكاء ، فقد كادت تجن ، ولما كانت حاملا خيف عليها من الموت في أثناء الولادة ، ثم أنجبت طفلة في الشهر السابع سميناها نجاة لنجاة أمي ، لا حبا في المطربة المصرية نجاة الصغيرة ، علما بأننا كنا نحب أغانيها ولم أزل .
وأنا أتابع الفيديوهات التي تصور والدي الشهيدين يبكيان ويتحدثان عدت إلى ديوان " حالة حصار " ، وصرت أعود إليه في العشرين سنة الأخيرة أكثر مما أعود لأي ديوان من دواوين درويش السابقة ، بما فيها " جدارية " التي كتبت فيها كتابي " أرض القصيدة : جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره " ( ٢٠٠١ ) ، علما بأن " جدارية " بإقرار النقاد وشبه إجماعهم هي أفضل ما كتب ، وعلما بأنه - في مقابلة " حوار العمر " في BBC ، حين سألته جيزيل خوري أي ديوان يقترح من دواوينه للقراء - اقترح أيضا " جدارية " .
لماذا إذن أعود إلى " حالة حصار " أكثر ؟
منذ انتفاضة الأقصى في ٢٨ أيلول ٢٠٠٠ ارتفع عدد الشهداء الفلسطينيين وصار قتل الإسرائيليين أشبه بعادة ، وغالبا ما يكون الشهيد الجديد شهيدا لأخ شهيد ، وغالبا ما يسير الأب في جنازة الابن يحمل نعشه وقد يؤبنه ويلحده ، وغالبا ما أخذت أكثر الأمهات تزف ابنها في أثناء تشييعه فتزغرد وتقول عبارات تظهرها أما شجاعة فقدت ابنها في سبيل دفاعه عن الوطن ، وغالبا ما تهنئه بأنه سيتزوج من الحور العين ، وغالبا ما تجادل الفلسطينيون فيما بينهم جهارا أو همسا حول الأيام القادمة في حياة أسرة الشهيد ؛ الأب والأم والزوجة ومستقبل هؤلاء ومستقبل أطفال الشهيد ، إن كان له أطفال . كل ما سبق كتب عنه محمود درويش في " حالة حصار " وصارت أشعاره فيما سبق الأكثر اقتباسا وتضمينا ومشاركة وربما اقتبست شخصيا ، في يومياتي ، من " حالة حصار " ، منذ صدوره ، أكثر مما اقتبسته من مجمل أشعاره .
يوم الأربعاء استشهد شاب من يعبد قرب جنين ، وفي صباح الخميس استشهد اثنان من مخيم جنين ، وقارب عدد الشهداء في الضفة الغربية وقطاع غزة في هذا العام ، وما زال فيه بقية ، قارب ٢١٠ ( بعد كتابة المقال قتل الإسرائيليون ، يوم الجمعة ٢ / ١٢ / ٢٠٢٢ ، على حاجز حوارة ، بدم بارد ، شابا في الثانية والعشرين من عمره ، هو عمار حمدي مفلح . أنظر ما كتبته على صفحتي الشخصية " قتلنا بدم بارد " السبت ٣ / ١٢ / ٢٠٢٢ ) .
بكى عبد الرحمن الريماوي ولديه وبكتهما أمهما وبكاهما الشعب الفلسطيني . هذه المرة لم تزغرد الأم وبكى الأب وتحسرا أنهما لن يفرحا بهما ولم يريا أحفادهما منهما ، وفي " حالة حصار " كتب محمود درويش :
" لا تصدق زغارديهن / وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا :/كيف بدلت أدوارنا ، يا بني ، / وسرت أمامي " .
هل غدت الكتابة عن الهموم الذاتية في الزمن الفلسطيني لا مساحة لها ؟
الأربعاء ٣٠ / ١١ / ٢٠٢٢ .
الخميس ١ / ١٢ / ٢٠٢٢ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى