د. علي خليفة - قيمة الصداقة بين العلاقات الإنسانية الأخرى

حين نتأمل آراء الكتاب والمفكرين العرب القدماء عن الصداقة نجد أن هناك "شبه إجماع على تفضيل الصداقة عن الحب"، وعلى علاقة الزواج، وعلى سائر العلاقات الإنسانية الأخرى.
فيفهم من عبارة لعبد الحميد الكاتب أنه يفضّل الصديق على الأخ بالدم والنسب.
وابن المقفع رفع مكانة الصداقة فوق كل العلاقات الإنسانية، حتى علاقة الزوجية، يقول: "اجعل غاية نيتك فى مؤاخاة من تؤاخى ومواصلة من تواصل توطين نفسك على أنه
لا سبيل لك إلى قطيعة أخيك، وإن ظهر لك فيه ما تكره. فإنه ليس كالمملوك الذى تعتقه إذا شئت، أو كالمرأة التى تطلقها إذا شئت، ولكنه عرضك ومروءتك. فإنما مروءة الرجل إخوانه وأخدانه".
وقال "رجل لابن المقفع: أنا بالصديق آنس منى بالأخ، فقال: صدقت، الصديق نسيب الروح والأخ نسيب الجسم" .
ويعقد أبو حيان التوحيدى مقارنة بين الصداقة والعشق، ويفضل علاقة الصداقة على علاقة العشق، ويرى أن "الأنس بالصديق أقوى من الأنس بالعشيق، لأن الصديق يصلح لكل الأحوال فى الجد والهزل والقليل والكثير، وهو متعة للعقل والروح معًا. أما العشيق فإنه متعة للعين ولكنها متعة محفوفة بالشك والريب، كما يؤدى التعلق بالمعشوق إلى إثارة مشاعر الشجن والحزن، وفى معظم الأحوال لا تدوم العلاقة بين العاشق والمعشوق".
ونجد بعض الشخصيات البارزة فى تراثنا – كمعاوية بن أبى سفيان – تفضل الصديق على سائر الأشخاص الذين يتصل بهم المرء.
أما عن الجاحظ فإننا نجده يكاد يكون صوتًا منفردًا
– فى تراثنا – فى هذا الأمر، فإنه يرفع علاقة العشق بين الرجل والمرأة على علاقة الصداقة، ويكرر هذا القول فى مواضع مختلفة من كتبه ويعلل له. ومن ذلك قوله: "فتأَمَّلْنا شأْن الدنيا فوجدنا أكبر نَعِيمِها وأكملَ لذَّاتها، ظفرَ المحبِّ بحبيبه، والعاشقِ بطِلْبَتِه. ووجدنا شِقوَة الطالب المُكْدِى وغَمَّه، فى وزن سعادةِ الطالب المُنْجحِ وسرورهِ، ووجَدْنا العشق كلَّما كان أَرسخ. وصاحبُه به أكلف. فإِنَّ موقع لذَّة الظفر منه أَرسخ، وسرورَه بذلك أَبهج"..
ويرى الجاحظ أن علاقة الصديق بصديقه يعمها الحب، والحب درجة أقل من درجة العشق التى توجد بين بعض الرجال وبعض النساء، يقول فى ذلك: "ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى
ولا يسمَّيان عشقًا، فيكون ذلك فى الولد والصديق والبلد، والصِّنف من اللِّباس والفُرش والدواب، فلم نر أحدًا منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحُه من حبّ بلده ولا ولده، وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق.
وقد رأينا وبلغَنا عن كثير ممن قد تَلِفَ وطال جُهده وضَناه بداء العشق".
ويتحدث الجاحظ عن العشق بين الرجل والمرأة بقوله: "فالعشق يتركّب من الحبّ والهَوَى، والمشاكلة والإلف، وله ابتداء فى المصاعدة، ووقوف على غاية، وهبوطٌ فى التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال".
العشق إذًا هو أعلى درجات العلاقات الإنسانية عند الجاحظ، وبقدر ما يتنعم العاشقان بقدر ما يتألمان مما قد يعكر علاقة عشقهما، بل يرى الجاحظ أن هناك من مات من عشق النساء، ولم نر أحدًا مات من حب بلده أو ولده أو والده.
والجاحظ يقول:"ليس شىء ألذ ولا أسر من عز الأمر والنهى، ومن الظفر بالأعداء، ومن عقد المنن فى أعناق الرجال والسرور بالرياسة وثمرة السيادة،لأن هذه الأمور هى نصيب الروح، وحظ الذهن وقسم النفس".
وقد نفهم من هذا أن الجاحظ يرى أن هذه الأمور تسبب سعادة للإنسان أكثر من علاقة العشق بالنساء، وهذا غير صحيح، فهو لم يتعرض لعلاقة العشق هنا، ولكنه تعرض إليها فى موضع آخر ورآها أعلى قدرًا فى تحقيق السعادة للمرء من ظفره بأى نعمة أخرى بما فيها نعمة الظفر بالأعداء، يقول: "فإِنْ زعم زاعم أَنَّ موقعَ لذَّة الظَّفر بعدوِّه المُرصِد أَحسنُ من موقع لذَّة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته.
قلنا: إِنَّا قد رأَينا الكرام والحلماءَ، وأَهل السُّودد والعظماء، ربَّما جادوا بفضلهم من لذَّة شفاءِ الغَيْظ، ويعدُّون ذلك زيادةً فى نُبْل النفس. وبُعد الهمّة والْقدْر. ويجُودون بالنَّفيس من الصامت والناطق. وبالثَّمين من العُروض. وربَّما خرجَ من جميع ماله، وآثَرَ طِيبَ الذِّكر على الغِنى واليُسْر. ولم نرَ نفْس العاشق تسخُو بمعشوقه، ويجود بشقيقة نفسه لوالدٍ ولا لولد بارٍّ. ولا لذى نعمةٍ سابغة يخاف سَلْبَها وصَرْف إحسانِه عنه بسببها".
ويتفق مع الجاحظ – فى قوله بتفضيل علاقة العشق بين الرجل والمرأة على سائر العلاقات الإنسانية الأخرى بما فيها علاقة الصداقة – بعض المفكرين مثل دافيز الذى يقول: إن "الاستمتاع برفقة المحبوب يفوق الاستمتاع بصحبة الصديق، مع تميز الحب بقدرته على استثارة الانفعالات الإيجابية السارة فى طرفى العلاقة، غير أن الحب فى الوقت نفسه قد يكون مصدرًا لقدر أعلى من المنغصات والمعاناة والصراع والتناقض الوجدانى والنقد المتبادل".
وقد تحدث الجاحظ عما يمكن أن يسببه الحب للمحبين من أرق وآلام قد تصل للموت، ومع ذلك فالعشق عنده أعلى العلاقات الإنسانية على الإطلاق.
وعلى الرغم من أن تصريح الجاحظ أن علاقة العشق
لا تدانيها علاقة أخرى كالصداقة مثلاً فإنه يرى – فى الوقت نفسه – أن بعض الصداقات قد تعلو فتصير صداقات مشوبة بالعشق، كصداقته بإبراهيم بن المدبر فى فترة من حياته.
فالجاحظ يوجه إليه رسالة يستخدم فيها مصطلحات العشق لا مصطلحات الصداقة، كقوله له:"ما ضاء لى نهار ولا دجا ليل منذ فارقتك إلا وجدت الشوق إليك قد حز فى كبدى، والأسف عليك قد أسقط فى يدى، والنزاع نحوك قد خان جلدى، فأنا بين حشا خفاق، ودمع مُهْراق، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد أبليت بما تكابد".
وحين قرأ عبد الله بن جعفر الوكيل – صديق إبراهيم بن المدبر – هذه الرسالة أمام إبراهيم بن المدبر، قال له: "هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر، فضحك وقال: نحن نتبسط مع أبى عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع فى كل ثلاثة أيام، وتأخر لشغل عرض لى فخاطبنى مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع العادة مقام الغيبة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى