صدرت روايتي الأولى “مسالك الانتظار” باللغة الفرنسية أواخر سنة 2014 عن دار لارمتان في باريس، وهي نفس الدار التي نشرت سنتين من قبل سيرتي الذاتية. لا أخفي بأنني شعرت، في البداية، ببعض المفاجأة بعد أن أجازتها لجنة القراءة في الدار المذكورة، لأن هذه الرواية كنت قد كتبتها لنفسي من باب التجربة أو، حتى لا أغالي، لأقل إني كتبتها استجابة لرغبة ذاتية في محاولة مني لاستعادة أجواء خاصة وعلاقات شبابية عشتها في سبعينيات القرن الماضي. وقد تمخضت فكرة الرواية في ذهني ووجداني سنة كاملة قبل أن أبسطها على الورق وأنا متردد من بدايتها إلى نهايتها. سبب التوجس جاء من كوني لم أكن جربت كتابة الرواية من قبل وإن كنت سلخت ثلاثين سنة من عمري في الكتابة، كانت حصيلتها أربع مجاميع قصصية وأكثر من عشرين كتابا في التاريخ المحلي وبحثا أكاديميا حول “الصحافة الثقافية في المغرب” فضلا عن أكثر من مائة مقالة ودراسة.
وحتى بعد أن أنهيت كتابة الرواية فلم أشعر، في أول الأمر، بأي حماس لنشرها. بدا لي أن موضوعها وإن كان جذبني شخصيا، كمؤلف، فإنه ربما لن يجذب قراء متخمين بالعرض الروائي الوافر والمتنوع، وبالتالي، خمنت أنها حتما لن تغري ناشرا عربيا ولا أجنبيا. بل إنني لم أتخذ قرار إرسالها إلى الناشر إلا بعدما تلقيت أصداء مشجعة من زميلي في فرع اتحاد كتاب المغرب بالجديدة : الناقد عبد المجيد نوسي والروائي الحبيب الدايم ربي بعدما قرءا المخطوط وأبديا رأيهما فيه.
تقوم قصة هذه الرواية على تداخل حكايتين، على الأقل: حكاية صحفي متقاعد يحاول كتابة رواية حب وحكاية زميله، المؤرخ، الستيني، الذي عثر، صدفة، على صديقة شبابه بعدما افتقدها لأربعين سنة. وتعتبر حكاية الصحفي حكاية تأطيرية لحكاية المؤرخ. فمن خلال كتابة الأول لقصة الثاني سيكتشف القارئ مضمون العلاقة الرابطة بين الشخصيات الثلاثة في الرواية، كما سيكتشف الإطار الزمكاني الخاص الذي عاشته تلك الشخصيات في سبعينيات القرن الماضي بين مدينتي أنفا (الدار البيضاء) ومازغان (الجديدة). وبالتقدم في قراءة الرواية والتمعن فيها، فقد تبدو الشخصيتان الرئيسيتان أي الصحفي والمؤرخ كما لو كانتا تمثلان ذاتا واحدة.
يوهم العالم الفني في هذه الرواية بالواقعية، إلى حد بعيد، وذلك من خلال اهتمامه بنثريات الحياة التي تلعب دورها في شد القارئ للقصة. لكن هذا الشد يتم أيضا، وخاصة، من خلال نسيج الكلمات التي تكون لحمته والتي حاولت أن تعكس عمق الأحاسيس العابرة للزمان سواء لدى الرجل المتقاعد أو لدى حبيبته السابقة. ومن ثم فاختيار تقسيم ثنائي للرواية راعى تصور الكاتب لتلك الأحاسيس في توقدها وانطفائها. فالفصل الأول وعنوانه “المصادفات غير العادية” يقابله الفصل الثاني وعنوانه “الوقائع العادية”. ولاشك أن صيغتي العنوانين توحيان بالمغزى الثاوي وراء هذا التقابل. ذلك أن نظرة الإنسان، لعلاقة أو واقعة أو حادثة ما، تتغير مع الوقت ولا تظل هي نفسها. إنها تخفت وتخبو شيئا فشيئا، تماما كما تخفت العواطف وتخبو. وهكذا فما كنا نعتبره بالأمس القريب مصادفة استثنائية قد يصبح غدا ذكرى بسيطة. وما كان تجربة حب في الماضي ستستحيل مع الزمن مجرد مزحة مرحة.
ويمكن للقارئ أن يدرك هذه التحولات من خلال توالي السرد وتنامي الأحداث. ففي الفصل الأول من الرواية ينتقل السرد من الحاضر إلى الماضي عبر التذكر الداخلي والحوار وكذا عبر تجليات الفضاءات ذات الارتباط العاطفي بالشخصية. بينما ينتقل السرد في الفصل الثاني من الماضي إلى الحاضر. بمعنى آخر فالرواية تبدأ من الحاضر وتنتهي به، بينما يبقى الماضي، رغم ثقله في سيرورة الأحداث، مجرد إحساس شخصي لمن يعنيه ذلك الزمن المندثر. ففي نهاية المطاف، ليس الماضي سوى ذكرى تتلون برؤية صاحبها أي قد تكون جميلة وقد تكون تعيسة. الأمر هنا سيان. أما الحاضر فهو الزمن الفعلي، المتحرك والأقوى.
وتعتمد الرواية كثيرا على تقنية الاسترجاع وعلى الانتقال بين الماضي والحاضر والعكس. كل ذلك بغاية إبراز علاقة عاطفية قديمة تعود لعهد الصبا والشباب وتتحول مع الزمن إلى وقفة تأملية في الذات والآخر. وقد حكمت الرواية رؤية إنسانية حاولت أن تحقن شخصياتها القليلة بشحنة عاطفية عندما جعلتها تفكر في حالها ومآلها وهي تتقدم في العمر تقدما لا مناص منه.
وأعتقد بأنني، من خلال هذه الرواية، استعدت بعض حريتي التي كنت كما لو افتقدتها حين كنت، وما زلت، منخرطا في مشروع كتابة التاريخ السوسيولوجي لحاضرة الجديدة. لقد اعتبرت بأن هذا العمل السردي التخييلي منحني فسحة فكرية ونفسية مكنتني من استعادة معاني مفتقدة مثل الحب والصداقة ورقة الأحاسيس. وهي ذات المعاني التي قاربتها في كتاباتي ذات الطابع التاريخي، وإن بشكل آخر، ومن زاوية موضوعية موثقة بالمراجع وشهادات الفاعلين.
ومن ناحية أخرى، فبهذه الرواية أكون قد أعدت علاقتي مع التخييل من جديد. فقد بدأت مشواري في الكتابة بالقصة القصيرة حيث نشرت أربع مجموعات قصصية بالعربية اثنتان منها صدرتا عن اتحاد الكتاب العرب، وكانت آخر مجموعة قصصية لي وعنوانها “شجرة الحياة” قد صدرت عن دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1996. وصدرت مجموعتي القصصية الخامسة عن دار لارمتان سنة 2016. ثم لأسباب عدة، علمية وعملية، انخرطت في كتابة التاريخ المحلي من سنة 1993 إلى حد اليوم، فكانت الحصيلة أكثر من عشرين كتابا غطت مناحي مختلفة من حاضرة الجديدة وملأت بعض الفراغ الذي كان محسوسا لدى الباحثين فيما يخص المعرفة المحلية. وبطبيعة الحال فإن مجموع هذه الانشغالات، على تعددها وتنوعها، شكلت معينا معرفيا ونفسيا للتخييل ووفرت لي تراكما في التجربة ساعدني على كتابة رواية ضمنتها كثيرا من ذاتيتي وذكرياتي.
المصطفى اجماهري
وحتى بعد أن أنهيت كتابة الرواية فلم أشعر، في أول الأمر، بأي حماس لنشرها. بدا لي أن موضوعها وإن كان جذبني شخصيا، كمؤلف، فإنه ربما لن يجذب قراء متخمين بالعرض الروائي الوافر والمتنوع، وبالتالي، خمنت أنها حتما لن تغري ناشرا عربيا ولا أجنبيا. بل إنني لم أتخذ قرار إرسالها إلى الناشر إلا بعدما تلقيت أصداء مشجعة من زميلي في فرع اتحاد كتاب المغرب بالجديدة : الناقد عبد المجيد نوسي والروائي الحبيب الدايم ربي بعدما قرءا المخطوط وأبديا رأيهما فيه.
تقوم قصة هذه الرواية على تداخل حكايتين، على الأقل: حكاية صحفي متقاعد يحاول كتابة رواية حب وحكاية زميله، المؤرخ، الستيني، الذي عثر، صدفة، على صديقة شبابه بعدما افتقدها لأربعين سنة. وتعتبر حكاية الصحفي حكاية تأطيرية لحكاية المؤرخ. فمن خلال كتابة الأول لقصة الثاني سيكتشف القارئ مضمون العلاقة الرابطة بين الشخصيات الثلاثة في الرواية، كما سيكتشف الإطار الزمكاني الخاص الذي عاشته تلك الشخصيات في سبعينيات القرن الماضي بين مدينتي أنفا (الدار البيضاء) ومازغان (الجديدة). وبالتقدم في قراءة الرواية والتمعن فيها، فقد تبدو الشخصيتان الرئيسيتان أي الصحفي والمؤرخ كما لو كانتا تمثلان ذاتا واحدة.
يوهم العالم الفني في هذه الرواية بالواقعية، إلى حد بعيد، وذلك من خلال اهتمامه بنثريات الحياة التي تلعب دورها في شد القارئ للقصة. لكن هذا الشد يتم أيضا، وخاصة، من خلال نسيج الكلمات التي تكون لحمته والتي حاولت أن تعكس عمق الأحاسيس العابرة للزمان سواء لدى الرجل المتقاعد أو لدى حبيبته السابقة. ومن ثم فاختيار تقسيم ثنائي للرواية راعى تصور الكاتب لتلك الأحاسيس في توقدها وانطفائها. فالفصل الأول وعنوانه “المصادفات غير العادية” يقابله الفصل الثاني وعنوانه “الوقائع العادية”. ولاشك أن صيغتي العنوانين توحيان بالمغزى الثاوي وراء هذا التقابل. ذلك أن نظرة الإنسان، لعلاقة أو واقعة أو حادثة ما، تتغير مع الوقت ولا تظل هي نفسها. إنها تخفت وتخبو شيئا فشيئا، تماما كما تخفت العواطف وتخبو. وهكذا فما كنا نعتبره بالأمس القريب مصادفة استثنائية قد يصبح غدا ذكرى بسيطة. وما كان تجربة حب في الماضي ستستحيل مع الزمن مجرد مزحة مرحة.
ويمكن للقارئ أن يدرك هذه التحولات من خلال توالي السرد وتنامي الأحداث. ففي الفصل الأول من الرواية ينتقل السرد من الحاضر إلى الماضي عبر التذكر الداخلي والحوار وكذا عبر تجليات الفضاءات ذات الارتباط العاطفي بالشخصية. بينما ينتقل السرد في الفصل الثاني من الماضي إلى الحاضر. بمعنى آخر فالرواية تبدأ من الحاضر وتنتهي به، بينما يبقى الماضي، رغم ثقله في سيرورة الأحداث، مجرد إحساس شخصي لمن يعنيه ذلك الزمن المندثر. ففي نهاية المطاف، ليس الماضي سوى ذكرى تتلون برؤية صاحبها أي قد تكون جميلة وقد تكون تعيسة. الأمر هنا سيان. أما الحاضر فهو الزمن الفعلي، المتحرك والأقوى.
وتعتمد الرواية كثيرا على تقنية الاسترجاع وعلى الانتقال بين الماضي والحاضر والعكس. كل ذلك بغاية إبراز علاقة عاطفية قديمة تعود لعهد الصبا والشباب وتتحول مع الزمن إلى وقفة تأملية في الذات والآخر. وقد حكمت الرواية رؤية إنسانية حاولت أن تحقن شخصياتها القليلة بشحنة عاطفية عندما جعلتها تفكر في حالها ومآلها وهي تتقدم في العمر تقدما لا مناص منه.
وأعتقد بأنني، من خلال هذه الرواية، استعدت بعض حريتي التي كنت كما لو افتقدتها حين كنت، وما زلت، منخرطا في مشروع كتابة التاريخ السوسيولوجي لحاضرة الجديدة. لقد اعتبرت بأن هذا العمل السردي التخييلي منحني فسحة فكرية ونفسية مكنتني من استعادة معاني مفتقدة مثل الحب والصداقة ورقة الأحاسيس. وهي ذات المعاني التي قاربتها في كتاباتي ذات الطابع التاريخي، وإن بشكل آخر، ومن زاوية موضوعية موثقة بالمراجع وشهادات الفاعلين.
ومن ناحية أخرى، فبهذه الرواية أكون قد أعدت علاقتي مع التخييل من جديد. فقد بدأت مشواري في الكتابة بالقصة القصيرة حيث نشرت أربع مجموعات قصصية بالعربية اثنتان منها صدرتا عن اتحاد الكتاب العرب، وكانت آخر مجموعة قصصية لي وعنوانها “شجرة الحياة” قد صدرت عن دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1996. وصدرت مجموعتي القصصية الخامسة عن دار لارمتان سنة 2016. ثم لأسباب عدة، علمية وعملية، انخرطت في كتابة التاريخ المحلي من سنة 1993 إلى حد اليوم، فكانت الحصيلة أكثر من عشرين كتابا غطت مناحي مختلفة من حاضرة الجديدة وملأت بعض الفراغ الذي كان محسوسا لدى الباحثين فيما يخص المعرفة المحلية. وبطبيعة الحال فإن مجموع هذه الانشغالات، على تعددها وتنوعها، شكلت معينا معرفيا ونفسيا للتخييل ووفرت لي تراكما في التجربة ساعدني على كتابة رواية ضمنتها كثيرا من ذاتيتي وذكرياتي.
المصطفى اجماهري
“مسالك الانتظار” رواية لنثريات الحياة - السؤال الآن
المصطفى اجماهري صدرت روايتي الأولى "مسالك الانتظار" باللغة الفرنسية أواخر سنة 2014 عن دار لارمتان في باريس، وهي نفس الدار التي نشرت سنتين من قبل سيرتي الذاتية. لا أخفي بأنني شعرت، في البداية، ببعض المفاجأة بعد أن أجازتها لجنة القراءة في الدار المذكورة، لأن هذه الرواية كنت قد كتبتها لنفسي من باب...
assoual.com