إنه فيلم يتحدث عن النكبة، عال! سنشاهد الكثير من اللقطات الدموية، قتل، اغتصاب، تفجيرات، رصاصٌ يسابق الريح نحو أجسادِ الفلسطينيين العزّل، جنودٌ صهاينة عديمو الرحمة، وجوهٌ كالحةٌ، مؤامرةٌ مُبيّتةٌ لفلسطين وشعبها منذ وعد بلفور المأفون. لا، إنه فيلمٌ يروي قصة طفلة. طفلة فلسطينية قرويّة تحلم بمتابعة دراستها في المدينة في وقتٍ لم يكن في قريتها غير مدرسةٍ للأولاد، وشيخ يعلم الفتيات القراءة والكتابة والقرآن. آها! إنها صورةٌ عن تخلّف الفلسطينيين والتفرقة الجائرة بين الأولاد والبنات. هذه الصورة هي ما يصدّره هذا الفيلم للغرب، ولهذا حظي بالترشّح لجائزة الأوسكار!
ما قصة "فرحة"؟ أو.. "رضيّة" – في القصة الأصلية التي حولتها المخرجة إلى هذا الفيلم؟ إنها قصة الحياة، قصة الطفولة المسبيّة، المطعونة بحَربة الاحتلال الصهيوني، قصة الأحلام البريئة لأي طفل في هذا العالم – أيًّا كانت بيئته وظروفه الاجتماعية – قصة الطفلة التي لا تمر بطور المراهقة كما تمر الفتيات، بل تهجم عليها السنوات في ليلةٍ وضحاها، فتستيقظ لتجد نفسها امرأةً ذات حكايةٍ تُروى.
طيب! ماذا عن نصف مشاهد الفيلم التي تابعناها لفرحة محبوسة في مخزن المُؤن؟ وال؟ ألهذه الدرجة كانت المشاهد فقيرة عند المخرجة فلم تجد مكانًا آخر تصوّر فيه الفيلم؟ قلّة بشر تجيبهم يمثّلوا معها؟ قِلّة حوادث حصلت وقت النكبة!
عندما تكون فلسطين جوهرة، فإنك ستخبئها في أعمق نقطة في روحك، وهكذا كانت فرحة، فرحة فلسطين.. فلسطين الحالمة بالغد، حين نخاف عليها فنودعها صندوق أرواحنا. والد فرحة خبأ ابنته في مخزن المؤن، وطمأنها بأنه سوف "يعود" إليها. ألم يقل كل لاجئ فلسطيني لداره وقريته ومدينته التي هُجّر منها تحت الرصاص والرعب والخوف إنه عائد؟ فرحة لم تكن ابنةَ مختار القرية، بل الوطن برمّته! هذا الوطن الذي شهد تهجير أهله وقتلهم من.. شقّ الباب.. ولم يصدّق ما رأى.. حتى رأى دمه يسيل على الأرض.. فشاخ مرّةً واحدة، وإلى الأبد!
أتدركُ كيف يتسرّب العمر من بين يديك فلا تشعر به، أنتَ أيها المشاهد، مرّ عمر "فرحة" ثقيلًا على قلبك وأنت تراقبها تبحث عن ماءٍ وطعامٍ وأغنيةٍ تدندنها ولعبةٍ تُسلّي نفسها بها داخل غرفة المؤن لياليّ وأيّامًا. أمّا هي، فقد سُرقت أيّامها منها، ولم تعد. كان على مخرجة الفيلم أن تجعلك تكره انتظارك، لتكره الاحتلال، والظّلم، والجور.
أين الدفاع عن الأرض إذن؟ أين شهامة الفلسطينيين؟ لماذا تُرسل لنا المخرجة صورةً لخائنٍ يدلّ على مخازن السلاح عوضًا عن صور المجاهدين الذين دافعوا حتى الرّمق الأخير عن البلاد؟ ثم.. ماذا عن الجنود الصهاينة، ذلك الجندي الشاب الذي رفض أن يقتل الرضيع، أهي محاولة لإظهار رحمة المحتل الغاصب؟ أهي محاباةٌ للغرب المشارك أصلًا في الجريمة؟
طوال الأعوام الماضية خاطبنا الغرب بالوسائل المتوقعّة، الوسائل التي كان جاهزًا دومًا لإبطال مفعولها لدى شعوبه بخطوةٍ استباقية تُفسد كل ما نحاول قوله والدفاع عنه. لا، لم تعد مشاهد الدم والرواية الحقيقية لما حصل في فلسطين روايةً مؤثّرةً عليهم كما هي علينا. نحن أصحاب الحقّ، نحن أصحاب القصّة، لذا نصدّق رواتها بعد أكثر من سبعين عامًا. أما هم، فمتفرّجون محتملون.. مستمعون يصيب آذانهم الملل بعد خمس دقائق لروايةٍ بُكائيّة. وإذن؟ إنها أدواتنا التي تتغيّر، أمّا قصتنا، فخالدةٌ للأبد.
أما الطّفل – رمز الأمل الموؤود لـ"فرحة" في مخبئها داخل غرفة المؤن – فقد قتله الجندي فعلًا، الجنديّ الذي قتل والد الطفل ووالدته وشقيقتيه بالرصاص بلا رحمة، وعجز عن قتله – في المشهد – بخنقه أو الدوس عليه. إنها معادلة الإنسانية الساخرة، نسبيّة القسوة والرحمة التي تبيح لك قتل الكبار بدمٍ باردٍ بينما تجعلك رقيق القلب جبانًا أمام طفل. مسخرة! أجل، إنها صورةٌ وحشيّةٌ للنمطيّة يا سادة! لا داعي لإراقة دمٍ كثيرٍ للضحك الباكي على الشيزوفرينيا التي تتنفسونها في "عالمكم الحرّ".
حسنًأ إذن، لماذا لم تستخدم فرحة المسدس الذي عثرت عليه لتقتل جنديًّا فتثأر لنفسها ولفلسطين؟ لماذا لم تكبر لتصبح أم شهيد وتزغرد كما تفعل الفلسطينيات المناضلات؟ ها؟ انتهى الفيلم نهاية باردة.. فرحة تمشي.. وخلاص!
من قال إن الفيلم انتهى بمشهده الأخير؟ الفيلم بدأ.. حكاية الطفلة التي حلمت بالمدرسة ثم صار حلمها أن تصل إلى مكان آمنٍ لتعيش.. لتحكي، لتنقل روايةً قد تُسرقُ منها كما سرقت أحلام طفولتها...
الجوهرة المكنونة عثرت على سلاح، عثرت عليه بعدما "صُقِلَت" ونضجت. ما كان لها أن تعثر على السلاح منذ المشهد الأول لأنها ببساطة ليست مستعدّةً بعد. طلقاتها الأولى كانت عشوائية بلا تخطيط.. وهذا ما حصل لفلسطين التي انتبهت فجأةً فوجدت نفسها مُغتصبةً وشعبها شريدًا. كثرٌ ممن هُجّروا عبّروا عن الأمر هكذا: "مرّ الأمر كما لو كان كابوسًا ثم انتبهنا! كما لو أن ما حصل حصل في غمضة عين". فرحة أيضًا وجدت سلاحًا، لكنها مجبولة على حب الحياة والناس، القتل ليس شرعتها ولا دينها. لذا استخدمت السلاح بعشوائية، ثم فتحت باب حبسها، وعرفت أن للسلاح استخداماتٍ أخرى.. من بينها "المقاومة"، المقاومة انتصارًا للحياة، لا لأجل القتل والتدمير. لا حاجة لكلامٍ كثير، ولا مشاهد أكثر، صار بإمكانك تخيّل ما ستصبحه فرحة عندما تتابع حياتها فتتزوج وترزق بأطفال. ها أنتَ تراهم يركضون شبه عراةٍ في المخيّمات.. يقنصهم جنديّ هنا، يذلّهم على المعابر جنديّ هناك... ها أنتَ ترى حياتهم أمام عينيك.. أيّ حياةٍ في ظلّ احتلال!
هكذا إذن، ينتهي الفيلم بفرحة بالثياب ذاتها التي كانت المشهد الأول إنما باليةً مدنّسة، بالشعر الذي فقد زينته، بالوجه المُنهك الذي غادرته براءة الطفولة، بالشفتين المشققتين، بقصاصة الورق – حلم العودة – التي كانت فيما مضى أملًا مُحقّقًا يانعا مرسومًا على ورقةٍ كاملة.. إلى أين تمضي فرحة؟ لا يهم.. المشهد الكلّي يأتي على دمار القرية ببيوتها.. الأخضر الريّان تحوّل إلى سوادٍ كالحٍ ميّت. إنما فرحة تشقّ طريقها، وحدها، بيدها قصاصة ورق، ومسدّس.
___________________________________________________________________
* فيلم "فرحة": فيلم أردني من تأليف وإخراج دارين سلام، وبطولة كرم الطاهر، وأشرف برهوم، وعلي سليمان.