على الرغم من غلبة اللغة الفلسفية والحكمة في كافة مفاصل النص ربما تواكبا مع المرحلة العمرية التي يقف عندها الكاتب لكن النص يعكس بامتياز حالة تفاعلية جدلية بين ما هو داخل الكاتب (سبر اعماقه) وما هو خارجه (استجاباته المتأرجحة الزجزاجية لأحداث الواقع). وقد نجح الكاتب في ان يقود فكرة " المؤقت" (كل شيء مخلوق على ظهر الكون مؤقت ) المركزية في مجمل مدارات النص لكي تصبح انعكاسا رئيسيا لمجمل استجاباته النفسية الداخلية والسلوكية خلال جولات النص الاربعة على النحو التالي: اولا تعدد مستويات السرد وفق مقتضيات الحالة النفسية للكاتب أو للسارد ما بين مشاعر القلق والتوتر حينا ومشاعر الراحة والهدوء حينا، أو مشاعر الاستغراق الكابوسي حينا ثالثا وتراوحت هذه المستويات بين السارد العليم التقليدي، والسارد الكاشف لما يجري في الواقع والسارد المتحدث باسم بطل النص الرئيسي (وليد) وهذا التعدد في مستويات السرد ترتب عليه اختلاف في لغة الحوار ما بين لغة مضطربة متوترة الى لغة هادئة ناعمة لكن ظل الكاتب متمسك بمهارة استنطاق ابطاله باللغة الفصحى بقدر الامكان من دون ان يغلبه توتره على الممازجة بين الفصحى والعامية كما يحدث للكثير من الكتاب. ثانيا: شخصية وليد بطل النص بدت كأنها امتزاج غير مفتعل بين شخصية الكاتب في الواقع، وشخصيته من خلال عقله الباطن الممتزج باحلامه ورغباته وامنياته وطموحاته، وشخصيته المتخيلة للعالم والناس والأحداث. فهو يعيش عدة عوالم في آن واحد ويستمد من مشاعره الاكتئابية قبلة حياة فلسفية تارة حينما انشغل بفكرة ان كل شيء مؤقت ورمادي ودارت على اساسها مجريات أحداث الرواية ولم يفلح زواجه الثاني من ايمان السمراء الجميلة الملهمة ولا السفر الى استانبول والدوران في فلك الاغتراب والعمل في معالجتها. كما ان الحالة المؤقتة التي خرج منها من تلك المشاعر الاكتئابية السلبية ونتج عنها انتصاره على مرض السرطان التي غزا جسده فجأة حينما قرر الخروج للواقع وممارسة الرياضة وتغيير نظام حياته واستبدال نظرته الاكتئابية كل ذلك لم يفلح في انجاز انتصار نهائي حاسم على الاكتئاب. ثالثا: تظل شخصية ايمان محورية في النص لدى وليد أو الكاتب ذاته نتيجة لعمق بصيرتها وحالة التسامح اللانهائي (التصالح مع الذات) التي تعيشها، ودرجتي الحيوية والنشاط التي تمنحها وقودا للنضارة الانثوية والجمال الجاذب بالاضافة الى ثقافتها اللافتة وحبها الشديد له حيث يستمد وليد الدعم والاستمرار أو قبلة الحياة الواقية له من قهر أو غدر تلك الافكار السلبية والاستغراق فيها، والواقية أيضا من استعادة الخلايا السرطانية لنشاطها سواء كانت خلايا سرطانية بيولوجية، أو السرطان النفسي. ثالثا: ان النهاية المفتوحة للرواية تتميز دلالتها برغبة كاتبها بمواربة الباب ومشاركة قارئه في وضع احتمالات عودة وليد من السفر أو لا، وهل هو سفر جغرافي مكاني كما يبدو في النص أم سفر نفسي يشي بانتصار الأفكار الاكتئابية وعدم نجاح فلسفتها في التخفف من وقع الآمها أم ربما يكون هذا سفر معنوي يشء بفقدان الأمل في ان يتغير أي شيء، هكذا اراد الكاتب ان يراقص قارئه بتلك النهاية المفتوحة. ثالثا: النص كأنه سيرة ذاتية اراد بها الكاتب ان يكشف لقراءه وللعالم رؤيته للكون /الموت/ الحياة/ الصراع بين البشر/ امنياته لبلاده في تجاوز مشكلة سد النهضة والتهديد باحتمالية عطش المصريين . بالضبط كما فعل الكاتب نجيب محفوظ في نصه احلام فترة النقاهة. وقد نجح الكاتب في مزج افكاره الفلسفية (نظرته للكون) وضخها في تفاصيل حياته بلغة سردية سلسة وعميقة في ذات الوقت، واختلاق مفارقات وعناصر جذب تشويقية للاحداث تجعل القارئ يلهث ورائها ولايستطيع ترك الرواية قبل الانتهاء منها. وهذا نجاح يحسب للكاتب المخضرم الذي يجيد بمنتهى الحنكة استخدام كافة ادواته اللغوية والفكرية في طرح نص بافكار غير تقليدية بمثل هذه السلاسة والبساطة. وفي المجمل فان رواية كائن رمادي نص يستحق القراءة والاشادة.