كنانة عيسى - روعة النص الضمني الموازي في قراءة نقدية لنص "وشاح أحمر" للأديب جمال الخطيب.. روعة النص الضمني الموازي

لا يكتب الخطيب إلا ليحصد ذائقة العوام والنخبة على حد سواء، فهو يكتب بإحساس مدو، الحبر زجاج مطحون و الكلمة رمق يجيب على الأسئلة والسرد خروج عن اللحظة وثبات دائم في كينونة الزمن.
هي قصة تتفرد بلغة خطاب متميزة، بمعيارية تبدو عامة، لكنها في الحقيقة تخلق عالمَا افتراضياَ شديد الرهبة لأنه يتسلل إليك ويجبرك على اقتنائه في حيز وعيك المفضل ، فالعناوين تمائم، والرموز خلق لحالة وعي معاصرة طازجة، و اللغة الانسيابية تتدفق باسترسال وعذوبة فلا تتعالى على متلقيها ولا تنال إلا من وجدانه بل وتصحبه في رحلته الداخلية نحو نسخته الخاصة جدًا من الحقيقة.
لا يكتب الخطيب إلا لقطيعه من الذئاب في السر. عن الحب والوطن والإنسان والفقد ثم العدو، في اتساق واحد متعدد التأويلات والرؤى كأنه يقود حربًا ابداعية تتحدى عقول قارئيه ونفوسهم.
في هذا النص الحداثي المتأجج يعيد الكاتب صياغة مفهوم عناصر القص وتجلياته، ينبثق من مفاهيم السخط على واقع الإنسان العربي الممتلئ بالفجوات ،حيث الجزء الرمز بضعة من الكل الواضح ،فمن هي فاطمة الصامتة؟ ومن هي صاحبة الوشاح الاحمر ومن هو الشيخ... ثم من أين بدأ الثقب؟ ولم ما زال يمتد؟
نص داخل نص.... وإطار يغلق إطارا آخر...واستهلال يطابق خاتمته، والرؤية في تحرك وغليان.. كل منا يرى فيها انعكاسه في المرآة أو ربما ارتطامه بواقعه ومنظوره للحياة، باحثين عن العدو الجبان المتكور في الثقوب التي تنبض في أرواحنا بصمت واستكانة.
الرمزية المتواشجة في النص الحداثي
بدأ الاستهلال بحميمة سؤال تحدد لنا الحقيقة الغائبة في شخصية فاطمة،، أهي الطاعنة أم المطعونة، أهي الوهم أم الحقيقة؟ ولماذا تستأثر بظل السارد وتسطو عليه؟ أهي الرفيقة أم العشيقة أم الحاضرة الغائبة ؟ أم هي رمز مصنوع برقة؟ خلق ليحمي السارد من ذاته المشوشة المليئة بالخيبات؟
هذه المقدمة تلهب مخيلة القارئ وتلسع فضوله وتجبره على القراءة حتى الحرف الأخير. ولا تجيب فاطمة على أسئلة السارد بل تراقبه بحنو العارف وصمت الحكيم رغم فقدانهما للغة التواصل المرئية
كما ورد في النص:
" كنا نعد لشيء أنا وأنت لكنني نسيت ما هو "
" كانت الضوضاء تصم الآذان، حاولت الاتصال بك، لكن الخط كان مقطوعا
علا صوت محرك السيارة وتحركت معه شفتاك
أنصتُ إليك ولم أفهم ما تقولين"

التبئير لضمنية الحدث
يستمد المتن استمرارية وجوده من خلال تشكل( الثقب)، وتغير ماهيته إلى فجوة، وبذلك يتصاعد الحدث
ليزيد لهفة القارئ في معرفة نتيجته وسببه ودلالاته.
إنها بداية النهاية، انها الفجوه الاعتباطية التي سببتها طعنات الغدر والخيانة ومن الأقرب إلينا، إنها الكاشفة لأقنعة من حولنا، للأعداء المتنكرين بجلود الحملان،
يغير الثقب مفهوم معرفة العدو، فهو الأقرب إليك من نفسك، هو العالِم بأسرارك، والمطّلع على أفكارك، لعله الصديق الذي نكث وعده لك، أو الحبيب الذي خانك، أو رفيق النضال الذي تلكّأ في نجدتك، أو حامل سلاحك في المعركة المحسومة ضدك، الطعنة ولا ريب طعنة خيانة و غدر، فالسارد يشعر بها بعد فوات الآوان
كما ورد في النص:
" كان الثقب مجرد وخزة لاسعة تحسستها تحت عظم القص من الخلف " .
تستمد القصة تأثيرها العميق من تنكر الحدث بحدث آخر، فظاهر النص.. رجل يعتريه الشوق لفاطمة، يتخيل حضورها الوهمي كواقع ويتشبث به في روتينيات حياته فهو يقود سيارته ويتخيلها بجانبه، ويشاهد التلفاز ويبتسم لغرباء الطرقات (الشيخ برفقة امرأة بوشاح أحمر ) ويشيع شهيدًا مهيبَا في يقظة موته، أما باطنه رمزية عميقة، تخلق للسارد حقيقة مغايرة ، فالجسد جسر افتراضي لنا كمتلقين، والروح هي من تخبرنا القصة، وما الشهيد والسارد إلا كينونة واحدة توحدتا أمام( المرأة/ الوطن) ، الأمومة الحانية ،الوطن الحي في الوجدان، هذه الرمزية التي تصاحب البطل الشهيد في لحظات انفصاله عن الحياة بما يشبه الحلم، فكأنه يلوك ببطء شديد آخر يوم له... حين يغدو الفارق بين الموت والحياة شبه معدوم وحين ترتدي الحبيبة عباءة الوطن وتعانق شهيدها للمرة الأخيرة. في وداع أشبه ببداية جديدة.
بملامحها الضبابية وصمتها وتجسدها في فقد السارد لحضورها.
يتقمص الراوي أخلاقيات سارده و سلوكياته ومعانيه بخلل متقصد يبدو للعلن تسلسلًا منطقيا للأحداث
لكنه في الحقيقة، قصة تتنكر في قصة أخرى، ساتر شفاف يغلف هوية الحقيقة، العائمة بين عالمين يندمجان في شخصية الراوي/ الشهيد، السارد المراقب للرؤية، العاشق /الفاقد، المغدور /الشجاع، حامل الثقب والمندمج في فجوته، والمترفع عن ألمه
الإنسان العربي المثقل بهزائمه وخيباته وانكساراته وندباته.
كما ورد في النص :
" لا لم يكن كل هذا، ما كان حقيقة هو تلك الوخزة اللاسعة تحت عظم القص من الخلف، هذا ما أحسست به فقط

النهاية بين الدال والمدلول والعنوان
ينتهي النص حيث بدأ ، يغلق نفسه عل نفسه بدلالة تفاؤل ثوري رمزي وأخلاقي تختلف عن الاستهلال، فيعود الحديث الحميمي للمرأة الرمز،فاطمة الصامتة بملامحها الضبابية التي لا تمل من الإصغاء، لن تستطيع غربة الوجوه المبتسمة تخبئة نواياها، الشيخ الطيب قد يكون عدوك، المرأة الجميلة قد تطعنك من الخلف، (الوشاح الأحمر) هو البندقية الناعمة التي ستطلق الرصاصات الأربع ليغدو الثقب فجوة لا تتسع لنزيف الروح ولجنازة شهيد مغادر ما زال يودع يومه الأخير، العدو قد يبتسم لك، قد يقترب منك و يحيط بك، ، يدرك موطئ ضعفك، لكنه لن يهزمك حتى في إشراقات الموت وتجلياته. إلا إن كان متنكرًا بثوب محبتك اللصيقة.
في النهاية، يتكوم ( البطل السارد / الشهيد ويصحو في النعش أيضا ) ليخلق من جديد ، فالشهداء لا يموتون ..وتظل الفجوة، فالقضية لم تنته بعد.
إبداع... يتفوق على نفسه.



وشاح أحمر ..بقلم : جمال الخطيب
قصة قصيرة .

هل تعلمين يا فاطمة ..العدو لا يقوى على قتلنا ، الذي يقتلنا هو من كان برفقتنا .
كان الثقب مجرد وخزة لاسعة تحسستها تحت عظم القص من الخلف، وعندما وضعت يدي في الأمام اتسعت وأصبحت حفرة ، دفعت أصابعي فيها حتى المنتصف، التفتُ إليك ..كانت ملامحك ضبابية، ولم تكن تتحرك ، ادهشني ذلك .
‏ علا صوت محرك السيارة وتحركت معه شفتاك ، كنتِ بجانبي دوما في مثل هذا الوقت من الصباح، أنصتُ إليك ولم أفهم ما تقولين .
‏لم آبه للأمر ، عدلت المقود وانعطفت إلى اليسار ، انزلتك هناك كالمعتاد .
‏ركنت السيارة وترجلت منها، كانت الحفرة قد اتسعت، أدخلت أصابعي مرة أخرى وتأكدت من ذلك ثم أخفيتها تحت سترتي .
‏ عدت في المساء ، رفعت السماعة واتصلت بكِ، كنتٍ تخفين شيئا، لكني كنت أحس به، بدا هذا في صوتك، فأغلقت الهاتف .
‏ قلبت محطات التلفاز، استوقفني مشهد جندي يطلق اربع رصاصات على شاب تكوم على الرصيف، وكان هناك أغنية ، ومباراة كرة قدم .
‏ اطفأت التلفاز وعدت للاتصال بك ، كان خطك مشغولا ،
‏كررت الاتصال اكثر من مرة ، اعتقدتُ أن شيئا ما قد حدث .
‏ أخذتني غفوة ظننت أنها قصيرة، مر بي رجل عجوز وامرأة شابة ابتسمت عندما رأتني ، كانت تضع وشاحا أحمر، مد يده وأخرج شيئا من جيبه، خيل لي أنها انت، أضحكني الأمر .
‏نهضت قبيل الضوء، صليت الفجر ، تحسست الحفرة، كانت هناك
‏ غادرت المنزل على عجل، ثمة شاب قتل عند الفجر شاركت في تشييعه ، بدا وسيما، لوحت له، فابتسم، صرخ بشيء ما، حاولت التقاط كلماته، ثم اتسعت ابتسامته وضج بالضحك، كانت الضوضاء تصم الآذان، حاولت الاتصال بك، لكن الخط كان مقطوعا .
‏ كنا نعد لشيء انا وأنت لكنني نسيت ما هو، هطل مطر غزير بلل وجهي، بحثت عن علبة السجائر في جيب سترتي فاصطدمت أصابعي بالحفرة تحت الخاصرة، فعدلتُ عن ذلك .
‏ اختلط الأمر علي حقيقة ، تكومتُ على الرصيف، سمعت صوت أربع رصاصات قبيل الضوء بعدما صليت الفجر ، حاولتُ أن أقول شيئا في ذلك التشييع، لكن الضوضاء كانت تصم الآذان .
‏لا لم يكن كل هذا، ما كان حقيقة هو تلك الوخزة اللاسعة تحت عظم القص من الخلف، هذا ما أحسست به فقط.
‏ ألم أقل لك يا فاطمة أن العدو لا يقوى على قتلنا !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى