عبير سليمان عبدالمالك - قراءة في رواية "زوربا" للأديب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس

عمل أدبي مدهش .. يجذب الانتباه . أغرقني في حالة من البهجة والنشوة ، كل حواسي تيقظت تتلهف للمزيد من دروس هذا الرجل المثير للإعجاب زوربا
تدور الرواية عن لقاء بالصدفة جمع بين الراوي و الرجل العجوز ذي الروح الشابة المتوهجة ، والضحكة الانفجارية الصاخبة "أليكسيس زوربا" ، يتعرف فيه الراوي - الشاب الذي في مقتبل حياته - على فلسفة رفيق رحلته في الحياة والحب ، والجمال والسعادة ، وكيف ينتصر الإنسان على ألمه ويبقى حياً يخرج لسانه في وجه الموت ولا يهابه.
رواية غنية جدا ، رغم صغر حجمها إلا أنها تحتاج تركيزا ، لما تحتوي عليه من غوص في عمق حقائق كثيرة في حياتنا ، نتعامى عنها إما عن عمى متعمد أو غفلة .
الحوار بين الراوي و زوربا صديقه العجوز رائع وثري ، فالأخير
رغم سنه يقاوم أي إحباط أو فشل تجربة ما بالرقص ، يعبر بخفته ورشاقة حركاته وموسيقاه عن مشاعره ببراعة ، الوصف هنا وروعة التشبيه يجعلك ترى صورة تتحرك أمامك تتفاعل معها بكل جوارحك .
مدرسة الحياة التي تخرج منها البطل زوربا جعلته يرى عناصر الحياة والمشاعر والمرأة بشكل مجرد ومركز ، وببساطة أو ربما بجرأة مفرطة ، أي دون مراوغة أو التفاف .
نجده مثلاً يلخص فلسفته في هذه الجمل الحوارية البديعة :"إن في أعماقي شيطاناً يوسوس لي فأطيعه ، وكل ما غلبني التأثر والانفعال قال لي : ارقص فأرقص وأصبح أحسن حالاً .. وعندما مات ولدي الصغير ديمتري في عمر ثلاث سنوات ، رقصت أمام الجثة فهجموا عليا ليمنعوني وصاحوا لقد جُنَّ زوربا "
"إن قلبي مثل أشرعة السُّفن وما فيها من رقع حمراء وصفراء وسوداء لا تمزقها العواصف والأعاصير ، إنه كمثل هذه الأشرعة مليء بالثقوب والرُّقَع وليس هناك ما يُخشى عليه منه "
" إن المرأة مخلوق غير مفهوم وقد أساءت إليها الشرائع الدينية والدنيوية ، ولو كان الأمر بيدي لما أخضعت الرجال والنساء لنفس القوانين ، إن الرجل يستطيع مواجهة ما يُفرَض عليه من قيود، أما المرأة فمخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة .. لنسأل الله أن يهبنا نحن الرجال مزيداً من العقل"
أما عن مغامرته العاطفية الشيقة مع السيدة بوبولينا فهي حدوتة فعلا ظريفة رغم نهايتها الحزينة ، فالسيدة العجوز التي تكبره سناً عشقته ورغبت في الزواج منه وكانت تتزين في انتظاره ليأتيها بثوب الزفاف ، وعنها فقد حدث صديقه الراوي قائلاً:
"إن الدنيا بغي مثل بوبولينا ، هي عجوز لكن مفاتنها ، وهي تعرف طريقة أو طريقتين لكي تشدك إليها ، ستشعر وأنت معها في الظلام أنها صبية في العشرين ، هل تعلم لماذا ؟ لإنها تنسى بسرعة ، ولا يمكن أن تذكر أحداً من عشاقها القدامى . وحين تكون معها يحمر وجهها خجلاً وتضطرب كما لو كانت ترى رجلاً لأول مرة في حياتها .. إن المرأة لغز غامض وحتى لو سقطت ألف مرة ، فإنها تنهض ألف مرة عذراء .. ولعلها تسأل : ولكن كيف يحدث ذلك ؟ والجواب هو : لأنها لا تتذكر ".
وقد لخص الراوي الدرس الذي تعلمه من زوربا :"قلت لنفسي هذه هي السعادة الحقيقية أن يعيش الإنسان بلا مطامع ويعمل ويكد كأن له ألف مطمع وأن يحب الناس ويعمل لخيرهم دون أن يكون في حاجة إليهم وأن يأكل ويشرب ويشترك في أعياد الميلاد دون أن يتورط في المتاعب أو يقع في الفخاخ .. وأن يسير على الشاطيء والنجوم فوقه ، والبحر إلى يمينه والأرض إلى يساره وأن يشعر بأن الحياة قد أنجزت معجزتها الكبرى فصارت قصة من وحي الخيال .
قصة الأرملة التي أغوت الراوي أيضا احتوت في طياتها العديد من المعاني ، والمجتمعات الصغيرة مثل مجتمع هذه القرية لا يمكن أن يغفر خطيئة امرأة تسببت في إغواء العديد من شباب القرية مما دفع أحدهم للانتحار غرقاً ، وهو نفس المجتمع الذي يتغافل عن خطايا القساوسة ورجال الدين ويغض الطرف عن الانحرافات الأقل خطراً !
لكن ترى كيف وصف الراوي الحقيقي ، كازانتزاكيس" تجربة لقائه بزوربا :
" لو أن سؤال العمر كان مطروحا أمامي حول اختيار دليل روحي أو أب لا شك أني كنت سأختار زوربا ، كانت لديه نظرة أولية تساعده على أن يرى كل شيء باستمرار وكأنه يراه للمرة الأولى .وأن يمنح العذرية للعناصر اليومية الأبدية : الهواء والبحر والنار والمرأة والخبز ، كما كان يتمتع بيد واثقة وبقلب طازج وعذب" .
ويصف أيضا في سيرته ال>اتية كيف فُجع بخبر موته .
"بموته ، رحت أتمتم لنفسي "راح زوربا ، ماتت الضحكة وانقطعت الأغنية وتحطم السانتير ، توقفت الرقصة على حصى الشاطيء ولن توجد أبدا بعد اليوم يد تلاطف الحجارة والبحر والخبز والنساء ، لقد اعتقدت أنه خالد ، فلم أقلق عندما غابت عني أخباره لشهور عديدة " .
" في تلك الليلة ظللت أفكر ، ماذا أفعل لأطرد موته مني؟ وانفتح الباب في أعماقي وبدأت الذكريات تدعوني أن أجمع زوربا من التراب والبحر والهواء ولأعيده للحياة "
" ألم يخلق الله القلب ليبعث الأعزاء للحياة من جديد ؟ لا شك أن قلب الإنسان عميق ومغلق ومليء بالدم ، لكنه حين ينفتح تهجم عليه الظلال التي لم تجد عزاءها ، ويهجم كل ظل في النفس لكي يشرب وينتعش ويُبعث من جديد . وتزداد كثافتها حولنا حتى يسود الهواء . لماذا تتراكض للشرب من دماء القلوب ؟ لأنها تدرك أن هذا هو بعثها الوحيد ولا قيامة إلا فيه. في ذلك اليوم كان زوربا يركض أمام الجميع دافعا بالظلال الأخرى وهو يبعدها ، لأنه كان يعرف أنني أحبه أكثر من أولئك الذين أحببتهم كلهم ".
انتهيت منها وأنا أشعر بحالة من التشبع الروحي والمتعة والبهجة .

عبير سليمان
ديسمبر 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى