حضرة الكاتب الكبير إدريس الخوري
سلام عليك وأنت تنتبذ ركنا ركينا في ملكوتك العلوي، ترنو لكائناتك من بين دخان سيجارتك، وجلجلة ضحكتك الخشنة تملأ المدى صخبا وحيوية، وكأني بك تضحك راضيا منبسطا من نزقهم، وشغبهم، ورعونتهم، وتشفق من حالهم المزري، وتبرمهم من شظف العيش، ومن الورطة التي وضعتهم فيها، "مجرد أقزام بشرية تجري كالنمل الزاحف" يسبحون بحمد ناسوتك، مزيج من كل الفئات العمرية، تمرغهم في ديستوبيا الواقع، وتحشرهم رغم أنوفهم مع المتشردين، واللصوص، والمفسدين، والخريجين الجامعيين بلا فرص عمل، والرضع بدون حليب، والاطفال بلا كراس للدراسة، والمعلولين بلا أسرة في المستشفيات، تسلقهم بسلاطة شائعاتك، ووساوسك، تختار لهم ما اتفق من المهن الوضيعة، وتطعمهم ما تيسر من الخبز اليابس، تستبطن سريرتهم بحدسك الذي لا يخطئ.. وتمرغهم في أسن الفقر، والخوف، والهم، والأسى من واقع مرير مرارة هذا الكون البائس، لأن (الجاه و الحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية. لست حاقدا ولكني حزين. حزين علي نفسي وعلي الملايين.) كما يقول نجيب محفوظ
بادريس سليل الأفراح والمسرات المرجأة
يحلو لي أن أخاطبك وأنت في عالمك الدازايني، غير آبه بالمجد والشهرة، والثروة، والجاه، ولا يالوشايات الكاذبة والمتربصة بك، تأنس لمخلوقاتك البسيطة، تحاورها وتسامرها. تسبغ عليها جنسيتها المغربية، تغدق عليها من صدى مواويل التروبادور، وتكلمها بلغتها العروبية الفظة و"الحرشة" المشتقة من "تمغربيت" التي لا تعرف التدليس والمداهنة، والنفاق، والتكلف، لهجة دكالية من معين الواقعية الاشتراكية، تنتشلها من بئر الحرمان والقهر، ومن خراب الاستلاب اللغوي والنفسي والطبقي والاجتماعي الذي يحيد الكائن ويدمر وجوده، تناصرها في محنها، وتختار لها قدرها الحتمي. وترمم واقعها وتقوم اعوجاجها بما استطعت من بلاغة اللغة والاليغوريا، وأنت توفر بالكاد ثمن كأس للوقت الفائض، وتتقي شرور محيطك، الذين تنكروا لك وعضوا اليد التي مدت اليهم، فاصبر وصابر، فمهما حاولت "لن تصبح قديسا على حساب خطايا الاخرين" بحد قول أنطون تشيخوف
إدريس الخوري.. أيها المنذور للخسارات
أتذكر تلك اللحظاات الجميلة التي كنت أقضيها مع أبطالك المعمدين بالطيبة والبساطة، والعفوية، والقدرية، أسهر معهم، أتسلى بمنظرهم واحوالهم وتحولاتهم وهم يتعاركون من أجل لقمة عيش حافية، أو امتطاء حافلات النقل العمومي محاذرين ان لا تسرق حاجياتهم، وقد أسبغت عليهم نعوتا من قاع قاموسك الفاحش، ولهجتك الشرسة، ومزاحك السيء
وأذكر أيضا أني لمحتك في ذلك الزمن البعيد الذي كانت فيه "لوي جونتي" قلعة للفكر اليساري الثوري، وأبناؤها في غاية التنوير واليقظة، قبل ان تجرفهم رياح الفكر الوهابي والسلفية الجهادية بإيعاز من المخزن، وانت تكرع كؤوس الييرة رفقة محمد زفزاف وتلة من الآخرين، على مشرب نادي المستخدمين لتعمد باسمها واحدا من كتبك (مدينة التراب)، ويعود منها محمد زفزاف بقصة (مهمة صحفية) نشرت بمجلة العربي، ثم تولم "ثعلبا" من ثعالب زفزاف، نزولا عند طلبك وشهيتك، في ضيافة استثنائية عند أولاد احمر
بادريس يا ابن علال الكص
هناك شخوص يصنعون كتابهم مثل دون كيشوت، وجاك القدري، وزوربا الاغريقي، وغاتسبي العظيم، وجان فالجان، وأورليانو بوينديا، وكاليغولا، والاخوة كارامازف، وآنا كارينين، وتاراس بولبا، لكنك أنت خلقت شخصياتك، التي ولدت معك في السنة نفسها التي بدأت فيها الحرب العالمية الثانية، وكانك مرهون للمعارك والحروب، والخراب والعنف والعناد، ودشنت لجيل قصصي مغربي ثائر ومتمرد، وأرسلتها تجوس وسط ليل مدينتك الغول.. التي تأبى أن تفارقك، وخبرتك وشوما وقهقهات وخيبات وصعلكات، وعربدات، وسكنتك بمنعرجاتها وحواريها ودروبها، ومقاهيها، وحاناتها التي ضاقت عن فضائها وراحت تبحث لها عن أمكنة قصية من إسمنت بارد بلا قلب، ولا روح ولا دفء، ولا رأفة ولا حنان ولا تآلف فيها.. فثرت على القبيلة والعشيرة والعائلة، والأهل، والأسرة والاسم، والنسب لتختار لك اسما حركيا مسيحيا نكاية في نفاق ذوي القربى، واصبحت كاتبا من (جيل بلا أساتذة)، كما صنفه الراحل محمد حافظ رجب، نكاية في الجيل البالي، للهروب من الرتابة والملل وصداع الرأس، لأن "النسبُ أمرُ وهميٌّ، لا حقيقةَ له، وإنّ الصريح من النسب، إنما يوجد للمتوحّشين في القفر من العرب (الأعراب)، ومَنْ في معناهم) كما يقول العلامة ابن خلدون
إدريس الخوري أيها التعيس
لعل ذاكرة الثقافة المغربية ضيقة جدا، وواهية كبيت العنكبوت، وهي تنسج غزلها على نول النكران والجحود تجاه عظمائها، وأعلامها وكتابها الراحلين.. إذ لا يكاد المرء أن يختفي حتى يسقط من الذاكرة، ويطويه النسيان ويلفه الصمت، وسط ضجيج المواقع ولغط المنتديات وغرور الفتوحات الوهمية التي لا تتجاوز حدود نرجسية أصحابها، في أعتى واشرس ظاهرة لا ترى الا نفسها في مرآة هذا العالم الكئيب الذي ينبئ بزوال المفاهيم، والتفكير العميق، وهيمنة الرداءة والسطحية والتفاهة، بحسب "ألن دونو" في تخرصاته الموجعة
حضرة إدريس الخوري.. مؤرخ الطبقات الشعبية ومدون أوجاعها
ان مستقبل البلدان يبدأ من عقولها، لكن مستقبل بلادنا يبدأ من الأسفل الأسفل (الكرة والرقص)، وقد غاب البحث العلمي، وغاب الفن، وغاب الأدب، وغاب الفكر، وغاب المسرح، وغابت السينما، وغابت السياسة، وغادر الشعراء من متردم، وتحول اعلامنا الى قنوات للتهريج والترويج للميوعة، ورحل اطباؤنا وأطرنا العليا الى ممارسة الفن الهابط وهز الارداف، غير مبالين لما ينتظر البلد من دمار تاريخي وشامل
(آه ، إن دائرتنا تتخلخل ساعة بعد ساعة، بعضنا يرقد في القبر، وبعضنا يعانى اليتم بعيدا، القدر يتأمل ونحن نذبل والأيام تركض، إننا نزداد انحناء وتسرى البرودة فينا، ونقترب من بدايتنا من دون أن نشعر)
بوشكين - التاسع عشر من أكتوبر -
نقوس المهدي / اليوسفية
سلام عليك وأنت تنتبذ ركنا ركينا في ملكوتك العلوي، ترنو لكائناتك من بين دخان سيجارتك، وجلجلة ضحكتك الخشنة تملأ المدى صخبا وحيوية، وكأني بك تضحك راضيا منبسطا من نزقهم، وشغبهم، ورعونتهم، وتشفق من حالهم المزري، وتبرمهم من شظف العيش، ومن الورطة التي وضعتهم فيها، "مجرد أقزام بشرية تجري كالنمل الزاحف" يسبحون بحمد ناسوتك، مزيج من كل الفئات العمرية، تمرغهم في ديستوبيا الواقع، وتحشرهم رغم أنوفهم مع المتشردين، واللصوص، والمفسدين، والخريجين الجامعيين بلا فرص عمل، والرضع بدون حليب، والاطفال بلا كراس للدراسة، والمعلولين بلا أسرة في المستشفيات، تسلقهم بسلاطة شائعاتك، ووساوسك، تختار لهم ما اتفق من المهن الوضيعة، وتطعمهم ما تيسر من الخبز اليابس، تستبطن سريرتهم بحدسك الذي لا يخطئ.. وتمرغهم في أسن الفقر، والخوف، والهم، والأسى من واقع مرير مرارة هذا الكون البائس، لأن (الجاه و الحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية. لست حاقدا ولكني حزين. حزين علي نفسي وعلي الملايين.) كما يقول نجيب محفوظ
بادريس سليل الأفراح والمسرات المرجأة
يحلو لي أن أخاطبك وأنت في عالمك الدازايني، غير آبه بالمجد والشهرة، والثروة، والجاه، ولا يالوشايات الكاذبة والمتربصة بك، تأنس لمخلوقاتك البسيطة، تحاورها وتسامرها. تسبغ عليها جنسيتها المغربية، تغدق عليها من صدى مواويل التروبادور، وتكلمها بلغتها العروبية الفظة و"الحرشة" المشتقة من "تمغربيت" التي لا تعرف التدليس والمداهنة، والنفاق، والتكلف، لهجة دكالية من معين الواقعية الاشتراكية، تنتشلها من بئر الحرمان والقهر، ومن خراب الاستلاب اللغوي والنفسي والطبقي والاجتماعي الذي يحيد الكائن ويدمر وجوده، تناصرها في محنها، وتختار لها قدرها الحتمي. وترمم واقعها وتقوم اعوجاجها بما استطعت من بلاغة اللغة والاليغوريا، وأنت توفر بالكاد ثمن كأس للوقت الفائض، وتتقي شرور محيطك، الذين تنكروا لك وعضوا اليد التي مدت اليهم، فاصبر وصابر، فمهما حاولت "لن تصبح قديسا على حساب خطايا الاخرين" بحد قول أنطون تشيخوف
إدريس الخوري.. أيها المنذور للخسارات
أتذكر تلك اللحظاات الجميلة التي كنت أقضيها مع أبطالك المعمدين بالطيبة والبساطة، والعفوية، والقدرية، أسهر معهم، أتسلى بمنظرهم واحوالهم وتحولاتهم وهم يتعاركون من أجل لقمة عيش حافية، أو امتطاء حافلات النقل العمومي محاذرين ان لا تسرق حاجياتهم، وقد أسبغت عليهم نعوتا من قاع قاموسك الفاحش، ولهجتك الشرسة، ومزاحك السيء
وأذكر أيضا أني لمحتك في ذلك الزمن البعيد الذي كانت فيه "لوي جونتي" قلعة للفكر اليساري الثوري، وأبناؤها في غاية التنوير واليقظة، قبل ان تجرفهم رياح الفكر الوهابي والسلفية الجهادية بإيعاز من المخزن، وانت تكرع كؤوس الييرة رفقة محمد زفزاف وتلة من الآخرين، على مشرب نادي المستخدمين لتعمد باسمها واحدا من كتبك (مدينة التراب)، ويعود منها محمد زفزاف بقصة (مهمة صحفية) نشرت بمجلة العربي، ثم تولم "ثعلبا" من ثعالب زفزاف، نزولا عند طلبك وشهيتك، في ضيافة استثنائية عند أولاد احمر
بادريس يا ابن علال الكص
هناك شخوص يصنعون كتابهم مثل دون كيشوت، وجاك القدري، وزوربا الاغريقي، وغاتسبي العظيم، وجان فالجان، وأورليانو بوينديا، وكاليغولا، والاخوة كارامازف، وآنا كارينين، وتاراس بولبا، لكنك أنت خلقت شخصياتك، التي ولدت معك في السنة نفسها التي بدأت فيها الحرب العالمية الثانية، وكانك مرهون للمعارك والحروب، والخراب والعنف والعناد، ودشنت لجيل قصصي مغربي ثائر ومتمرد، وأرسلتها تجوس وسط ليل مدينتك الغول.. التي تأبى أن تفارقك، وخبرتك وشوما وقهقهات وخيبات وصعلكات، وعربدات، وسكنتك بمنعرجاتها وحواريها ودروبها، ومقاهيها، وحاناتها التي ضاقت عن فضائها وراحت تبحث لها عن أمكنة قصية من إسمنت بارد بلا قلب، ولا روح ولا دفء، ولا رأفة ولا حنان ولا تآلف فيها.. فثرت على القبيلة والعشيرة والعائلة، والأهل، والأسرة والاسم، والنسب لتختار لك اسما حركيا مسيحيا نكاية في نفاق ذوي القربى، واصبحت كاتبا من (جيل بلا أساتذة)، كما صنفه الراحل محمد حافظ رجب، نكاية في الجيل البالي، للهروب من الرتابة والملل وصداع الرأس، لأن "النسبُ أمرُ وهميٌّ، لا حقيقةَ له، وإنّ الصريح من النسب، إنما يوجد للمتوحّشين في القفر من العرب (الأعراب)، ومَنْ في معناهم) كما يقول العلامة ابن خلدون
إدريس الخوري أيها التعيس
لعل ذاكرة الثقافة المغربية ضيقة جدا، وواهية كبيت العنكبوت، وهي تنسج غزلها على نول النكران والجحود تجاه عظمائها، وأعلامها وكتابها الراحلين.. إذ لا يكاد المرء أن يختفي حتى يسقط من الذاكرة، ويطويه النسيان ويلفه الصمت، وسط ضجيج المواقع ولغط المنتديات وغرور الفتوحات الوهمية التي لا تتجاوز حدود نرجسية أصحابها، في أعتى واشرس ظاهرة لا ترى الا نفسها في مرآة هذا العالم الكئيب الذي ينبئ بزوال المفاهيم، والتفكير العميق، وهيمنة الرداءة والسطحية والتفاهة، بحسب "ألن دونو" في تخرصاته الموجعة
حضرة إدريس الخوري.. مؤرخ الطبقات الشعبية ومدون أوجاعها
ان مستقبل البلدان يبدأ من عقولها، لكن مستقبل بلادنا يبدأ من الأسفل الأسفل (الكرة والرقص)، وقد غاب البحث العلمي، وغاب الفن، وغاب الأدب، وغاب الفكر، وغاب المسرح، وغابت السينما، وغابت السياسة، وغادر الشعراء من متردم، وتحول اعلامنا الى قنوات للتهريج والترويج للميوعة، ورحل اطباؤنا وأطرنا العليا الى ممارسة الفن الهابط وهز الارداف، غير مبالين لما ينتظر البلد من دمار تاريخي وشامل
(آه ، إن دائرتنا تتخلخل ساعة بعد ساعة، بعضنا يرقد في القبر، وبعضنا يعانى اليتم بعيدا، القدر يتأمل ونحن نذبل والأيام تركض، إننا نزداد انحناء وتسرى البرودة فينا، ونقترب من بدايتنا من دون أن نشعر)
بوشكين - التاسع عشر من أكتوبر -
نقوس المهدي / اليوسفية