د. علي زين العابدين الحسيني - النجاح المكلِّف

لا ينقضي عجبي مِن صاحب الطموح، فهو يريد أن يصل لأهدافه في وقت قصير؛ ظناً منه أنّ وصوله للتميز هو آخر مراحل حياته التي سيسعد بعدها، فلا يشقى أبداً، لكن يغيب عليه أنّ أغلب النجاحات يصل إليها الشخص بعد قدرٍ كبيرٍ من الجهد، وبالتالي لا يصل إلّا منهكاً متعباً من طُول الطريق ومواصلة السير، فلا يشعر وقتئذٍ بروح السعادة التي كان ينتظرها ويرجوها. يقف المرء مبهوتاً حائراً كلما علم أن شخصاً كان بالأمس مجهولًا، لا يمتلك أيّ سبب من أسباب النجاح، ثم بعد مصابرته ومثابرته بدأ يخطو نحوه خطوات ثابتة، فأحرز المزيد من التقدم، وصار علماً يشار إليه في تخصصه ومعارفه، كان من المفترض حينئذٍ أن يستنهض هذا النجاح سعادة وفرح الجميع خصوصاً أصدقاءه وعارفيه، وأضعفُ الإيمان أن يكون محل ثناء وتقدير من الجميع، ويدفع نجاحه ببعض الرّغاب إلى اتخاذه قدوة لهم، لكن عادة ما تكون النتيجة على خلاف المتوقع، فيبدو المجتمع بعد نجاحه كأنّه في معزل عنه، يتجاهل كثير من الناس إنجازاته، ولا يقف الأمر على مجرد التجاهل به، بل يتحول الناس شيئاً فشيئاً إلى أعداء لِدَاد، وتُظهر كثيرٌ من الشخصيات وجهها المعادي لهذا الرجل، وإنّه لمن الخطل في الرأي -من وجهة نظري- أن ينتظر الناجح تحصيل الإشادة من أحد، أو طلب الثناء من غيره، أيضاً يكاد تكون من صفاتنا المستقبحة أننا أناس لا نساعد أحداً على نجاحه، نعم قد نتحمس في البداية لشخصٍ، لكن سرعان ما تتحول هذه النظرة بعد دخوله طريق النجاح، أو عده من فئة المتميزين، لا أجد تفسيراً معيناً لهذه الظاهرة، هل ترجع للحالة النفسية، أم الغيرة المهنية، لكنّي على أية حال لا أتخيل إنساناً سويّ النفس رضي الطبع يكره أن تنجح الأعمال ولو كان نجاحها على يد عدوه، ولطالما كنتُ أعجبُ للحماسة التي يبديها البعض حين ولوغ شخص ناجح أولّ طريق الإنجاز، لأنّ هذه الحماسة تتبدد مع مرور الوقت، وربما قوبلت بعداوة شديدة، نعم قد تكون العداوة مخفية لا تظهر في حديث أو موقف، لكنّ الرجل البصير بنفوس الناس يَعرف من ثنايا الكلام وما يكون في لمحات الوجه ما تخفيه القلوب، ومن أشدّ الآفات التي تلحق بالناجح تغير حاله في عيون أصحابه، والغالب أنّه لا يستطيع الكثير منهم أن يعود إلى ألفتهم السابقة معه، فالحاقد منهم يرمقه بنظرة حسدٍ، والمحب يرمقه بنظرة إعجاب تستدعي حسرة، وفي الحالتين يكفّ الجميع عن اعتباره واحداً من صحبتهم القديمة، وهكذا الأمر فكلما زاد نجاح الشخص زاد بُعد وجفاء أصحابه معه، فيخيل لكثير من الناجحين بعد وصولهم أعلى المراتب أن نجاحهم بات مكلفاً لهم، حيث يفسد النجاح المودة مع كثير من الأصدقاء والأقارب، ومن أقبح أنواع الحسد العصري ما يُعرف بالحسد المِهني، وهو من الأمراض الخطيرة التي تلحق بالسلك الإبداعي؛ لأنه يَقضي على كلّ تميز، ويَمنع من النهوض بأيّ منجز معرفي، ومع وُجوده تَتحول الأعمال لأمور شكلية، ويَضعف الانتماء، وتقلّ الرغبة فيه، وتَكثُر الشكاوَى حوله، وقد أَثبتت التجارب أنّ كلّ ناجحٍ مميزٍ يُحارب، وصاحبَ الطُموح يُستهدف إلا أنّه من المؤكد أن الناجح لن يستسلم، وسيواصل نشاطه بجد واجتهاد، ولن يعبأ بمن يترصد به، أو يخفي إنجازاته، والحاسد -مهما فعلتَ- قد جُبل على إنكار كلّ نجاح، ففي أي عملٍ كلما ازداد الناجحُ عطاءً وطموحاً كثر حساده، وما دُمتَ في السلك الإبداعي فستجد مَن يزيدك تحطيماً وتهميشاً وانتقاداً. فيا أيها الذين تألموا في ظلمة الأيام إنّ من أسرار تميزكم أن تكون فيكم القوى الداخلية التي تجعلكم مصرين على مواصلة طريقكم، وتمنعكم من التنازل عن أهدافكم مهما يخذلكم الأقرباء أو الأصدقاء، فابحثوا عن سبل دعمكم، ولا تنتظروا أن تأتيكم، ولا تطمعوا من غيركم أن يدفعكم للمعالي، بل كونوا دافعين لأنفسكم نحوها بتمسككم، فدافعيتكم ذاتية منكم وإليكم، تشبثوا بالصبر في سيركم، ولا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون بأعمالكم، ولا عيب في التميز إلا أنّه تتوجه الأعين والألسنة الكثيرة لأربابه!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
جريدة المشهد، الشكر والتقدير لأسرة التحرير الموقرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى