أمل الكردفاني - ضرورة إعادة النظر في العفو بمقابل عن القصاص في الفقه الإسلامي

في إحدى قضايا القتل العمد سأل القاضي أولياء دم القتيلة واحداً واحداً:
الدية ولا القصاص؟
وكان كل واحد يجيب: القصاص..
القصاص..
القصاص..
خرجتُ من المحكمة وأنا أشعر بأن هناك خطأ ما في كل ذلك المشهد.. وأنه يجب إعادة ترتيب الصورة من جديد..
كتبت في ذلك الوقت انتقاداً لفكرة المال كبديل للقصاص.. بالرغم من أنها حكم شرعي. فالمقابل يخالف أحد أهم قواعد العقاب، وهو أنه يجب أن لا يخضع تقدير الجرعة العقابية لا للجاني ولا للمجني عليه ولا لأولياء هذا الأخير. بل أن تقدير العقوبة يجب أن يكون من محض سلطات الدولة، لكن الأهم من هذا كله هو أن التخيير بين الإعدام أو المال يفضي إلى التمييز بين الأغنياء والفقراء، بل والأخطر من ذلك، هو أنه يمنح الأغنياء ذلك الارتياح النفسي لو قاموا بارتكاب جريمة القتل، لأن هناك نسبة مقدرة من إغراء أولياء الدم بالمال ليفلتوا من العقاب، في حين أن الفقراء لا يملكون ذات ذلك الارتياح، بغض النظر عن نسبته. والأخطر انه لو اشترك اثنان في قتل شخص وكان احد القاتلين غنياً والآخر فقيراً قد يفلت الغني لأنه يستطيع تقديم مقابل للعفو، ويتم شنق الفقير لأنه لا يملك دفع ذلك المقابل.. أي مهزلة أكبر من هذا وأي سخرية من المساواة والعدالة تلك.
إن أخطر شعور يمكن أن يكتنف أفراد المجتمع هو وجود احتمالية للإفلات من طائلة القانون، سواء لسند قبلي أو نفوذ سياسي، أو ثراء مالي. ليس فقط لأن ذلك سيزيد من عدد الجرائم المقترفة بالفعل، ولكن لأنه سيدفع باقي أفراد المجتمع للحصول على ذات الميزة مما يجعله مجتمعاً فاسداً جداً.
لذلك فكرت بحثاً عن إجابة حول مسألة سقوط القصاص بمقابل.. وهل الشريعة الإسلامية فيها خطأ؟
دعنا نقول بأن الإسلام ساوى بين الناس أمام القانون بقدر ما كانت تسمح به الخصائص الاقتصادية والسياسية والثقافية لمجتمع ذلك الزمان فلو أن "فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها". ولذلك فلم نجد استنكاراً للفقهاء المسلمين في ذلك الزمان، وأعتقد أننا هنا يجب أن نبحث عن سبب إتاحة إسقاط القصاص بمقابل وفق خصائص ذلك المجتمع القديم. ومن أهم خصائصه هو القبلية والبداوة. وأعتقد أنه يجب على الدولة أن تنظر لمسألة العفو بمقابل والدية والقصاص من ذلك الواقع التاريخي، وتفهم أن العفو بمقابل كان يحقن دماء القبائل، في حين أن القصاص كان ليشعل نيران الفتنة بينها أكثر وأكثر، بالإضافة إلى أن الاقتتال الجماعي كان يفرض تطبيق معالجات خلافاً للقصاص وإلا تحولت العدالة إلى مجزرة، ومن أهم تلك المعالجات جاءت الدية. فمائة من الإبل إضافة معتبرة للقبيلة، وحتى اليوم سنجد أن القبائل البدوية تعتبر الناقة أكثر أهمية من البشر لأنها تعبر عن قوة القبيلة الاقتصادية ومكانتها. فأغلب الحروب كانت تقع لأن أحداً من قبيلة قتل ناقة أو جملاً لقبيلة أخرى. فالماشية في ذلك الزمان أكبر قيمة حتى من الإنسان. لذلك فمائة من الإبل تعويض عادل جداً ويحقن الدماء ويساعد على عدالة تصالحية.
لكن هذا لا يتحقق في المجتمعات المدنية. فأغراض العقوبة لن تتحقق عندما يكون للأثرياء طريق آخر لإغراء أولياء دم القتيل بملايين الدولارات مثلاً. في حين لا يملك الفقراء ذات ذلك الطريق.
فأغراض العقوبة هي تحقيق الردع العام، وذلك بأن نجعل اختيار الجريمة خياراً صعباً لأن اللذة التي تحدث منها أقل بكثير من الألم الذي سيتعرض له مقترفها. كذلك من أغراض العقاب هو إشباع الشعور العام بالعدالة، وهذا ما لا يتحقق لو أن العدالة انتقائية وطبقية، بحيث تتيح للأغنياء ما لا تتيحه للفقراء. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم المساواة امام القانون بسبب الغنى امرٌ تأباه النفوس النزيهة، فضلاً عن مخالفته للأعراف الدستورية.
لذلك أرى، والله تعالى أعلى وأعلم. أن العفو بمقابل يجب أن يقتصر على الصراعات في البيئات القبلية البدائية حقناً للدماء. أما في المدن والحضر، فيجب أن يكون الجميع أمام القانون سواء، فلا يتيح لبعضهم أدوات للإفلات من العقاب دون الآخرين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى