علي حسين - دعونا نتفلسف.. مهندس السكك الذي أراد ان يعيد تركيب العالم (8)

في العام 1845 وجد مهندس السكك "هربرت سبنسر" نفسه مطروداً من العمل ، كان في الخامسة والعشرين من عمره . يكتب في مذكراته: (إنني سعيد لقد طُردت من العمل ، ساتفرغ للقراءة). بعد الطرد من الوظيفة بأسابيع وبمعاونة صديقه جورج هنري لويس، ينشر سبنسر اول مقال له بعنوان "فرض التطور"، ناقش فيه كتابات عالم الأحياء الشهير جان لامارك. لقد اراد سبنسر إحياء فكرة لامارك عن التطور والتي جوبهت برفض شديد من الكنيسة ورجال الدين ، وفي مقاله "فرض التطور" يسعى جاهداً لوضع أسس جديدة لفلسفة التطور التي سترتبط فيما بعد بكتاب داروين الشهير "أصل الانواع"، والذي ينسب اليه اليوم انه اول من قال بمفهوم التطور ، فيما الحقيقة ان داروين كان اول من جعل لنظرية التطور أسساً علمية ، وكان مؤلفاه الشهيران "أصل الأنواع" و "نشأة الانسان" هما اللذان رفعا في نهاية الأمر راية المنهج التطوري ، فلم يكن داروين نفسه فيلسوفاً ، وانما اكتفى بأن ترك لغيره استخلاص النتائج الفلسفيه لفروضه العلمية.

مقال للتسلية
ورغم ان الأفكار الرئيسية في نظريته كانت معروفة منذ وقت بعيد ، ومن هذه الأفكار ما ناقشه لامارك في كتابه الشهير "الانتقاء الطبيعي" ، حيث اكد فيه قابلية الأنواع للتغيير والانتقاء الطبيعي وتوارث الصفات المساعدة على الاستمرار البايولوجي ، وتسلسل الإنسان من نوع أدنى منه . وكان دور داروين هو جمع كل هذه الأفكار في نظرية موحدة . ولعل الشعار الشهير "البقاء للأصلح" لم يقله داروين ، وانما جاء ضمن المقال الذي كتبه هربرت سبنسر "فرض التطور" ، فقد كان دراوين حريصاً على تجنب أية نتائج اخلاقية لنظريته كما حاول ان ينفذ وصية عائلته بعدم التصادم مع رجال الدين .
يكتب داروين في مذكراته الشخصية : "صادف ان كنت أقرأ قبل أيام للتسلية مقالة هربرت سبنسر عن فرض التطور وكنت مستعداً استعداداً جيداً لتقييم الصراع من اجل البقاء ، والذي يستمر في كل مكان لفترة طويلة من المراقبة المستمرة لعادات الحيوانات والنباتات ، وحينها خطرت لي فكرة انه في ظل هذه الظروف تنحو الاختلافات المفضلة ان يُحتفظ بها في حين تُدمّر غير المفضلة منها ، والنتيجة ستكون أنواعاً جديدة " .
كان داروين على مدى فترة طويلة يقدر أبحاث الفلاسفة الذين مهدوا لصدور مؤلفه الضخم "أصل الأنواع" ، وتثبت سيرته الذاتية التي كتبها أحد أحفاده "فرانسيس داروين" ، انه كان مهتماً بمتابعة ما ينشر في مجال المنطق والرياضيات ومغرماً بكتاب هيغل "ظاهريات الروح" ، لكنه رفض النتيجة التي حاول البعض استخلاصها من نظرية التطور ، والتي تؤكد ان الأنواع العليا أفضل تكيفاً مع بيئتها من الأنواع الدنيا ، وكانت هذه المهمة قد تولاها معاصره هربرت سبنسر الذي قرر ان يستخلص النتائج الرئيسية لنظرية التطور ، ومن خلال مؤلفاته الفلسفية تحولت تلك النظرية الى فلسفة خاصة في العلوم والأخلاق والسياسة .
************
هروب النقود
في سيرته الذاتية ، التي ترجمها للعربية عثمان نويه ، يخبرنا هربرت سبنسر ان :"حظ مخّي من الدم كان دون المستوى العادي ، ما لم يزده الانفعال"، ويضيف ان يديه كانتا صغيرتين حسنتي البناء على نحو غير مألوف ، ويشير انه ورث هاتين اليدين عن جده : "لم يكونا يقومان بعمل أشق من الإمساك بقلم الحبر او قلم الرصاص" ، ويتحدث مزهواً بتحرره المبكر من الخوف الروحي والعمل الوظيفي، ويضيف واصفاً نفسه :" ورثت عن والدي قوة خارقة على النفاذ الى علل الأشياء ، فقد تهيأت لي قبل ان أجاوز دور الطفولة ومن غير ان أتعلم ، بصيرة تنفذ الى العلاقات الغائبة المبكرة ، لم تتهيأ لمن كانوا يكبرونني كثيراً في السن ، ويفضلونني في الثقافة ، وفي سن الثالثة عشرة شككت في نظرية القصور الذاتي كما جاءت في كتاب نيوتن الخاص بحركة الأجسام ، والتي كان عمّي مدافعاً عنها ."
كان هربرت أصغر إخوته السبعة ، وقد توفوا جميعاً وهم في سن الطفولة ، وتلقّى عن أبيه وعمه وكانا من المهتمين بالعلوم قليلاً من المعارف كالعلوم الطبيعية ودروس في الكيمياء ، لكنه لم يدرس الفلسفة والآداب ، وكان يفخر انه لا يعرف قواعد اللغة الانكليزية ، لكنه وجد متنفساً في دراسة الهندسة التي أهلته للعمل في سكك الحديد ، وبعد ان طُرد منها ، قرر ان يتجه للأدب ، فحصل على وظيفة في مجلة "الايكونوميست" وتوثقت علاقاته بعدد من الأدباء والكتّاب أبرزهم توماس هكسلي وجورج هنري لويس والأديب جورج اليوت ، وعاش في وضع مالي :"لعل هروب النقود مني هو مبعث إصراري على ان أعيش أعزباً " . لكن الحظ حالفه بعد سنوات ، فقد مات عمّه الذي أوصى له ببعض المال ، فاعتزل العمل نهائياَ وتفرغ للقراءة والكتابة. وقد خطرت له فكرة ان كتاباته هذه تصلح أساسا "لفلسفة علمية جديدة" سوف تحدث انقلاباً في العالم .
يوصينا فريدريك كوبلستون في موسوعته الضخمة "تاريخ الفلسفة" ان لانكتفي بالحديث عن سبنسر باعتباره منظراً لمفهوم التطور ، بل ينبغي ان نضع كتاباته مقابل كتابات هيغل وكانط ، فقد استطاع ثلاثتهم ان يبحثوا عن مسار التاريخ ، واذا كان اهتمام هيغل وكانط منصباً في الدرجة الاولى على مسار العقل والأفكار ، فقد كان اهتمام سبنسر يتركز على المسائل التي في الكون ، وربما تشير المقارنة بين هيغل وسبنسر الى طريقتين مختلفتين في التفكير ، بينما يمكن وضع سبنسر الى جانب اوغست كونت الذي كان أول فيلسوف ألماني لم يخرج من معطف امانويل كانط ، فقد كان يرى ان العلم هو الصورة الوحيدة للمعرفة البشرية ، فمعيار العقل الوحيد عنده هو العلم ، وكان يرفض اعتبار اللاهوت او الميتافيزيقا ميادين للمعرفة ، فالعالم الذي يصفه العلم هو العالم الوحيد الموجود ، وهو يرى ان مسائل الدين والأخلاق يجب ان تخضع لمعايير العلم .
وقد أيقن كونت ان فلسفته تنطوي على أسس لعقيدة جديدة للبشرية وأنها هي وحدها الملائمة في نظره لعقل البشر في عصر علمي ، فالأديان التقليدية تقتضي قبول معتقدات لاهوتية غير علمية . لكن المؤسف ان كونت في السنوات الأخيرة من حياته أصيب بعلّة ذهنية اعتقد فيها انه يبشر بديانه جديدة ، ولم يكتف بالدعوة الى عقيدته الجديدة ، وانما اتجه الى وضع طقوس خاصة لها ، وكان يؤمن بأنه النبي الحقيقي لعقيدته الجديدة ، وبأن زوجته هي القديسة الحامية لهذا الدين .
اما سبنسر، الذي كان يوصف بأنه فيلسوف علمي ايضاً ، فقد كان موقفه من العلم مختلفاً ، فهو يرى مثل كونت ان المنهج العلمي هو المنهج الوحيد للبشرية ، إلا أن إعجابه بالعلم لم يكن في المنهج فحسب مثلما كان كونت ، وانما في صورة العالم ومركز الانسان فيه ، كما توحي به الفروض الأساسية في العلوم الفيزيائية والبيولوجية . وربما كانت فلسفة سبنسر "التركيبية" ،كما أطلق عليها، تعد أعظم جهد بذله واحد من فلاسفة القرن التاسع عشر لتنظيم وتشكيل المعرفة العلمية في عصره ، في مركب ضخم يسعى لتقديم وصف شامل للعالم الطبيعي بأسره.
************
اهداء الى داروين
ظهر كتاب "أصل الأنواع" في أواخر تشرين الاول عام 1859 ، وكان مؤلفه تشارلز داروين قلقاً حول عدد النسخ التي يمكن ان تباع ، فقد أقنع شقيقته ان تقرضه مبلغاً من المال سيعيده إليها بعد ثلاثة اشهر . صاحب المطبعة ،التي طبعت الكتاب، كان يسخر من المؤلف الذي يريد ان يثبت للناس أنهم سلالة من القردة ، كان ينظر إليه ويشير للعامل : "يبدو ان السيد داروين يطيل النظر الى المرآة طويلا ، ليثبت نظريته" . لكن المفاجأة كانت بانتظار الجميع ، فـ "1250 " نسخة نفدت في الأسبوع الأول ، وكان باعة الكتب يلحّون على صاحب المطبعة ان يعيد الكرة ويطبع نسخاً جديدة. في السنة الأولى يعاد طبع الكتاب ثلاث مرات ، ويتجاوزعدد النسخ التي بيعت منه العشرة آلاف ، البعض يبحث عن الكتاب ليرضي تطلعه المعرفي ، وآخرون لإرضاء فضولهم والجواب على سؤال يشغلهم: هل نحن حقا سلالة من القرود المتطورة؟ .
لكن الكتاب في الواقع لم يكن سوى فرضيّة علميّة يطرحها المؤلف للنقاش. وضعها داروين بعد ملاحظات وبحوث ورحلات وقراءات دامت أكثر من عشرين سنة ، أراد من خلالها إيجاد السبل للإجابة على سؤال لطالما حيّر العلماء حول الحلقة المفقودة في عملية التطور المعقدة التي تمت عبر ملايين السنين.
يشرح تشارلز داروين العناصر الرئيسية لنظريته في القسم الأول من الكتاب، حيث نجده يناقش الاعتراضات التي يمكن أن تثور ضد نظريته. أما في الأقسام الاخرى من الكتاب، فإنه يخصصها في الحديث عن الجيولوجيا والتوزع الجغرافي للنباتات والحيوانات والحقائق ذات الصلة بعلم الأجنّة.أما الأساس الذي يبني داروين عليه فرضيته تلك ، فيتعلق برصد التغيرات التي طرأت على النباتات والحيوانات الأليفة، لا سيما منها تلك التي يتحكم بها الإنسان. ويقارن داروين ذلك، أي الفروقات في الأنواع الناتجة عن "الانتخاب الصناعي" ، بالتغيرات الحاصلة في الطبيعة من دون تدخل الإنسان، أي الناتجة عن "الانتخاب الطبيعي" ليخلص إلى أنه :"حيثما هناك حياة، فثمة تغير وتطور مستمران ناتجان أساساً من الصراع من أجل البقاء، حيث أن الانتخاب الطبيعي يتفحص كل يوم وكل ساعة وفي كل أنحاء العالم، أبسط التغيرات رافضاً السيئ منها ومضيفاً الجيد إليها، عاملاً بصمت ومن دون إحساس على تحسين كل خلية حية" ، وهو يؤكد أننا في الحياة اليومية : "لا نلاحظ أياً من هذه التغيرات البطيئة أثناء عملها، بل ستلاحظ حين تحفرها يد الزمن على مر العصور" .
ما ان صدر الكتاب حتى سارعت الكنيسة إلى مهاجمته معتبرة إياه خطراً على الدين ، ما جعل المؤلف يقول رداً على هذا الهجوم : "إنهم بالتأكيد لن يحرقوني، لأن ليس ثمة قانون يمكنهم من ذلك، لكنهم سيجهزون الحطب، وعود الثقاب."
بعد صدور كتاب داروين بأشهر، كان فريدريك انجلز يضع اللمسات الأخيرة على مقاله الشهير "دور العمل في الانتقال من القرد الى الإنسان " كان انجلز مثل صديقه ماركس معجباً بتشارلز داروين الذي كان يعيش على بعد عشرين كيلو ميترا عن بيت ماركس في مقاطعة كنت جنوب لندن ، وقد كتب ماركس الى انجلز عند صدور كتاب "أصل الأنواع" قائلاً :"على الرغم من ان الكتاب موضوع بأسلوب انكليزي جاف، فإنه يمثل الأساس في التاريخ الطبيعي لأفكارنا" . ثم يزداد حماسة فيكتب بعد شهر قائلاً :" كتاب داروين هام جدا ، وهو يفيد كأساس في العلم الطبيعي للصراع الطبقي اجتماعياً" . وعندما صدر الجزء الأول من "رأس المال" أرسل ماركس نسخة بإهدائه الى داروين ، وقد تلقى ماركس بعد ايام رسالة من داروين جاء فيها :
" سيدي العزيز أشكرك للشرف الذي منحتني إيّاه بإرسال كتابك العظيم عن رأس المال ، ولقد تمنّيت من كل قلبي لو كنت جديراً بهذا الشرف ، لكني كما تعرف لا أفهم شيئاً في الاقتصاد السياسي ،هذا العلم الهام والعميق ، وعلى الرغم من اختلاف موضوعاتنا فإنني اعتقد أننا نعمل سوياً على مدّ آفاق المعرفة ، وان هذا سوف يضيف في المدى الطويل الى سعادة البشرية ." ويخبرنا ايزايا برلين في كتابه "كارل ماركس" أن الأخير قرر ان يقدم الجزء الثاني من "رأس المال" بإهداء الى داروين .
في نفس العام 1859 ، ظهر كتاب هربرت سبنسر "المبادئ الاولى" ترجمه للعربية الراحل زكريا ابراهيم ، والكتاب جزء من مشروع ضخم ضم عناوين مثل : "مبادئ علم النفس" و" مبادئ البيولوجيا" و " مبادئ علم الاجتماع " ، ومشروع المبادئ الذي كرس سبنسر له اكثر من اربعين عاما من العمل المتواصل ضم 18 مجلداً .
************
كيف نغير العالم
في "المبادئ الاولى" ، الفكرة الأساسية التي يركز عليها سبنسر هي ، ان التغيير عملية تحلل مثلما هو عملية تطور، وعملية تفكك مثلما هو عملية تكامل ، ويقترح سبنسر قانوناً للتطور الاجتماعي ، ففي المرحلة الاولى لاتوجد أنماط او طبقات اجتماعية محددة المعالم ، وانما تكون المجتمعات مازالت صغيرة ، ويكون نمط التنظيم الاجتماعي متجانساً وغير متنوع نسبيا ً بحيث يؤدي كل فرد شيئاً لنفسه ، والمرحلة الثانية ذات طابع عسكري تكون الحكومة فيها فائقة التركيز ويكون العرف صارماً ، والفروق الطبيقة واضحة ، واخيرا تأتي مرحلة تتميز بها المجتمعات الصناعية الحديثة ويتزايد فيها تقسيم العمل ، ويزداد الاهتمام بالتجارة والانتاج ، ويتضاءل دور الحكومات المركزية ، وتضعف بالتدريج النظم الاجتماعية والتقليدية والتسلطية .
وقد رأى سبنسر أن حضارة انكلترا في القرن التاسع عشر تقترب تدريجياً من هذا النظام ، بما فيه تقدم علمي وتكنولوجي سريع ، ومن تجارة حرة عالمية ونظم سياسية واجتماعية متحررة ، تتحدد فيها العلاقات البشرية بالاتفاق أو التعاقد ، لا بالمركز الموروث او الوظيفة ..فالعدل ينبت في قلوب الناس من حاجات المجتمع ، والنظام الاجتماعي للجنس البشري اسمى ما عبّرت به الحياة عن نفسها "فالتاريخ ظل تقويماً من تقاويم استعباد الأمم ، كما كتب في آخر حياته ، وان حوادث قصة الإنسان على الأرض لهي بيان بما قارف الإنسان من سرقة وقتل ، لكن قانون التقدم الاجتماعي ماض في طريقه . فقد نادى سبنسر بمجتمع النقد الاجتماعي بديلاً عن مجتمع الأمر الواقع .وكان سبنسر عديم الثقة بالدولة :"يجب ان تقتصر وظيفتها على منع الافتئات على الحرية المتساوية للأفراد" ، واذا جاوزت الدولة مهمتها وهي كفالة العدالة ، فإنها لاتستطيع شيئاً غير قضم هذه العدالة . وكان سبنسر قليل الثقة بالنظم الحكومية ، حتى لقد كان يحمل مخطوطاته الى المطابع بدلاً من ان يأتمن عليها مصلحة البريد الحكومية .
وفي حين ان صديقه جون ستيوارت ميل كان يدعو الى الاشتراكية في كتاباته ، فإن سبنسر كان يدعو للنظام الديمقراطي الحر والاقتصاد الفردي ، فالاشتراكية ،في رأيه، تخلق مجتمعاً كمجتمع النحل والنمل ، يتم فيه آخر الامر حشد جهود الافراد وتعبئتها لخدمة النظام المركزي .وكان سبنسر قد قرر بيع كتاب "المبادئ الاولى" عن طريق الاشترك ، وقام أصدقاؤه بجمع الاشتراكات ، حيث وافق ستمئة شخص على شراء الكتاب ، وبدا سبنسر مطمئناً من ان جهوده الفلسفية ستثمر نجاحاً ، لكن النسخ الأولى من الكتاب لم تكد تظهر ، ويقرأ بعض المشتركين عقائد المؤلف المتشددة حتى انصرفوا عنه ، فأصابه اليأس ، واضطر ان يتوقف عن الكتابه ونشر إعلاناً يذكر فيه أنه لن يستطيع إتمام مشروعه الفكري ، لأن أوضاعه المادية لا تساعده ، إلا أن أصدقاءه ،ومنهم جون ستيوارت ميل، جمعوا له مبلغاً كبيراً لطبع ما تبقى من مؤلفاته ، وادعى هؤلاء الأصدقاء ان مجموعة كبيرة من المشتركين أقبلوا على شراء كتاب "المبادئ الاولى" ، فتابع سبنسر عمله ليصوغ فلسفته الخاصة التي حققت له شهرة واسعة جعلت رجال الدين يهاجمون آراءه ، فيما اعترض عليها الاشتراكيون ، وهاجم دعاة الامبراطورية البريطانية موقفه المناهض للحروب ، لكنه ظل طوال حياته فرداً مسرفاً في فرديته ، لايقبل المهادنة في آرائه .
لقد كان واضحاً أن إيمان سبنسر بإمكان التطبيق الكلي لقانون التطور ، قد ألزمه بأن يثبت أن حركة التطور تقف بالضد من "العبودية القادمة" للدولة ، ولهذا نراه يهاجم بعنف أي ميل للدولة لأن تنظر الى نفسها على انها قادرة على كل شيء : "ان الخرافة السياسية العظيمة للماضي كانت هي الحق الإلهي للملوك ، أما الخرافة السياسية العظيمة للحاضر فهي الحق الإلهي للبرلمانات"، كما ان "وظيفة الليبرالية في الماضي كانت وضع حد لسلطات الملوك ، ووظيفة الليبرالية الحقيقية في المستقبل ستكون وضع حد لسلطة البرلمانات."
************
ضد الحكومات
كرس سبنسر حياته التي تجاوزت الثمانين عاماً لتنقيح فلسفته التركيبية ، وعانى وهو في الأربعين من عمره من سوء صحته ، وكانت مثابرته برغم كثرة أمراضه أمر يدعو الى الدهشة ، وقد استطاع ان يتغلب على عجزه عن طريق ذاكرته الغريبة ، وعن طريق قدرته على التركيز بصورة فعالة. لقد كان لديه عقل منطقي غير عادي ورسم الخطة العامة لمذهبه في فترة مبكرة من حياته ونادرا ما كان يغير آراءه في الموضوعات الأساسية ، توفي في الثامن من كانون الثاني عام 1903 بعد إصابته بمرض تصلب الشرايين . وقد تجاهلت الحكومة خبر وفاته بسبب معارضته لحرب البوير التي نظر اليها على انها تعبر عن القوة العسكرية البريطانية الغاشمة والتي كان يكرهها كثيرا ، فقد كان يرى ان التقدم الحقيقي للبشرية يكمن في الانتقال من التحرر بالقوة الى التحرر بالإقناع ، وهو يرى ان مثل هذا لايتحقق الا بالتسامح ورؤية شيء من الحق في كل وجهة نظر ، واعتماد العلم بديلاً للخرافات.
لم يكن سينسر في آخر أيام حياته وهو يعاني من أمراض الشيخوخة ليتصور ان موسوعته في المبادئ ، ستدخل التاريخ وأن اسمه سيساهم في تغيير الحقيقة تغييراً جذرياً .
ينتمي سبنسر الى تلك الفئة الصغيرة من المعلمين الكبار ، إذ ما من أحد استطاع أن ينهض حقاً بمشروع بضخامة مشروعه، وربما لأنه كان الوحيد القادر على تصور هذا البناء الضخم الذي سيظل شاهداً على المعارف التي صبغ بها عالمنا المعاصر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى