عبير سليمان عبدالمالك - دليل آخر واضح وملموس على عبقرية نجيب محفوظ

القصص تفيض بالسخرية والتهكم من أحوال البشر ، أبطال هذه المجموعة كلهم على اختلاف أحوالهم ومراكزهم الاجتماعية ودرجاتهم العلمية وأعمارهم يثيرون دهشتك وشجونك وأحيانا تجد منهم من يجعلك تضحك بصوت عال مثل علي بركة في قصة عابرو سبيل هو ومنافسه على حب البطلة ، كم المشاعر الإنسانية التي تحفل بها القصص يجبرك على التفاعل معها لأقصى درجة ، مرة تتعاطف ومرة تغضب ومرات كثيرة تتعجب من صراعاتهم الداخلية ، ستجد نفسك مأخوذا بروعة الوصف وجمال التصوير للشخوص والأماكن ، ستندهش أيضا من مصائر أبطال محفوظ العبثية والتي تليق بتكوينهم النفسي وأحلامهم ورغباتهم والمسالك التي يسلكونها للوصول إلى غاياتهم.
وكعادة نجيب محفوظ يجعلك تتعاطف حتى مع المجرم النصاب ، وتتهكم من طمع صاحب النفوذ ولا تجد أي اختلاف بينه وبين من نتعامل معهم بشكل يومي في مؤسسات بلدنا ، فأنت تشعر أثناء قراءتك وكأنك ترى فيلما قصيراً .
نجيب محفوظ أكثر الأدباء قدرة على تشويقك واختطافك من مكانك لتسافر معه عبر الزمان والمكان إلى زمان القصة ومكانها.
الرماد والختام تدور أحداثهما حول طبيعة الشخصيات أصحاب السلطة والنفوذ ، الرماد تصور بطش " السماوي " والذي رغم قوته يفشل في حسم معركة حبه للزميلة الحسناء ، والختام حول تلاعب الصدف بحياة البشر ، فيسقط البطل سقوطاً مدوياً في اختبار أخلاقي ، يكشفه موظف بسيط مهمته مراجعة الملفات قبل ترشحه لمنصب وكيل وزارة لنجد كيف تنقلب حياته من قمة السعادة لقمة البؤس .
الخوف رائعة** هي وحلم نصف الليل ، وهارب من الإعدام ،وجها لوجه وسائق القطار ، سوق الكانتو
فعابرو السبيل ولونا بارك قصص ذات طابع فكاهي نوعا ما وتنضح سخرية ومرحا .. ، وهو يؤكد ما موهبة أديبنا العظيم ، فهو بقدر ما يضحكك يبكيك .
ومسك الختام كانت يوم حافل والتناقض الصارخ في شخصية البطل ، وعندما تنتهي من المجموعة تتمنى مطالعتها مرة أخرى ووعن نفسي ربما أعيد قراءتها
في بيت سيئ السمعة تكتشف أنه ليس سيئ السمعة كما يتصور معظم الناس عند سماعهم هذه الكلمة ، وإنما وصفه أهل الحي بهذا الوصف لعدم رضاهم عن اختلاف نمط حياة سكان البيت وتحديدا صاحبة البيت وبناتها عن النمط السائد عند المجتمع في ذلك الزمان
مرة ثانية ربما اشعر وقتها بمتعة أكبر في القصص التي لم أذكرها ، والتي لا أنكر أنها رائعة هي الأخرى لكن فضلت أن أذكر التي تركت في تأثيراً أكبر.
**
"الخوف "
يرسم نجيب محفوظ هنا لوحة يخيم الخوف على تفاصيلها ، بموهبته الفريدة يستطيع تجسيد الخوف عن طريق طرفي الصراع ، اثنان من الفتوات يسيطران على حارتين ، يجعلان من عطفة مسالمة "الفرغانة "ساحة لمعاركهما الدامية ، وهنا يتجلى الخوف مرتسما على وجوه الأبرياء ، والذين وجدوا أنفسهم فريسة لصراع عبثي ، واقعين بين فكين شرسين وأنياب ومخالب كل من جعران فتوة حارة الحلوجي والأعور فتوة حارة دعبس وأتباعهما من "الزعران " . وهم بين هذا وذاك يقفون عاجزين لاحيلة لهم ، ولا يملكون دفع الشر والأذى عنهم .
ولقلة حيلتهم يلجؤون لرجال الدين ، الذين كعادتهم أيضا يفضلون الحلول المائعة والمؤقتة ، هنا يتضح اسلوب محفوظ الساخر المتهكم من أولئك الذين عند الأزمات ، يفشلون في إيجاد الحلول الشافية ، ولا يقدمون أبدا على أي اقتراح شجاع أو فيه حل جذري لحالة الرعب التي يعاني منها الأهالي .
يتصاعد الموقف مرة أخرى بظهور الفتاة الحسناء " نعيمة " بنت الليثي بياع الكبدة ، فتصبح هدفا يتنازع عليه من جديد كلا الفتوتين ، لنجد أن الأزمة التي ظن الجميع أنها هدأت وانتهت ، قد اشتعلت من جديد .
" لا يمكن أن تتزوج من الاثنين فهذا محال ، ولا يمكن أن تتزوج من واحد دون الآخر فهذا هو الموت".
**
وبدأت تباشير الفرج تلوح على أرض الفرغانة بإقامة نقطة شرطة محل وكالة قديمة مهجورة ، ليشغلها ضابط شاب وعساكر ، في رسمه لملامحه كما جاء ، نرى أيضا قدرة محفوظ على ربط ملامح الشخصية الخارجية بسماتها وصفتها الداخلية ، كأنه يريد أن يقول عن الضابط أن غلظة قسماته و رأسه الكبير ذي الشعر المفلفل يحاكي كتلة صوانية مصفحة أي أنه عنيدا صعب المراس ، وبما أنه رشيق القوام فهو قادر على خوض المعارك .
وحتى جمله التي خاطب بها الأهالي حادة وقاسية :" عيب أن يعيش الرجال كالنسوان ، لا تمكنوا أحد منكم .. " . ثم أكمل بحدة " من يتستر على مجرم سأعامله كمجرم " .
المعنى هنا واضح " أن شخصا واحدا لن يقدر على حماية عطفة صغيرة ، يسكنها عدد قليل من الناس إن استمر هؤلاء الناس في جبنهم وخوفهم وفقدوا إرادتهم واستسلموا للعجز وقلة الحيلة في انتظار انقاذ يهبط عليهم من السماء ، وأنه لابد من نبذ التواكل والانهزامية والوقوف صفا واحدا للدفاع عن كرامتهم وعن أرضهم وشرفهم ".
" شعر الضعفاء أنهم يولدون من جديد ، ورمقوا الضابط بعين الإكبار والمحبة " .
**
لكن لماذا ظل الخوف مهيمنا على العطفة ؟
هنا يفاجئنا محفوظ بأن الأهالي بعدما اطمأنوا ورحل عنهم بطش الفتوات ، التفتوا إلى نعيمة ، وأخذوا يلوكون في سيرتها ، ويتبادلون الهمسات حول علاقة غرام نشأت بينها وبين الضابط ، كقارئة تولد لدي انطباعا أن نجيب محفوظ يعبر عن سخطه المتخفي وراء أسلوبه الساخر من أحوال المصريين ، يسخر من تواكلهم وتبلدهم ، ونظرتهم السطحية للقضايا الخطيرة ، وترك الماسئل الهامة والالتفات للتوافه ، وهو ما يجعل منهم هدفا سهلا لأي مستبد يقودهم مثل القطيع، فالشعب الذي لا يملك الوعي الكافي بحقوقه وبهويته يصبح صيدا سهلا لعصابات شرسة تحكمه وتحكم حوله الخناق ، وتنهب ثروته وتنزع عنه كرامته ، وهو في ملكوت آخر ، لا يشغله إلا " بائعة الكبدة " أو ما شبه ذلك من أمور فرعية .
كما رأيت أم محفوظ يحذر من خطورة التواكل ، وتعظيم شأن الرجل الذي أعاد لهم الأمن ، فتراخوا وتكاسلوا ، فهم من يصنعون من الحكام الديكاتوريين أشباه آلهة ، يسلمونهم أنفسهم وعقولهم بالكامل ، لضعف إيمانهم بقدراتهم وشعورهم الداخلي بالضآلة وقلة الحيلة والانهزامية ، ثم يصرخون وينوحون عندما ينتهي بهم الحال لهزيمة نكراء أو تدهور في أوضاعهم المعيشية ، وخضوعهم لحملات ترهيب وممارسات قمعية من المحيطين بالحاكم ، الإشارة هنا يقدمها لنا محفوظ في جمل قصيرة لكنها شديدة البلاغة تحمل من المعاني الكثير ، مثل قول بياع الترمس " الحارة أعجز من أن تدافع عن شرفها" ، " على لسان الراوي متحدثا عن نعيمة " تجنبها الشبان حبا في السلامة " ، واصفا كيف استسلم الجميع للظنون حول الفتاة دون أن يكلفوا أنفسهم بعض التعب والجهد لتحري الحقيقة وراء افعالها من غناء ودلال وإصرار على الوقوف بجانب نقطة الشرطة ، كما تحمل بعض الجمل أيضا جرس إنذار ، كأنه كان يتوقع ما حدث في يونية 1976 .
رأيت في نعيمة رمزا لمصر ، التي تلتصق بمن تظن أنه سيحميها بعد أن أثبت قدرته على قهر الفتوات ، ليتحول هو الآخر بمرور الوقت إلى فتوة متكاسل ومتراخ ، ترهل آداؤه وتهدل جسده ، ففقد حيويته ، وفشل في أن يجد هدفا جديدا يشعل شغفه ويثر حماسه لإتمام ما بدأه، وتطوير مهامه .
رأيت أيضا أن النتيجة الطبيعية للخلاص من حالة الرعب ورحيل الفتوات كانت في أن يلتفت أهل العطفة لمسائل هامة مثل : من سيتولى مسألة تأمينهم ضد أي احتمالية لظهور فتوات جدد ، وكيف يمكنهم بعد استعادة الأمن أن يعيدوا بناء ما تهدم من بيوت بسبب تكرار المعارك ، وكيف سيربون أبنائهم على مواجهة الخوف والتحلي بالشجاعة مقتدين في ذلك بالضابط وما استطاع تحقيقه بذكائه وشجاعته وخفة حركته ، وأمور أخرى كثيرة كانت تستحق منهم الاهتمام .
لكن مثلما يؤكد لنا محفوظ في أولاد حارتنا " أن آفة حارتنا النسيان " هنا أيضا كانت آفة " الفرغانة " التفاهة والانشغال بالنميمة حول نعيمة ، والتي وجدناها في النهاية تحولت من حال إلى حال أخرى مختلة وبائسة تماما ، فمن يصدق أن نعيمة تكسو ملامحها تجاعيد الشيخوخة ويصيبها الترهل ويثقل وزنها ، كما نلاحظ أيضا أن حالة نعيمة انعكست على ملمح الحياة في العطفة " فرغانة" ونجدها هي الأخرى فرغت من الحماس والهمة وأصابها الخمول ، فماذا بعد رحيل الفتوات ؟ يصرح محفوظ في النهاية بمخاوفه من أن تظل آفة عطفة الفرغانة - كما أطلق عليها صانعها- "الفراغ " فراغ العقول من النور ومن العلم ومن وجود هدف كبير يجمعهم ويسعون لتحقيقه ، وفراغ النفوس من الإيمان الحقيقي والشجاعة والاستعداد للتضحية في سبيل الكرامة .

عبير سليمان
ديسمبر ٢٠٢١

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى