د. حسام الدين فياض - إشكاليَّات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربيَّة

لا يخفى على العاملين في الحقل الاجتماعي أنَّ علم الاجتماع في البلدان العربيَّة كان وما زال دون آفاق مجتمعيَّة، ما زال غريباً عن المجتمع، لأنَّه لم يولد في رحم هذا المجتمع، ولم تشكِّل ملامحه الثقافة العربيَّة، ولم تكوِّن هويته الفكريَّة.
إنَّ علم الاجتماع العربي علم مقهور وخائف، شأنه شأن الإنسان الذي يريد دراسته، وما دام هذا هو وضع الإنسان، موضوع علم الاجتماع، كيف سيكون حال علم الاجتماع ؟
إذا كان علم الاجتماع صوت الإنسان في التاريخ والحاضر، أو هو الضمير الأعلى للمجتمع وقراءة علميَّة للتغيّرات الفكريَّة والثقافيَّة والمجتمعيَّة، فإنَّ الإنسان العربي دون صوت دون علم يدرس هواجسه وهمومه، وما لنا إلا أن نراجع أدبيَّات هذا العلم، لنرى أنَّه ليس علماً عربياً، ولا نقرأ فيه صورة الإنسان العربي المقهور، إنَّه تجميع من هنا وهناك، إنَّه ظاهرة عبثيَّة، ويدرّس في مجتمع، لا يمتّ بصلة إليه، ولا قيمة له في هذا المجتمع ما دام لا يساهم في فهم العالم الاجتماعي وتفسيره. كما أنَّه لا يعبِّر عن تحولات مجتمعيَّة وثقافيَّة وتاريخيَّة، بل هو علم مستورد، مع أنه يعود للعلامة ابن خلدون 1332-1406، الذي تناول في مقدِّمته إشكاليَّة تكوين المجتمع العربي والإسلامي.
وفي هذا المقال سنسعى إلى تناول أهم الإشكاليَّات التي يعاني منها علم الاجتماع في البلدان العربيَّة، القائمة في بنية العقل والثقافة العربيَّة، والتي أعاقت استقلال هذا العلم وتحديد صورته وميادينه. فحتى الآن ما زال الباحثون يتناقشون حول دور علم الاجتماع وأهمّيته، ومنهم من يخلط بينه وبين الخدمة الاجتماعيَّة، وهذا المجتمع يعاني من مشاكل اجتماعيَّة لا حصر لها، وهو في أمس الحاجة إلى هذا العلم أكثر من أي وقت مضى، لأنَّ علم الاجتماع لا يدرس المشاكل الاجتماعيَّة ويساهم في حلّها فقط، بل يساهم أيضاً في تطوير رؤية فكريَّة واجتماعيَّة للمجتمع، وفي تكوين الشخصيَّة والهويَّة الفكريَّة للمجتمع.
الإشكاليات التي يعاني منها علم الاجتماع في البلدان العربيَّة: يشير مفهوم الإشكاليَّة إلى أنَّه سؤال مطروح يطلب حلاً أو مسألة علميَّة أو نظريَّة لا يوجد لها حلاً، وتكون الإشكاليَّة أوليَّة حينما يضعها الباحث ويبني عليها فرضياته أو خطَّة بحثه، وعندما يجمع الباحث المادة العلميَّة، ويبدأ في دراستها وتمحيصها ثم تنقيحها أو تعديلها وإضافة إليها ما يلزم تصبح نهائيَّة. أي أن الإشكاليَّة قضيَّة كليَّة عامَّة تثير نتائجها الشكوك بحيث أنها تقبل الإثبات أو النفي أو الأمرين معاً. والإجابة في الإشكاليَّة غير مقنعة وتبقى دائماً بين أخذٍ ورد.
ويعتبر بعض المفكّرين الإشكاليَّة كمظلَّة تتَّسع لكل المشكلات، تتمثَّل في أنَّ المشكلة جزء من الإشكاليَّة حيث إن الإشكاليَّة مجموعـة من المشكلات الجزئيَّة، فإذا استطعنا أن نحدِّد موضوع الإشكاليَّة عرفنا المشكلات التي تتبعـها. وبمعنى آخر، المشكلة طابعها جزئي، والأسئلة التي تتناولها أسئلـة جزئيَّة بينما الإشكاليَّة طابعها شامـل وعام يتناول القضايا الكبـرى.
وهذا يعني أنَّ القضايا التي تطرحها الإشكاليَّة هي قضايا عميقة عالقة فـي الفكر الإنساني تعكس البحث الدائم للإنسان من أجل أن يتكيَّف مع الوسط الذى يحيط به.
يعاني المجتمع العربي من مجموعة من الإشكاليات البنيويَّة، بسبب حالة الانغلاق الفكري والمجتمعي وغياب التجديد البنائي والثقافي والعقلي. هذا الركود الثقافي جعل المجتمع لا يتفاعل مع الأزمات الأحداث الكبرى، ممَّا أفقده حسّه التاريخي، فالتاريخ ليس هو الماضي بل القدرة على صناعة التاريخ. وعلى العموم تصدر المشهد المعرفي لولادة علم الاجتماع العربي مجموعة من الإشكاليات، وهي كالآتي:
1- إشكاليَّة العلاقة بين علم الاجتماع والتراث: يُعرَّف التراث بأنه ما خلَّفه الأجداد لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلّما غاصت وتفرَّعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. … كذلك فكل الناتج الثقافي للأمَّة يمكن أن نقول عنه ” تراث الأمَّة “.
وفي حقيقة الأمر يخضع الفكر العربي لوصاية التراث والمجتمع، ولم يتجرأ حتى الآن على خوض الصراع مع المرجعيَّة التراثيَّة ( العادات والتقاليد والخرافة والمعرفة اللا علميَّة )، التي تأخذ في كثير من الأحيان طابع المقدَّس في المخيلة العربيَّة. حيث إن كل ماضٍ مقدَّس، وكل مقدَّس يتمّ توارثه دون مراجعة. فالمجتمعات التي تقدِّس التراث يكون العقل أوَّل ضحاياها. وهذا يصدق على الواقع الاجتماعي الذي تحكمه العادات والذي لكثرة ما سمعه الناس، وَقَرَ في نفوسهم كشيء مقدَّس. وعلم الاجتماع في طبيعة الحال هو ضحيَّة هذه النظرة اللا عقلانيَّة، التي تضع التاريخ والثقافة خارج النقد والتقويم، مما يعيق دور علم الاجتماع بمعالجة المشاكل الجوهريَّة التي يعاني منها الواقع العربي.
2- إشكاليَّة المرجعيَّة: يعني مفهوم المرجعيَّة الرجوع إلى المرجع في كل عمل وعدم الانحراف عنه ويمكن تفصيل آليَّة المرجعيَّة في خطوات كالتالي:
أ‌- هي أن يرجع النظام إلى المرجع ليقارن نفسه به.
ب‌- يلاحظ مدى انحرافه عن المرجع.
ت‌- يستفيد بهذه الملاحظة ويبني عليها عمل تصحيحي يؤدِّي لتقليل انحرافه عن المرجع.
ث‌- أن يكون العمل التصحيحي مناسب وفي وقته فلا يكون أقل مما ينبغي ولا مبالغ فيه ولا يكون في وقت غير مناسب.
ج‌- يعود مرَّة أخرى إلى المرجع ليختبر صحَّة الخطوات السابقة وهكذا لكل عمل. والمراد بالمرجعيَّة ثلاثة مستويات:
– المستوى الأول ( وهو أعلاها ): الإطار الكلِّي والأساسي المنهجي والركيزة الجوهريَّة في أي خطاب أو ملَّة أو دستور أو نظام.
– المستوى الثاني: المصادر والمستندات والأدلَّة التي يعتمد عليها لتكوين أي نوع من أنواع المعرفة.
– المستوى الثالث ( ممثِّلو المرجعيَّة ): هم الأشخاص الذين يعاد إليهم في الشؤون العلميَّة أو العمليَّة.
وفي حقيقة الأمر يعاني علم الاجتماع العربي من غياب المرجعيَّة الموحَّدة، وفي الوقت نفسه من تعدُّد المرجعيات، ونقصد بالمرجعيَّة مركز المعنى أي النظام الرمزي للمجتمع القائم على مركز معنى متخيّل. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان الدين في العالم الغربي المعنى في العصور الوسطى، والآن أصبح الإنسان والاقتصاد الرأسمالي هو مركز المعنى للحداثة، أمَّا علم الاجتماع العربي فيفتقر للمرجعيَّة المجتمعيَّة. إنَّ القضيَّة المركزيَّة التي يستند عليها العلم وينطلق منها هي العقل. فالعقل هو المرجع الأولي لدراسة المجتمع وتفسيره، عندها يتحوَّل علم الاجتماع إلى فكر تاريخي وديناميكي مرتبط بالحياة والواقع، ولكن حتى الآن ما تزال المرجعيَّة المعرفيَّة لعلم الاجتماع العربي هي الغرب والشرق، وليس العقل والفكر والإنسان العربي.
ويجب أن يكون الإنسان مشروع علم الاجتماع وهدفه، وعندما نقول ذلك نقصد أن الوظيفة الأساسيَّة لهذا العلم تكمن في قيام مجتمع إنساني يحترم إنسانيَّة الإنسان، ويؤسِّس مؤسَّساته على أساس هذه المعايير. كما ينبغي على علم الاجتماع العربي الأخذ بالحسبان خصوصيَّة المجتمعات العربيَّة الدينيَّة (العامل الديني الذي يوجه كل مناحي الحياة) باعتبارها مرجعيَّة أوليَّة مع العقل في دراسة وحلِّ القضايا والمشكلات الاجتماعيَّة من منطلق أنَّ الإيمان لا يتعارض مع العقل والعلم.
3- إشكاليَّة غياب المداخل المنهجيَّة والنظريَّة: في هذا السياق نقصد بالمداخل النظريَّة مجموعة من القضايا الفكريَّة، التي تتداخل مع بعضها البعض منطقياً، بغية تكوين النسق النظري لها، الذي يتمّ من خلاله تحليل وتفسير ونقد الواقع الاجتماعي. بمعنى آخر يمكن القول إنّها كيان نظري له مبادئه وقضاياه الرئيسيَّة التي توجب على أي بحث علمي مستنداً إلى هذا الكيان أن يشتق فروضه الرئيسيَّة منه، ثم بعد ذلك استخدم المقولات الرئيسيَّة للكيان النظري في عمليات أخرى: كالوصف والتحليل والتفسير والتنبّؤ.
ويمكن القول أيضاً إنّ المداخل النظريَّة تتشكَّل من مقولات وقضايا نظريَّة بناءً عليها يتمّ إدراك الواقع الاجتماعي من خلال إعطاء تصوّرات متباينة وتنظيماً محدّداً لمتغيراته وطبيعة واتجاه التفاعل بين هذه المتغيّرات.
أما مفهوم المداخل المنهجيَّة فيمكن القول بأنها أقل تجريداً من المستوى السابق الذي يتعلَّق بالمبادئ الأساسيَّة للمداخل النظريَّة في علم الاجتماع، فالأسس المنهجيَّة تتعلَّق بطبيعة الحال بالمداخل المنهجيَّة التي تمثِّل زاوية الاقتراب من قضيَّة البحث موضوع الدراسة، وعليه يمكن القول إن المدخل المنهجي أكثر ارتباطاً ببناء النظريَّة لأنَّ المقولات النظريَّة هي التي تفرض هذا المدخل أو ذاك. وبالمقابل فإنَّ المدخل المنهجي بدوره هو الذي يحدِّد مناهج وطرائق البحث المناسبة في هذا البحث أو تلك القضيَّة.
بناءً على ما تقدَّم نجد أن معظم دراسات وأبحاث علم الاجتماع في البلدان العربيَّة تتَّصف بالفقر الابستمولوجي والنظري والمنهجي. صحيح أنَّ المناهج البحثيَّة عالميَّة بما أنها تستند إلى جوهر خطوات المنهج العلمي، لكن بطبيعة الحالة مضامينها محليَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة. فمن يقرأ دوركايم، ماركس، وفيبر، وغيرهم يقرأ التاريخ الاجتماعي والأوروبي والثقافة الأوروبيَّة لأنَّ علم الاجتماع بنظريات ومناهجه رغم اختلافه جاءت استجابة للواقع الغربي بكل ملامحه وتجلياته. ولهذا لا يتطوَّر الفكر الاجتماعي إلا في سياق تاريخي واجتماعي محدَّد. وهنا يجب أن نشير أنَّ إنتاج المعرفة لا يتولَّد إلا داخل فضاء فكري منفتح، أمَّا الفضاء الفكري المنغلق فإنَّه عقيق لا يتفاعل مع مجتمعه. وهذا يعني أنّ الثقافة العربيَّة ثقافة مغلقة متخلِّفة عن زمانها وعصرها، أمَّا الثقافة المنفتحة فهي بنت زمانها. لهذا لم يفرز الفضاء الفكري العربي نظريات ومناهج تعبّر عن واقع مجتمعاتنا وتتوافق مع خصوصيتنا، كما توافقت النظريات والمناهج في علم الاجتماع الغربي مع منطلقات الواقع الأوروبي ومفرزاته.
4- إشكاليَّة علماء الاجتماع العرب ومسؤوليتهم الأخلاقيَّة والعلميَّة: فمن المعلوم أن النظريات والمناهج الاجتماعيَّة طوَّرها علماء وهبوا أنفسهم للعلم، وقد فهم هؤلاء العلم رسالة ومسؤوليَّة، رسالة لفهم الكون وتفسيره والحفاظ عليه، ومن ثم فإن للمناهج بعد قيمي وأخلاقي وإنساني، وهذا تأخذه عن الثقافة.
وقيم المفكرين تجسّدها مناهجهم، وهذا ما تعبر عنه علاقة المنهج بالإيديولوجيا، وبإنتاج المعرفة والفكر مرتبطتين بطريقة رؤيتنا للكون. فعلى سبيل المثال، فإن المنهج الفيبري، أو المنهج التاريخي الاجتماعي المطبق على دراسته ( الأخلاق البروتستانتيَّة والروح الرأسماليَّة )، يرى أن حركة الإصلاح البروتستانتيَّة، هي التي أسَّست الحضارة الغربيَّة، فهو يقرأ تقدُّم المجتمعات وتخلُّفها من خلال حركة الإصلاح البروتستانتي. كما نجد إيديولوجيا ماركس قائمة في منهجه، وكذلك إيديولوجيا فيبر وبارسونز…. إلخ، والإيديولوجيا فكر وقيم سياسيَّة وثقافيَّة ومعرفيَّة. ولا نجد عالماً ذا مدرسة دون هذا البعد الإيديولوجي، والعلوم الاجتماعيَّة كلها ليست بعيدة عن الإيديولوجيا، والإيديولوجيات هي الرؤى المتعدِّدة للكون، وإنَّ هذه الرؤى المختلفة هي التي تكون النظريات والمدارس، فتبرز المدراس الفكريَّة بقدر ما يوجد من اتِّجاهات نظريَّة.
نستنتج ممَّا سبق أن مدراس علم الاجتماع طوَّرها مفكِّرون وعلماء أصحاب رؤى سوسيولوجيَّة. وهذه الرؤية تسعى إلى دراسة وتحليل وتفسير وتطوير الواقع الاجتماعي لأنها قائمة على المنهج والنظريَّة. فالبعد الإيديولوجي، أو الحكم القيمي هو أساس التنظير ولما غاب التنظير عن علم الاجتماع العربي، فقد غابت عنه المدارس والاتِّجاهات الفكريَّة المفسّرة للمجتمع، ذلك أن التنظر ليس عمليَّة خارج المجتمع والتاريخ، وإنما يتم في سياق ثقافي ومجتمعي وتاريخي معين. وما سردناه عن النظريات السوسيولوجيَّة ينطبق على المناهج وطرائق البحث الاجتماعي، فهذه تمثِّل جانب الضعف في علم الاجتماع وهي مرتبطة بالنظريات فلا يقوم التنظير دون منهج، ولذلك نلاحظ أنَّ غياب الاتِّجاهات والمدارس عندنا، إنما يعود إلى ضعف الانتماء النظري والمنهجي.
وفي النهاية نقول إنَّ إشكاليات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربيَّة كثيرة، ولا مجال لتحليلها ومناقشتها جمعياً، إلا أنه يجب علينا التسليم بكل الأحوال بأهمّيَّة هذا العلم الذي يمثِّل في جوانب مختلفة فكر وفلسفة ونقد اجتماعي، فالمجتمعات المتقدِّمة، تقدَّمت بأفكارها ومعرفة أخطائها بالتوازي مع التقدُّم المادي. وهذا ما يجب أن يحدث في المجتمعات العربيَّة من خلال تفعيل دور لعلم الاجتماع الذي سيكون استجابة حقيقة لواقعنا وخصوصيتنا الثقافيَّة والاجتماعيَّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى