د. أحمد الحطاب - قالت التفاهة : أنا في طريقي إليكم!

حسب معجم "المعاني"، التفاهة هي نقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة. و جاء في نفس المعجم : "تفاهة ما بعدها من تفاهة"، أي "الحقارة و الدناءة". و وَردَ في نفس المعجم كذلك: "هُوَ رَجُلٌ تَافِهٌ"، أي "غَيْرُ مُتَّزِنٍ، قَلِيلُ العَقْلِ لاَ قِيمَةَ لأَعْمَالِهِ، حَقِيرٌ". و هذا يعني أنه عندما نقول إن فلاناً تافهٌ، يجب أن نُدركَ أن هناك نقصا في الذكاء و الاتِّزان و الأصالة و الإبداع و في قيمة ما يصدر عن هذا التافه من أقوال و سلوك و أعمال.
إذن، التافهُ ليست له القدرة على تحليل الأمور و الأشياء و إصدار أحكام في شأنها تتناسب مع العقل و المنطق. أحكامُه تبقى سطحيةً و مُجانبةً للصواب. و لا داعيَ للقول أن التحليل الرَّصينَ و المفيد يتحتَّم على مَن يقوم به أن تكونَ له خلفية ثقافية و معرفية مهمَّة ليستوعب ما هو بصدد تحليله و بالأخص القراءة بين السطور و إدراك ما لم يتم الجهر به علانيةً.
إنطلاقا من هذه الاعتيارت، يمكن القول بأن التفاهةَ هي كل ما يصدر عن شخص لا تتوفَّر فيه المواصفات السابقة الذكر. و بما أن هذا النوعَ من الأشخاص أصبح يملأ الفضاءات العامة و الخاصة، فالتفاهة أصبحت، هي الأخرى، ثقافةً قائمةَ الذات. بل قد أصبحت نظاما له رُواد يُنعِشونه و يضمنون بقاءَه و استمرارَه. كما أن له لغتَه و مفرداته.
و لعل أكثر التفاهات انتشاراً هي تلك التي تؤثث منابرَ التواصل الاجتماعي علما أن هذه التفاهات طالت على الخصوص الثقافة و الفن و السياسة. فكم هم كثيرون أولائك الذين نصَّبوا أنفسَهم مثقفين و فنانين و سياسيين و الثقافة و الفن و السياسة براءٌ منهم. و ما زاد و يزيد في الطين بلَّةً، أن بعض هؤلاء التافهين نصَّبوا أنفسَهم نُقَّاداً لِما يصدرُ عن المثقفين و الفنانين و السياسيين الحقيقين و الأصيلين.
و ما يجب أن نخشاه هو أن يصبحَ للتفاهة لوبيات تفرض نفسَها على المجتمع. بل إن هذه اللوبيات، حسب رأيي الشخصي، تتكوَّن شيئآ فشيئا و قد تصيرُ، مع مرور الوقت، قائمة الذات. و هناك مؤشِّراتٌ تسير في هذا الاتجاه منها على الخصوص :
أولا، إن شبكات التواصل الاجتماعي تُعدُّ اليوم أكبر وسيلة لحمل و ترويج و نشر التفاهات و تعميمها. فعلى كل مَن أراد أن يطَّلعَ على المستوى العالي للتفاهة، فما عليه إلا أن يغوصَ في مواقع التواصل الاجتماعي ليُشنَّفَ سمعُه و يُخدَّرَ دماغُه بشتى أنواع التفاهات المكتوبة، المصوَّرة و المسموعة. تفاهاتٌ لا رأسَ لها و لا جسد. تفاهات عبارة عن كلام فارغ لا يحمل و لو أدنى درَّة من الفكر. كلام من أجل الكلام، هذا إن لم يكن ساقِطا و خادِشا للآداب و العواطف. ناهيك عن الأسلوب و الكلمات التي تُصاغ بها هذه التفاهات. فكل مَن جادت قريحتُه بتفاهةٍ، ينشُرها على صفحتِه لتُصبحَ كونيةً و متداولةً على نطاق واسع. و بما أن روادَ التفاهة كُثُرٌ، فإنهم يتقاسمونها لتنتشِرَ كالسرطان.
ثانيا، إن فشلَ المدرسة في بناء الإنسان المغربي، المتفتِّح فكريا و اجتماعيا و المشبَّع بالفكر النقدي، يُساهِم في خلقِ التفاهة و انتشارِها بحكم غياب قدرة تحليل الأفكار و الأوضاع و إِصدارِ الأحكام و الآراء الشخصية. يُضاف إلى هذا الفشل الهدرُ المدرسي الذي، بسببه، عددٌ هائل من المُتعلِّمين يغادرون على الخصوص التعليم الابتدائي و الإعدادي بدون نُضج فكري. و بما أن هؤلاء المتعلِّمين، في هذه السن، يُقبلون إقبالاً جنونياً على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنهم يعزِّزون صفوفَ مُنتِجي التفاهة.
ثالثا و مما يُؤسفُ له، هو أن التفاهةَ تجد مَن يشجِّعها و يزكِّيها داخل بعض الأوساط الرسمية و بعض المؤسسات العمومية. و هذا شيء معمول به في مجال الفن و الثقافة على الخصوص. و الدَّليل على ذلك، بثُّ بعض المسلسلات و السَّيتكومات على قنوات الإعلام المرئي، التي هي تجسيدٌ صادمٌ للتفاهة إِخراجاً، حِواراً و أداءً. مسلسلات و سيتكومات لا تحترم لا معاييرَ الجودة و لا ذوقَ المشاهدين. مسلسلات و سيتكومات خالية من الموضوع و لا تحمل أية رسالة اجتماعية، ثقافية و أخلاقية.
غير أن أخطرَ سببٍ يمهِّد لتكوين لوبيات التفاهة يتمثَّلُ في وصول رواد التفاهة إلى مراكز القرار و تدبير الشأنين العام و المحلي. و وصول هؤلاء الرُّواد إلى هذه المراكز شيء سهلٌ في بلاد تغيب فيها أخلاقيات المهنة و تسود فيها المحسوبية و الزبونية و "باك صاحبي" و "ادهن السير إسير" و لا تتوفَّر فيها أدنى معايير الجودة و السُّمو الفكري و الثقافي... و بما أن التفاهةَ تجلُبُ التفاهة، فتعميمُها يصبح سهلا، إن لم أقل شيئا عاديا. و هذا هو ما نلاحظه في بعض وسائل الإعلام.
أما أخطر الخطورات هو وصول التافهين إلى عالم السياسة. و هذا الوصول هو الآخر سهلٌ ما دام المشهد السياسي فاسد حتى النخاع. و لا نحتاج إلى مِجهر لنلاحظ وجودَ التافهين في جميع مرافق الحياة العامة. إنهم موجودون في البرلمان، في الجماعات الترابية و ما أكثرهم و في الإدارات العمومية… و بما أن فاقدَ الشيء لا يعطيه، فإن هؤلاء التافهين قد يساهمون في خلق و إنتاج و نشر التَّفاهة على نطاقٍ واسعٍ.
و بما أن التَّافهَ غير واعٍ بتفاهته، فإنه يعتقد أنه على صواب. و هذا شيء منطقي ما دام هناك شريحة عريضة من الناس يستقبلون تفاهتَه بصدرٍ رحبٍ. و هنا تكمنُ الخطورة حينما يعتقد التافهون أن تفاهتَهم تعقُّلٌ و رزانةٌ و وقارٌ.
و التافهون، بجرَّة قلمٍ جاهلٍ أو نُطقِ لسان متطفَّلٍ، يضربون عرضَ الحائط كل قواعد التحليل و النقد و يُطلقون العِنانَ لأهوائهم الصادرة عن أدمغةٍ تسعى إلى الشهرة من أجل الشهرة و لو على حساب الأخلاق و القِيم و الأعراف.
يكفي مثلاً أن نستمِعْ لبعض البرلمانيين و هم يتحدثون عن قضايا البلاد و العباد. لا شكل ولا مضمون. لا خلفية فكرية و لا بعد نظر. تطفُّّلٌ على السياسة و على الشأن العام. و لنقرأ ما يُكتب و يُنشر على صفحات مواقع التَّواصل الاجتماعي و بالأخص من طرف بعض الشباب المُمَدْرَس. فراغ فكري، أدبي و لغوي. بل كلام سطحي يعبِّر عن فُقدان القدرة على التحليل و النقد و الإبداع. لا يقرؤون المقالات الفكرية التي تدعو للنقاش. باختصار، سواء تعلق الأمر بالفن أو الثقافة أو السياسة، طامَّة كبرى.
و ختاما، ما أريد أن أُثيرَ له الانتباهَ، هو أن التفاهةَ سريعة الانتشار لأنها تجد أرضا خصبةً تستقبلها، تُنعِشها و تضمن استمرارَها. أما الفكر و الثقافة الفكرية و التَّفتُّح الفكري و الفكر النقدي...، عواملٌ يبدو أنها لم تعد تشغل بالَ المجتمع و قبله المدرسة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى