خيري حسن - من أجل جَمال (الست فاتن) وجَمال (الست بهية) وجَمال( بلدنا - أم الدنيا)

(ميدان الجيزة ـ 2009 )
أذان العصر ينطلق من "مسجد الاستقامة" القريب. وأنا أتحرك بسرعة حتى وصلت إلى محطة سيارات الميكروباص في نهاية الميدان.
ـ مدينة الإنتاج الإعلامي يا أُسطى؟
ـ اتفضل يا بيه!
ـ في الطريق يرن هاتفي الجوال. اسم "رولا خرسا"
ـ ألوه.. ألوه..
ـ هل وصلت للاستوديو؟ وقبل أن أجيب. قالت بكلمات خاطفة: "هل تعرف أن اليوم هو ذكرى ميلاد الفنانة الكبيرة فاتن حمامة( رحلت فى 17 يناير - 2015)؟
ـ لا!
ـ حاول الوصول لها، لنجري معها محادثة تليفونية ـ على الأقل ـ في البرنامج الليلة بمناسبة عيد ميلادها. أرجوك حاول.. حاول بجد"!
ثم أغلقت الهاتف.
اليوم أُولى حلقات برنامجها (الحياة والناس مع رولا خرسا) على قناة "الحياة الثانية" وأنا - بالصدفة- أصبحت معداً في فريق العمل. السائق يدخل في نقاش حاد مع راكب بجواري بسبب أغنية شعبية (إن شئت الدقة: سوقية) يراها الراكب مفُسدة للذوق العام، ويراها السائق تلخص حياته الحزينة. النقاش انتهى لصالح السائق. وسكت الراكب بجواري ملتزمًا الصمت! أما صوت الكاسيت فما زال يرسل لنا صوت المطرب.
الآن أفكر في رغبة رولا خرسا في أن تكون أُولى حلقاتها الليلة متضمنة صوت "سيدة الشاشة العربية".
هذا ـ إن حدث ـ فهو بالمفهوم المهني - "خبطة" إعلامية !
لكن فاتن حمامة لم تظهر منذ 10 سنوات تقريباً، لا صورة ولا صوتاً في أي وسيلة إعلامية أو صحفية.
وأنا ـ رغم عملي بقسم الفن بصحيفة ـ لم أفكر في الوصول إليها، فهي من هي.. الجميلة، الكبيرة، والنجمة العظيمة، و.. و.. "ست الستات" -كما وصفتها لي، قبل سنوات، سيدة صعيدية اسمها "الخالة بهية" جاءت إلى العاصمة هرباً من الفقر والقهر، واستقر بها الحال في محطة سيارات أتوبيس، نقل عام، في حي مصر القديمة اسمها "أثر النبي" - (اليوم ليس للمحطة أي أثر) ـ حيث كانت تجلس من الصباح للمساء تبيع الشاي للسائقين والركاب.
***
( مصر القديمة ـ 2004)
ـ كوباية شاي يا "خالة بهية".!
تنظر بوداعة: "يا واد أنت شكلك صغير .. أنت راكب أتوبيس كام؟"
رديت: أنا لست سائقاً ولا كمسارياً ـ وإن كان شكلي يوحي بذلك ـ لكنني استقليت أتوبيس خطأ من ميدان التحرير بهدف الوصول للمعادي، فجاء بي إلى هنا!
ردت: "والنبي باين عليك ابن حلال.. عموماً.. المعادي ليست بعيدة عن هنا".
وقبل أن تعطيني كوب الشاي سألتني: "وأنت بتشتغل إيه ؟"
ـ صحفي تحت التمرين.
ردت: "على كده بقى بتشوف الناس الكبار؟!".
ـ ليس كل الناس.. أنا أعمل في قسم الفن (التمثيل يعني)!
ـ طيّب والنبي يا افندي، منين ما تشوف ست الستات، فاتن حمامة، بلغها سلامي!
كنت قد فرغت من كوب الشاي وودعتها بكلمات بسيطة فرمقتني بنظرة حنونة وهي تقول: " ابقي قول لها 'خالتك بهية' تحبك منذ كنت غاضبة، وثائرة، وباحثة عن حق 'هنادي' في فيلم 'دعاء الكروان' من (إللي ما يتسمّى).. المهندس إللي غواها.. ولا تنسى أن تقول لها 'ياما لسه يا ست أمنة' ـ (تقصد اسم الشخصية في الرواية) ـ وسطينا كتير 'هنادي' لكن لا يشعرن بهن أحد..!
قلت: "حاضر يا ست بهية.. هبلغها سلامك!
***
( الطريق ـ بعد 30 دقيقة)
السائق ينادي بصوته المرتفع: "وصلنا مدينة الانتاج الإعلامي.. اتفضل يا أستاذ".
نزلت من السيارة وترجلت حتى تخطيت البوابات الأمنية، في الطريق الداخلي أفكر في كيفية الوصول لرقم هاتف فاتن حمامة. وإن وصلت واتصلت. هل سترد عليّ ؟
بعد تفكير. اتصلت بالدكتور أشرف زكي ـ نقيب الممثلين وقتها ـ والآن أيضاً - وشرحت له الموضوع. رد: "يا خيري هذا صعب جداً. الأستاذة لا تتحدث مع الإعلام مطلقاً. عموماً خذ رقم صديقتها وحاول معها وأنت ونصيبك".
وبالفعل اعطاني رقم صديقتها ـ اسمها 'نادية' على ما أذكر ـ واتصلت بها على الفور.
***
( الاستوديو ـ بعد 30 دقيقة )
هاتفي يرن.. - "آلو.. آلو.."
ـ يا أستاذ.. أنا مدام نادية.
ـ أهلاً يا أفندم ..
ـ أنت حظك حلو ..الأستاذة فاتن وافقت على المداخلة التليفونية.. خذ هاتفها الأرضي وهي في انتظارك!
ـ أنا أكلمها ؟!!
ـ آه..
ـ فاتن حمامة ذات نفسها؟!
ترد: " أيوه .. ألم أقل لك إنك محظوظ"؟
بعد دقائق جاءت رولا خرسا.. سردت لها ما حدث. قالت:" بعد دقائق سأكون على الهواء، وعندما تكون مدام فاتن معك على الخط أبلغني على الفور". ثم تركتني ودخلت الأستوديو سعيدة.
***
(غرفة الكنترول ـ بعد 20 دقيقة)
ـ" الوه .. أهلا يا أستاذ.. اسمك إيه"؟
ـ أنا؟
- آه
- حضرتك الأستاذة فاتن حمامة؟
- "أيوه"
- فاتن حمامة.. فاتن حمامة ذات نفسها؟!.
تضحك بصوت رقيق.. "أيوا أنا. إيه مش باين على صوتي.. شكلك عايز تقول أني كبرت بقى .. لا.. دنا لسه شباب زيكم وأكتر كمان"؛ تقولها وهى تواصل ضحكتها الطيبة، الصافية.
ـ "لا يا أفندم ..أنا فقط مرتبك، وفرحان، ومبسوط.
تعود لضحكتها وبصوتها الهامس تسألني عن موعد ـ ومدة ـ المداخلة.
ـ "حالاً يا أفندم .. ثواني .. مدام رولا ستكون معك على الهواء".
وبدأ الحوار معها، مما جعل إدارة "قنوات الحياة" ـ حينذاك ـ تعتبر هذه المداخلة ـ وهي بالفعل كذلك ـ انفرادًا إعلامياً فقامت بضم القناتين: (الحياة (1)- الحمراء) والحياة (2)- المووڤ) في بث واحد مشترك، وكُتب على الشاشة: (تلتقون الآن مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة).
***
( ستوديو الهواء ـ بعد مرور دقائق )
استغلت رولا خرسا اللقاء وادارت معها حديثاً إنسانياً رائعاً تحدثت خلاله عن سبب ابتعادها في الآونة الأخيرة عن المشهد، وعن حبها للتمثيل الدائم والمتجدد، وعن جمهورها الذي تتمنى العودة إليه بعمل جيد يضيف لرصيدها لدى المتلقى. واستمر الحوار بينهما لمدة 10 دقائق تقريباً.
أنا مازلت أقف مكاني في 'الكنترول' غير مستوعب ما حدث حتى الآن. رغم انه حدث بالصدفة وبتشجيع وإصرار من رولا خرسا نفسها. ثم عاد الخط لي.
ـ نحن سعداء يا هانم بوجودك معانا على الهواء هذه الليلة.
ـ "أشكرك.. قوللي كان حديث كويس"؟
ـ طبعاً . طبعاً..
ـ "طيب يا حبيبي.. أشكرك وإلى اللقاء" ..
ثم أغلقت الخط.
في هذه اللحظة ـ بعدما هدأت الأمور حولي في الاستوديو. وانفض الزملاء وجاء عامل البوفيه لي بفنجان قهوة وسط حالة من التهنئة من الزملاء بهذا الانفراد.
جلست مسترخياً بعض الشيء، وفجأة تذكرت ما دار بيني وبين الخالة "بهية" قبل سنوات، ورغبتها في أن أُبلغ سلامها لـ"الست فاتن" إذا ما التقيت بها. وبقدر ما كنت سعيداً بهذه المقابلة، وسط التهاني الحارة من الزملاء، بقدر ما حزنت أشد الحزن؛ لأني(نسيت) وصية الخالة بهية التي كانت تريد فيها أن أُبلغ الست فاتن حبها الجارف لها بسبب دورها (آمنة) في فيلم "دعاء الكروان".
و ***
وبعد سنوات.. ماتت الخالة "بهية"، وماتت السيدة "فاتن حمامة"، أما محطة أتوبيس "أثر النبي" في حي مصر القديمة، فلقد تحولت إلى مخزن للسيراميك.. كلما مررت بجواره - وهي مرات قليلة - يأتيني صوت الكروان مغرداً في الفضاء: "الملك لك.. لك..
يا صاحب الملك"

--------------------
خيري حسن


• الأحداث حقيقية ..والسيناريو من خيال الكاتب.
• المقال.. إعادة نشر من أجل،،
جَمال الست (فاتن)
وجَمال الست (بهية)!
وجَمال ( بلدنا - أم الدنيا)!


الصور :
فاتن حمامة.




1673907748834.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى