خالد جهاد - البوح على مفترق طرق

لم يكن من الشائع في ثقافتنا وعلى امتداد بلادنا التحدث بصراحةٍ وانفتاح عن حياتنا الشخصية ومشكلاتنا الخاصة، إذ كان ذلك نوعاً من المحرمات وأحياناً أشبه بالجريمة التي لا تغتفر إن كان ذلك من المجتمع أو الدائرة القريبة منا، وبرغم وجود الكثير من الأعمال الأدبية أو الفنية التي ناقشت المشكلات الأسرية بدءاً من العلاقة بين الزوجين وصولاً إلى مختلف تفرعاتها ونتائجها وآثارها على الأبناء وأفراد العائلة والأشخاص من الناحية النفسية والسلوكية عبر السينما والتلفزيون والإذاعة والصحف والمجلات إلاّ أنها فعلياً لم تستطع حث الناس على البوح والتحدث ولكنها جعلتهم أكثر وعياً وإن كان ذلك أيضاً ضمن نطاقٍ محدود، حيث ظل هناك اعتقادٌ راسخ لدى العامة بأن ما يظهر على الشاشة هي نوعٌ من تجسيد الفنون للقصص (البعيدة) عن الواقع، ومن وقت لآخر كانت التغطيات الإعلامية والبرامج الإجتماعية التي تعرض حالاتٍ مختلفة من صميم حياتنا اليومية تتحرك في حيزٍ ضيق سواءاً كان ذلك من حيث اختيار المواضيع والمشاركين أو عرضهم من دون إظهار وجوههم إضافةً إلى تغيير صوتهم وهو ما جعلهم في أذهان الناس(بعيدين عنهم) وليسوا قريبين من بيئتهم (التي لا يحدث فيها ذلك قطعاً)، بحيث قد لا يدرك الشخص نفسه أنه شخصياً أو أحد أفراد أسرته حالةٌ تشبه تلك الحالات التي يشاهدها عبر وسائل الإعلام ويتناقل الجميع قصتها..

ومع بداية دخول ثقافة الطب والعلاج النفسي وتزايد الحديث عن ضرورة التوعية والإهتمام بالصحة النفسية منذ قرابة ربع قرن بدأت الأوضاع تتبدل تدريجياً وإن كان أيضاً على نحوٍ بطيء ولم يصل إلى النتيجة المرجوة حتى الآن، وكان انفتاح الإعلام الغربي نفسه في الحديث عن التجارب الخاصة والحياة الشخصية هو البداية لفتح باب التغيير على مصراعيه نحو تعميم ثقافة البوح، والذي تبعه محاكاة ونقل لتجربته عبر الإعلام العربي والعديد من الدول حول العالم، وكانت لتجربة الإعلامية الأمريكية الشهيرة أوبرا وينفري في الكشف عن حادث اعتداء عمها عليها وتحرشه بها صدىً واسع اتسع ليشمل مختلف البلدان ومنها بلادنا، كما كان لها إسهامات في الإضاءة على قضية الإعتداء الجنسي على الأطفال وفتح المجال للأشخاص العاديين للحديث عن تجاربهم المؤلمة والصعبة والتي شملت تعرضهم للعنف والتمييز والإضطهاد سواءاً كان ذلك في ضمن أسرتهم أو خلال رحلة حياتهم في وقت لم يكن الحديث فيه عن هذه التجارب الشخصية علنياً أمراً مألوفاً، وبطبيعة الحال بعد بدء انتشار واستنساخ التجربة التليفزيونية لأوبرا وينفري وغيرها من التجارب الغربية البارزة وتقديم نسخة عربية أو محلية منها لم يتلقف إعلامنا المتعطش إلى التجديد هذه الفكرة أو يتعامل معها في مختلف الدول العربية بشيءٍ من الحكمة أو حتى الموضوعية أو المهنية، بل انزلقت أسماء معروفة ولامعة إلى تقديم البرامج الإجتماعية بشكل مشوه وبعيد عن ما يجب أن تكون عليه من رقي وحرفية من حيث دراسة الحالة قبل تقديمها والتعاطي معها بإنسانية والتفكير فيما ستقدمه هذه التجربة من توعية للمشاهد والمجتمع وتأثيرها عليه، ولكن تم تقديم مختلف أنواع القصص دون مراعاة لأي اعتبارات طالما أن نسبة المشاهدة والإعلانات في تزايد وطالما أن أسمائهم وبرامجهم هي (حديث الساعة) الذي (يزيد من أجرهم في السوق الإعلامي والإعلاني) واعتبارهم ذلك نوعاً من النجاح عملاً بمبدأ (أي نوع من الدعاية هو دعاية جيدة)..

وبالطبع لا يمكن لأي شخص إنكار أن العديد من البرامج والحالات التي تابعها الجمهور على امتداد بلادنا ساهمت في زيادة وعيه نحو وجود الكثير من المشكلات من حوله أو حتى داخل منزله وساهمت في التغيير نحو الأفضل ولو جزئياً، وأعطت الكثير من الأشخاص الفرصة لطلب المساعدة أو ساهمت في حل مشكلاتهم أو توجيههم نحو من يستطيع مد يد العون لهم أو حمايتهم أو تثقيفهم ليستطيعوا الحصول على حقوقهم، ولكن طريقة تعامل الإعلام ومنطقه المادي الحالي إضافة إلى أسلوب استنساخ كل ماهو غربي جعل نسبة كبيرة من هذه البرامج التي حظيت بإحترام الناس في تراجع بعد ابتعاد الكثيرين عن متابعتها، فالبرامج التي يفترض أنها تفيد الناس وتعرض قضاياهم تحول الكثير منها إلى (صحافة صفراء متلفزة وإعلام يقوم على الفضائح)، فهل يمكن فقط لأجل زيادة نسبة المشاهدة أن نستضيف أشخاص ونماذج وقحة وغير سوية ليقدمها بعض الإعلاميين تحت مسمى (ثقافة البوح وشجاعة الإعتراف) على قدم المساواة مع نماذج تمتعت بالشجاعة لتعلن عن عنف أو تمييز أو اضطهاد عاشته بسبب الفقر أو اللون أو غيرها من المشكلات وأتت تطلب الدعم بشكل حضاري، أليس من الغش وغسل العقول أن نستضيف أشخاصاً لا يخجلون من المجاهرة بخيانتهم لأزواجهم أو فضح تفاصيل حميمية لا تخصهم وحدهم بل تعني أبنائهم وعائلاتهم ونستضيف على نفس المقعد نماذج لعمالة الأطفال واغتصاب الطفولة وانتهاكها.. ويقال لكليهما في نهاية الحلقة (أحترم صدقك وشجاعتك، أقدر جرأتك وقدرتك على البوح)..

هناك فرق شاسع بين من يبوح بحثاً عن مساعدة بعد يأسهم وكتمان معاناتهم لسنوات، وبين شخصيات مريضة تؤذي غيرها تحت ذريعة أنها تعرضت للعنف والإهمال العاطفي والخيانة لأنها بحاجة إلى مساعدة داخل عيادة للطب النفسي فيما يقدمها الإعلام ويستفيد منها على أنها (شجاعة وجريئة وحرة)، وما هذا إلاّ جزء من سلسلة الأفكار والمفاهيم المشوهة للعديد من القيم ومنها الشجاعة والجرأة والحرية التي لا زال الكثيرون عاجزين عن فهم معناها الحقيقي ويريدون تصديرها لنا بعد تشويهها لتتناسب مع مصالحهم، وهو ما جعل نسبة ليست بالبسيطة من الناس تتأثر بهذه البرامج وتقوم بسلوكيات مشابهة لنماذجها أو على الأقل تتقبلها وتبررها في ظل وجود شماعة نعلق عليها أخطائنا وأوجدتها المعالجة التليفزيونية لهذه المشكلات والتي أصبحت مبرراً لعامة الناس..

ولكن هذه البرامج فاتها أننا جميعاً بالغون راشدون محاسبون على أفعالنا، لأننا وإن عشنا مراحل مؤلمة في حياتنا لا زلنا نملك اختيار الطريق الذي نريد أن نسلكه وإلا تحول هذا الكوكب إلى غابة تحت ذريعة الظروف أو النشأة القاسية التي مر بها الكثيرون وينبغي أن نتعلم منها لا أن نجعلها مبرراً لأذى الغير أو ارتكاب الجرائم، والبوح هو مرحلة مفصلية في حياة كل إنسان يضعه على مفترق طرق ولا يعود بعده خطوةً إلى الوراء، وهو وحده من بيده أن يختار طريقه بين خير أو شر ويتحمل تبعاته لأن كل الأعذار ستتلاشى وسيبقى كل منا وحده مع ما اختاره..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى