عبد الواحد حجّي - استطيقا التّعكير في"أنبئوني بالرؤيا" لعبد الفتاح كيليطو.. ترجمة : إسماعيل أزيات

"النّقاء أمّ كلّ العيوب. ثقافة اليوم لا يمكن أن تكون إلاّ عكرة، مختلطة، ابنة لآباء كثر، هجينة ولذلك هي مبتهجة." خوان غويتيسولو.


يطرح الأدب الحديث علينا وعلى نفسه مسألة الأنواع. نشهد اليوم على نصوص متشظّية على صعيد بنياتها الشكلية والموضوعاتية. بالتأكيد، يفضي تشظّي الأنواع إلى إبداع يتجاوز الحدود التجنيسية، كذلك تؤذن النصوص المفتوحة بآفاق غير مطروقة. هكذا يتشكّل النص من تلاق بين البحث النقدي والمحكي القصصي والأوتوبيوغرافيا إلخ. تصير الحدود متحرّكة وغير واضحة، وهذا الوضع حذا بـ"غي سكاربيطا" أن يمنح لهذا الخليط النصّي صفة استطيقا التّعكير. هذه الأخيرة وُلدت، أنطولوجيا، في زمن تراجيدي. التّعكيرهو استطيقا ما بعد حداثية تضع الحدود التجنيسية موضع إشكال وتجعل من الأدب، بالضرورة، فضاء ذا أبعاد متعدّدة. بهذا الخصوص، يجعل عبد الفتاح كيليطو من استطيقا التّعكير صلب كتابته. من الوهلة الأولى يطرح إشكال الأنواع نفسه عليه لأنّ كتابته تحطّم سنن الكتابة الكلاسيكية وتدمج أنواعا أخرى "أجنبية" عن النص القديم. كيليطو ــ الكاتب مزدوج اللّسان ــ هو كذلك مفكّر يتحاور مع ميراثات عديدة، مع تصوّرات لغوية وثقافية أخرى.
هكذا تكون كتابة كيليطو صدى لاستطيقا التّعكير لأنّها، بصورة ملحوظة، تفتح نصّها على مسائل مختلفة، متعلّقة بالهوية، بالغيرية، بالأدب إلخ، كما أنّها تتميّز باللّجوء إلى الارتياب وإلى اللّعب. كلّ هذه التقنيات تسمح للنص أن يمتلك زاوية نظر متغيّرة الشّكل، متقلّبة. يعتمد الحكي عند كيليطو على خطاب فكري وتأمّلي. يصير النص متعدّدا، وبالضرورة، عكرا، غير نقي. لكن، ما هو بدءا هذا التّعكير؟ أين يتجلّى؟ التّعكير، بالنسبة لـغي سكاربيطا، هو استطيقا ما بعد حداثية تدلّل على نهاية الطّليعية المتّسمة بالراديكالية وبتصنيف الأنواع حسب خاصياتها القارّة والثابتة. لمحاولة أن نرى بوضوح، سنسائل ظاهرة التّعكير في "أنبئوني بالرؤيا" لعبد الفتاح كيليطو. لكن قبل ذلك، لنحاولْ تحليل مفهوم استطيقا التّعكير.
1 ـ التّعكير: استطيقا ذات منظورات مفتوحة ومبدعة
بداية، التّعكير هو استطيقا ما بعد حداثية، وُلدت في إطار إشكالي، أقصد في إطار ما بعد الحداثة. هذه الأخيرة هي تأزيم للحداثة ومساءلة متجدّدة للأسس النظرية والفلسفية لمشروع الأنوار الذي تحوّل إلى إيديولوجيا السّوق. بالنّتيجة، جاء التّعكير في هذا السّياق التراجيدي بالأساس ليعيد التفكير (بشكل آخر) في مسألة الأنواع. النص العكر، غير النقيّ هو نص متشظّ يتجاوز فيه النّوع حدوده. هذا التشظّي هو كذلك مصدر للحيويّة ومنبع للإبداع الأدبي. من المناسب القول كذلك إنّ استطيقا التّعكير تتيح اللّقاء بالآخر؛ لأنّ التقاء النّصوص فيما بينها يستتبع اللّقاء بالآخر. إنّها تسمح بمعايشة استطيقا متعدّدة الوجوه في صلب النص الأدبي. درس استطيقا التّعكير، إن كان لها من درس، هو أن تخلق هوية ــ فضاء كونيا حيث كلّ فنّ / نص هو كتاب خليط.
التّعكير هو فلسفة حوارية تتصوّر الفنون في اقترانها. لا يتعلّق الأمر بمحو الأنواع لكن بتشظّ يفسح المكان لأدب ذي منظورات مفتوحة. ولذلك فإنّ النص العكر، غير النقي هو نص متعدّد الرؤى يضع أسئلة تتجاوز الحدود التجنيسية. الأمر هنا يتّصل بتشكيل نص في منتصف الطّريق ما بين أنواع تتغذّى أساسا من تشابكها وعدم اكتمالها. إنّ التّعكير هو، بالفعل، نهاية للطليعية المتّسمة بالممنوعات وبالتصنيفات الأنواعية. في إطار هذه الرؤية، يكتب غي سكاربيطا "[...] بعد هذه المرحلة من الممنوعات، والطابوهات، والتقشّف، صار الأمر متعلّقا بإعادة العثور على معنى اللّعب، معنى المتعة، بالتخلّص من الترويعات النّظرية المزيّفة؛ ليس من "خطوط"، كما يمكن القول، بل انحرافات، اندفاعات، حركات ترحال، تنافرات، جذامير، نجود ألف." (سكاربيطا، ،1985، ص14).
إنّ الأدب المرتحل هو أدب جذموري كي نأخذ اصطلاح جيل دولوز. ولذلك فإنّ التّعكير يخلط الأنواع فاتحا مجالي الفنّ والأدب على آفاق ظلّت، إلى حدّ الآن، خارجة عن المتناول. إنّه استراتيجية "[...] تنطلق من تحدّي فن لآخر لتجاوز تعارضهما والوصول إلى تشكّل عكر، غير نقي، هجين، حيث في إمكان فنون أخرى أن تجاورهما." (المرجع السابق،ص34). يتحدّد الأمر بإزالة حواجز الأنواع وبخلق نص متعدّد المنظورات. بالنسبة لـغي سكاربيطا كذلك فإنّ "هذه المرحلة من الاضطرابات، من التشويش، من الحركات المختلّة، في كلّ أتّجاه، المتخلّصة من التشنّجات الدوغمائية لما كان عليه الحال بالأمس" (المرجع السابق، ص19) أعادت مساءلة راديكالية الطليعية التي قاربت على الانتهاء. لنلخّصْ: استطيقا التّعكير هي تشظّية لأنواع تستجيب لأزمات تعيشها الحداثة داعية النص إلى غيرية نصية.
2 ـ إشكال الأنواع في "أنبئوني بالرؤيا" لعبد الفتاح كيليطو
وريثة إرث غني ومتنوّع، تتميّز كتابة كيليطو بتشظّ الأنواع. منذ نصّه الأوّل "خصومة الصور"، يواجه النقد الأدبي صعوبة في تصنيف عمله. الحقيقة أنّ إشكال الأنواع يسم كتابته المنتهكة لها. يتبنّى حكيه، بالفعل، خطابا فكريا تأمّليا، مطوّرا، على هذا النّحو، كتابة متعدّدة، بصيغة الجمع: forme tierce. بناء على هذا المعطى، فإنّ نصوص كيليطو نصوص عكرة، غير نقيّة تدمج في صلب النص السّردي تأمّلات فكرية ونظرات نقدية إلخ. هذا، بالطبع، هو حال "أنبئوني بالرؤيا" الذي تبدو هويّته غير واضحة وكدرة، وحيث يقيم كيليطو صلات وروابط بين الأنواع: هذا النص المتشظّي يسرد وينقد في نفس الآن، يتعلّق الأمر، تبعا لذلك، بمحكي مسرود يضع الأنواع موضع إشكال.
السّارد ــ الشّارح أو المفسّر يحلّل حكايات. تتبادر إلى الذهن حكاية "نور الدين والحصان". ولذلك فإنّ تعليق السّارد يدخل في "حرب" تأويلات. بمعنى آخر، إنّ تحليل الحكاية يبرز، بجلاء، التشظّي الذي يميّز "أنبئوني بالرؤيا". لنقلْ إنّه من خلال تحليل الحكاية ، فإنّ التّعليق أوالشّرح يجاور السّرد. لنأخذْ هذا المقطع كمثال: "هنا تنتهي الحكاية. لا حاجة لذكر حيرتي أمام هذا النص ألقت به المصادفة بين يديّ. لم أتعرّف عليه في أيّ مكان، ولا في أيّ طبعة، وفي حدود علمي لم يشر إليه أيّ باحث. لم لا أعتقد أنّي ضحية مخادعة أو مزحة سخيفة، لأنّ الاكتشاف حصل في ظروف تستبعد كلّ تلاعب تدليسي أو مشبوه. لكن هل يتعلّق الأمر بحكاية من ألف ليلة وليلة؟ هل وقعت حقا على حكاية لم يسبق نشرها أفلتت حتى الآن من يقظة المتخصّصين؟" (عبد الفتاح كيليطو، الأعمال، ج 5، دار توبقال 2015، ص241). إنّ نص كيليطو ، بالفعل، بحث نقدي في صيغة سردية يفكّر في الأدب متجاوزا الحدود التجنيسية. تجدر الإشارة إلى أنّ الرّواة في "أنبئوني بالرؤيا" يستشهدون أحيانا بأبيات شعرية يطغى عليها السّرد "اسمع ما كتبه شاعر قديم آخر : إنْ يوما أحببت امرأة /// لا تسع إليها منتابا. امكث في بيتك لا تبرحْ /// هي يوما تطرق البابا" (المرجع السابق، ص248). يتعلّق الأمر بشعر ذي نبرة سردية يتمّم الحكي والتحليل. بالإضافة إلى ذلك، هناك تكامل بين الأنواع في صلب "أنبئوني بالرؤيا"، ممّا يجعل التشظّي يخلقا نصا استطيقيا حيث تغدو الأدبية عنصرا يزيد البنية الداخلية للنص جمالا.
على ضوء هذه الآراء، يكون "أنبئوني بالرؤيا" نصا "هجينا" يضع الأنواع موضع السّؤال. يتعلّق الأمر بنص تبدو هويته إشكالية ما دامت تتموضع على تخوم الأنواع. يمكن الحديث عن نص ــ قارّة. ضمن هذا المدى، تكشف أمينة عاشور اقتدار كيليطو الإبحار بيسر وسهولة بين الأنواع :"فضلا عن الحرية الفكرية التي يتمتّع بها، نجد عنده قدرة هائلة على التنقّل بي الأجناس الأدبية. يتحرّر من القيود الأكاديمية كي يجعل من الإبداع الفضاء الأمثل للتأمّل الأدبي." ( كيليطو .. موضع أسئلة،دار توبقال 2017، ص8). يغذّي تشظّي الأنواع عند كيليطو الإبداع الأدبي، كذلك هي كتابته جسر ممتدّ بين الأدب، الفلسفة والميثولوجيا.
كيليطو هو أيضا ناقد ــ كاتب يضع نصّه في منتصف الطّريق بين المقال النقدي والحكي القصصي. وعلى هذا الأساس، فإنّ "أنبئوني بالرؤيا" نص يُقرأ كبحث اتّخذ شكل سرد. كتب كيليطو بهذا الخصوص ما يلي:"شخصيا، أنا لم أحدّد نوعه. فلا وجود على الغلاف لما من شأنه أن يبيّن النّوع. لكنّ الكتاب ظهر ضمن مجموعة "محاولات نقدية" في منشورات سندباد ــ أكت سود. يمكننا إذن أن نعدّه "محاولة نقدية" (المرجع السابق، ص93). إنّ بنية نصوص كيليطو هي، جوهريا، شذرية ومتعدّدة الأصوات. الشّذريّة كتابة تهوى الحذف والانقطاع. هذه الكتابة الشذريّة جزء من استطيقا التّعكير بما أنّها تسمح باستطرادات نقدية وفلسفية ضمن ما هو سردي.
بالقفز من موضوع إلى آخر، فإنّ استطيقا التّعكير تمسّ كذلك البنية الموضوعاتية للعمل. يثير الرّواة الأربعة لـ"أنبئوني بالرؤيا"، كلّ على طريقته، موضوعا مختلفا. مع ذلك، تظل موضوعة الأدب محورية تلتفّ حولها كلّ الشّخوص. منذ اللحظة الأولى من النص، يصف السّارد علاقته مع الأدب. هذا السّارد يحلّل ألف ليلة وليلة ويبرز غنى هذا الكتاب النّاقص. طوال مقامه بالولايات المتحدّة، يصرّح السّارد بإعجابه بشخصية غامضة هي إيدا. هذه الأخيرة "امرأة ذات جمال مذهل. قدّمها لي السيّد هاموست تحت اسم إيدا (أو آدا، عايدة، إيدّا [...]" (كيليطو، العمال، ج 5، ص 231). فضلا عن ما سبق، يتمظهر التّعكير في صميم البنية الداخلية للنص كما في بنيته الخارجية. في الواقع، يهيمن جوّ الارتياب على كلّ النص ما دام النص يتغذّى، بصورة ملحوظة، من استطيقا الشكّ واستطيقا الشذرة. إنّ "أنبئوني بالرؤيا"، من هذا القبيل، لا تنمّي فقط تأمّلا حول الرؤيا ، بل إنّ هذه الأخيرة تصير جزءا من البنية الشكلية للنص.
التّعكير يمسّ البنية الخارجية للنص لأنّ النص منشور أولا في مجموعة "محاولات نقدية" وأيضا لوجود فهرس للموضوعات يعزّز تشظّي الأنواع مع أنّ الرواية، عند الاقتضاء، لا يلزم أن تشتمل على فصول.
لنقلْ إن استطيقا التّعكير هي كيفية لفتح أبواب ونوافذ النص وبلورة جمالية عابرة للثقافات كما يذهب إلى ذلك عبد الحق أعنون بخصوص "خصومة الصّور": "خلط الأنواع، تداخل الفردي والجماعي، التردّد بين الذاكرة والمتخيّل، والطبيعة الإثنوغرافية للموضوعات... باختصار، كلّ شيء يدعو إلى التّفكير أنّ هذه الرواية هي، في حدّ ذاتها، مغامرة حقيقية، هي بلورة لإستطيقا عابرة للثقافات تخصيصا تتوضّح من خلال الطابع المتعدّد والهجين لإحالاتها ولطرائقها في التأليف" (عبد الحق أعنون،2004 ، ص84).
كتابة كيليطو، هذا الشكل الآخر، هي بلورة لشعرية عابرة للثقافات. ولذلك تستدعي الغيرية النصيّة الغيرية الإنسانية. يكشف ما بين الأنواع الذي يتحدّث عنه أعنون الإشكال التجنيسي لنص كيليطو. إنّ "أنبئوني بالرؤيا" في الحقيقة، امتداح للاختلاف بما هو كذلك تقاطع نصوص. يخلق كيليطو نصا ــ سلالة بالنّظر إلى استدعائه لنصوص أخرى. يمكننا أن نذكر،من بين عدّة أمثلة، بارط الذي يحضر، بصورة ضمنية، في الفصل الثالث، أقصد "معادلة الصيني". يتحدّث السّارد فيه عن حكاية رواها رولان بارط. هكذا يخلق تشظّي الأنواع عند كيليطو جوّا من التردّد والارتياب. التشوّش سيكون، بالتأكيد، المدخل الضروري لـ"أنبئوني بالرؤيا".
3 ـ حكمة الارتياب
الارتياب، بحسب ميلان كونديرا، هو حكمة متّصلة بميلاد الرواية. الارتياب يضاعف فعليا من تأويلات النص. على هذا الصّعيد، فإنّ "أنبئوني بالرؤيا" هي نشيد مرفوع لامتداح الارتياب. من الشخصية الروائية إلى الحكي، من الشرح إلى الشّعر، ينشئ النص فضاء من الشكّ. الارتياب هو التقنية التي يستند إليها الكاتب كي يخلخل الحقائق المقرّرة سلفا. منذ الاستهلال، نقرأ :" سمّوني إسماعيل"ما يعني أنّ اسم السّارد ليس إسماعيل أوهو، ربّما، لاأحد. ثمّ تأي بعض الفصول مشحونة بالشكّ وبالتّساؤل إذ يعبّر السّارد عن ارتيابه تجاه الوقائع المسرودة والخاضعة للفحص كما يتجلّى ذلك في هذا المقطع :"كلّ هذا مؤثّر للغاية، لكن شكوكا تنبثق، مشوّشة صفاء اللّوحة.أفعلا قرأت هذا الكتاب في الطبعة البيروتية المهذّبة؟ يروق لي اعتقاد ذلك، الله يعلم لماذا، لكن ما حقيقة الأمر؟ لنذهب أبعد: أقرأته وأنا طفل؟ ربّما أكون قد حاولت ولمّا فطنت لثرائه المبهظ، تخلّيت عن قراءته بعد بضع صفحات، بضعة سطور. الكتاب الأول؟" (كيليطو، الأعمال، ج 5، ص228).
انطلاقا من هذا المقطع الذي يتحدّث السّارد فيه عن ألف ليلة وليلة، يلوح الارتياب واحدا من أسس الكتابة عند كيليطو. الأسئلة الموضوعة على ذلك النّحو كما العبارات الافتراضيات تكشف كم هو النص يخلق شعورا بالتردّد والتشوّش. يظلّ المعنى، بالطبع، معلّقا وقابلا لأكثر من معنى لأنّه متعدّد وملتبس. الارتياب هو حالة تسمح للتأويل أن يكون ثريّا ومضاعفا. وبحسب أمينة عاشور، فإنّ هذا الارتياب "لا يقتصر التّشكيك على محتوى الكتاب، وإنّما أيضا على نوعه، وهويّته، فهل هو رواية أو محاولة نقدية؟" (أمينة عاشور، ص93). علاوة على ما سبق، يلفت كيليطو الانتباه إلى اللّبس الذي رافق ظهور هذا الكتاب :"عند ظهور الكتاب، أشير إلى النص الفرنسي على الشبكة على أنّه نُقل عن العربية، في حين أنّني ألّفته بالفرنسية. [...] لكن حدث ما هو أدهى من ذلك، خطأ كاد عبد الكبير الشرقاوي أن يؤدّي ثمنه.إلاّ أنّ صدفة سعيدة ، مكّنتني قبل الطبع النّهائي، أن أطّلع على غلاف الترجمة العربية حيث قرأت "ترجمة عبد الكبير الخطيبي"[...] وبتدخّلي في الوقت المناسب، قمت بعملية موفّقة، أنقذت الكتاب والمترجم معا." (أمينة عاشور، ص93).
يرمي الارتياب إلى نقد المعنى الجامد والمسبق للنص. إنّه، زيادة على ذلك، نقد للخصوصية وللحقيقة الواحدة. لنسجّلْ أنّ الشخصية الأنثوية إيدا تجسّد هذا الارتياب كما يشير إلى ذلك السّارد :" ليست هي إيدا. هي إيدا" (كيليطو، الأعمال، ج 5، ص240). هذه الهوية المتغيّرة هي صدى لهذا الارتياب الذي يخترق العمل كلّه من الغلاف إلى الغلاف. لنذكّرْ أنّ استطيقا عدم الإتمام أو النّقصان توسّع من الارتياب، وتجعل النقد ــ السّرد في صيرورة. إنّ عمل كيليطو إجمالا هو تنمية وتطوير لفكرة الاستمرارية وعدم الانقطاع.
4 ـ استطيقا النّقصان أو نشدان التتمّة
النّقصان أو نشدان التتمّة هو كذلك استطيقا توسّع من معنى النص. بهذا الخصوص، تكون "أنبئوني بالرؤيا" نافذة لا تنغلق، بل تواصل انفتاحها. ضمن هذا المنظور يكتب كيليطو:"في لاشعوري، كان هناك كتاب في طور المخاض، أنبئوني بالرؤيا، أحد فصوله يحمل عنوانا "إيدا في النافذة". نافذة مغلقة في نص تُفتح في آخر. حلم يسترسل ويمتد في الذي يليه." (أمينة عاشور، ص88). بالتّأكيد، كلّ تصنيف للنص سيكون متعذّرا، يظل معناه نسبيا وليس محدّدا مسبقا. النّقصان أو نشدان التتمّة استطيقا عابرة للثقافات تنسّب التّأويل وتجعل المعنى في صيرورة. لنذكّرْ إنّ الأعمال العكرة، غير النقيّة هي أعمال غير تامّة. هوية "أنبئوني بالرؤيا" تندرج ضمن هذا السياق لأنّها ليست مكتملة ونهائية. تحت ضوء النّقصان، لا يتوقّف المحكي دائما عند التوقّف النّهائي للسّرد. يعد بحكايات أخرى قادمة.
إنّ الأدب الحديث، ضمن هذه الرؤية، ينمّي هذه النصوص النّاقصة. لذلك، فإنّ حكايات "أنبئوني بالرؤيا" "[..] لا تصل أبدا إلى نهاياتها مثلما أنّ نسق تأليفها ينبني حتى على تعذّر حلّ مشكلاتها السردية والحكائية التي يطرحها المحكي" ( خالد الزكري، 2004 ،ص 39 النهاية الوحيدة للنص هي بداية جديدة له. الجملة الاستفهامية تؤمّن لانهائية النص كما يبرهن على ذلك خالد الزكري حين يرى "أنّ الجملة الاستفهامية تدلّ على احتمال لا تناه يضع القارئ في وضعية تفكير. هذا التفكير، مع ذلك، مختلف عن ذاك الذي يصبو إليه "النص الكلاسيكي" (بالمعنى الذي يعنيه بارط)، لأنّ غايته ليس أن تضيف إلى النص امتلاء، لكن أن تؤمّن له بداية جديدة من خلال إرجاء ما هو مدرج في النهاية." (المرجع السابق، ص147). النقصان هو تجلية لإشكال الأنواع يمنح النص مفعول البدء من جديد، الأمر الذي يضمن الاستمرارية التأويلية للأثر الأدبي، وبالنتيجة بقاءه على قيد الحياة. إنّه شكل متفرّد للاحتفاء بالاختلاف والتنوّع وبالفكر. إثارة البسمة بالغة الحضور في النص هي كذلك محرّض على التفكير وعلى نسبية هذا العالم.
5 ـ فكرة اللّعب وإثارة البسمة
إذا أعدنا صياغة عبارة كونديرا، فإنّ كتابة كيليطوتطرح أسئلة دون الحصول على إجابات أخرى عدا ابتسامة الله. إنّ فنّ التّأليف عنده يقترن بممارسات اللّعب وإثارة البسمة. يلاحظ عبد السلام بنعبد العالي أنّ أدب كيليطو يقع "فيما وراء الخير والشر". يتعلّق الأمر هنا بأدب لاــ أخلاقي. كيليطو نفسه يبوح بالقول:"صدّقني إنّه لولا وجه اللّعب الذي تتّخذه الكتابة، لما كتبت. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعب في الوقت ذاته بالكلمات والصور والذاكرة."(أمينة عاشور، ص7). اللّعب يحطّم فعلا الثنائيات الميتافزيقية أي الهوية، الأصل إلخ. لنقلْ أيضا إنّ إثارة البسمة مرتبطة بالفكر كما يعبّر عن ذلك هذا المثل المشهور :"حينما يفكّر الإنسان، يبتسم الله."
يتموضع اللّعب وإثارة البسمة في سياق ما ليس برصين إذ يسمحان للفكر بالتفتّح. تشير أمينة عاشور، بخصوص كيليطو، إلى ذلك بحذق :"لو لم يكن كاتبا، لكان يلعب القمار. هل هو قادر على أن يلعب؟ ذلك بالضّبط ما يفعل" (المرجع السابق، ص7). أمّا أندريه ميكيل فقد كتب بدوره، في مقدّمة "العين والإبرة" :"هكذا يلعب عبد الفتاح كيليطو، بغبطة نادرة، بالأوجه المختلفة التي تأخذها الكلمات، دون التمكّن، في نهاية المطاف ونهاية الحكايات، من العزم على إنهاء مغامرة اللّيالي"(العين والإبرة، الفينيك، 1992، ص8). وحدهما اللّعب وإثارة البسمة ينشّطان، على هذا النحو، القوى الكامنة في الكائن البشري، ويعزّزان التحرّر من ثقل الوجود. على أرضية اللّعب وإثارة البسمة لا وجود للحقيقة، لنشرْ إلى أنّ هذه البسمة تنطوي على سخرية مزيلة للخداع ومبدّدة للوهم. من ثمّ تخترق "أنبئوني بالرؤيا" مقاطع تمثّل فيها السخرية مادة الكتابة. إذا تابعنا خالد بلقاسم، يمكننا القول :"من خصائص الهزل زعزعة البدهي ومنع المعنى من التصلّب." (خالد بلقاسم، مرايا القراءة،17 ، 2018). بعبارة أخرى، يخلق الهزل واللّعب حركية في المعنى. تبعا لما سبق، ليست إثارة البسمة فقط محرّرة للرّوح، بل إنّها استراتيجية لفضح من لهم عقدة من الابتسام، أقصد المتجهّمين والعبوسين، "الأليغاست agélastes بحسب فرانسوا رابليه.
يمكن القول على سبيل الختام إنّ التّعكير هو استطيقا ما بعد حداثية، صدى لما يمكن أن ننعته بـ"البينيّة". يتعلّق الأمر هنا بفتح الأدب على إمكانيات أدبية أخرى. ضمن هذا المنظور، تطرح كتابات كيليطو مسألة الأنواع. كيليطو، لاشكّ، يستنفر كلّ الميراث الأدبي والفلسفي ليشجب ويفضح التوتاليتارية الأدبية أي التعصّب والتزمّت. التّعكير يشجّع على الإبداع الأدبي والفنّي ويشحن النص بشعرية الكتابة. ليس التّعكير محوا للأنواع وإنّما هو تشظّ أو استشكال لهويّتها. بهذا المعنى، تتبنّى كتابة كيليطو سردا مفعما بالفكر؛ لأنّ السرد يدمج في صلبه استطرادات مقالية نقدية.
البحث المفعم بالحكي في "أنبئوني بالرؤيا"، يتجاوز الأنواع والخصوصيات التجنيسية. هذا النص ذو الحالة المرتابة والعكرة، ينشئ خطابا فكريا تأمّليا حول الأدب وحول مواضيع أخرى. يتّصل الأمر بنص ذي منظورات متعدّدة يفتح القراءة على آفاق غير مسبوقة. تشظّي الأنواع يدرج النص ضمن ما ليس بتام وبمنجز بمعنى أنّ كلّ إقفال للنص سيكون متعذّرا لأنّ شرطه الوحيد هو إعادة البدء من جديد. وعلى هذا النحو فإنّ اللعب وإثارة البسمة يحطّمان المعنى الوحيد ويقودان النص نحو عالم من التأويلات التي لا تنتهي. الخلاصة، إنّ كتابة كيليطو هي كتابة جذمورية ترفض كلّ هوية ثابتة للأنواع. لنقلْ إجمالا إنّ هذه الكتابة الظنيّة والمرتابة تثير فينا متعة التفكير العميق.

إحالات:
Scarpeta. G, L’impureté,1985
ZEkri. K, Incipt et clausules dans les romans de Rachid Mimouni, 2004
Anoun . A, Abdelfattah Kilito . Les origines culturelles d’un roman maghrébin, 2004
النص مأخوذ من :Revue algérienne des lettres, volume 3, numero 2, 2019, p :2 _ 8

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى