د. محمد عبدالله القواسمة - الثرثرة في قنواتنا الفضائية د. محمد عبدالله القواسمة

يلفت انتباهنا، ضمن البرامج التي نشاهدها في قنواتنا الفضائية، هذا الاهتمام الزائد بتقديم البرامج الخالية من المضامين العميقة، أو الجادة، أو المفيدة، أو المؤثرة، والتي تمتلئ بالحشو والإسهاب والمطمطة، والتهريج في ما يمكن أن نطلق عليه الثرثرة.

والثرثرة ظاهرة لغوية اجتماعية تنضوي على مفهوم التفاهة، التي تحدث عنها كتاب "نظام التفاهة" للفيلسوف الكندي آلان دونو، وعبّر عنها المُفكر البيروائي ماريو بارغاس يوسا في كتابه "حضارة الفُرجة"، والحقيقة أن الثرثرة صانعة التفاهة بما تنطوي عليه من اهتمام بصناعة الرموز الفارغة، واللهو والموضة والتسلية والاستعراض والأفكار السطحية. ومن مظاهرها المدائح المزوّرة، والمشاعر المُزيّفة، وتملّق أصحاب السلطة والمال، وتقمّص الشخصيات الناجحة، وتضخيم أعمال الذات، ولفت الانتباه والأهمية والتعاطف. وينهض بها في الغالب أولئك الذين يقدرون أهميتهم ونجاحهم بكثرة ظهورهم على منصات التواصل الاجتماعي، وكثرة المتابعين لهم والمعجبين بهم.

ومن أمثال الثرثرة ما نلاحظه في البرامج الاجتماعية، وبرامج الطبخ، وبرامج توقعات الفناجين والأبراج الفلكية. فهذه البرامج السهلة والسريعة الإعداد تتجلى فيها الأسئلة التي لا طعم لها، والنكات السقيمة، والمبالغات الكثيرة، والمجاملات الشخصية.

فمن الملاحظ أن هذه البرامج تُغرق المشاهدين بالأحاديث، والأسئلة التافهة عن الزواج والطلاق، والأحلام الغريبة، والتبريكات المختلفة بنجاح، أو ولادة، أو زواج لشخصيات لا يعرفها غير مقدمي البرامج ومُعدّيه؟ ونحن نتساءل عن معنى الاهتمام ببرامج الأبراج، وإظهارها أي الأبراج وكأنها توقعات العلم والمعرفة، لما تكون عليه حياة الإنسان في المستقبل، مع أن هذه البرامج ما هي إلا نوع من الثرثرة التي تبعد الناس عن العمل المفيد، والتفكير الصائب، والإيمان القويم. وتعدّ إهانة لعلم المستقبليات والتكنولوجيا الحديثة التي تفهم المستقبل على ضوء العلم وحقائقه.

من ضمن هذه البرامج تظهر برامج الطبخ التي تقدم يوميًا على كثير من القنوات الفضائية عدا يوم الجمعة، ويُهتم بها كثيرًا في رمضان الكريم. وعادة يشترك في كل برنامج منها ليس الشيف فقط بل اثنان أو ثلاثة أو أكثر من المساعدين، ويتعاون الجميع في ثرثرة طويلة تقوم في معظمها على المجاملات والتبريكان، وتمجيد بعضهم بعضًا، ومن يتصل بهم من الأبناء والأحفاد والجيران. ولا مانع من قراءة الرسائل والتعليقات التي يكتبها المشاهدون، وكلها تمدح الشيف وتمجد مقدمي البرنامج.

هكذا تتجلى الثرثرة في برامج الطبخ بأبهى معانيها، وربما جاء مفهومها من معناها اللغوي حين يقول لسان العرب في تعريف الثرثرة بأنها" كثرة الأكل والكلام في تخليط وترديد، وقد ثـرثـر الرجل، فهو ثرثار مهذار".

هكذا فإن الهدف من برامج الطبخ تمضية الوقت أكثر من تثقيف الناس بفن الطبخ وثقافته. فما معنى أن يمضي المشاهد في سماع ثرثرة طويلة بالتزامن مع رؤية الشاشة، وهي تعرض صورة حية لطنجرة على النار وفيها البصل والبندورة، أو طبخة ما مدة طويلة. وكثيرات ممن جربن الطبخ حسب مواصفات هذه البرامج يقلن إنهن فشلن في الحصول على طبخة جيدة. فكم ضاعت مكونات طبخة سدى بهذه الطريقة، وتعرضن إلى مشاكل مع أفراد عائلاتهن.

لا يعني هذا التخلي عن هذه البرامج بل نرى تقديمها بشكل يعكس حضارتنا وثقافتنا؛ لأن الطعام يعبر عن ثقافة الشعوب وحضارتها وما في بيئتها من تنوع وثروات، وما يتصف به إنسانها من صفات بيولوجية وعقلية.

صحيح أن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي من واتس وفيسبوك وتويتر وسعت مجال التعارف بين الناس، وفتحت شهيتهم للكلام والثرثرة التي نبذها الإسلام حين جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الثرثارين من الذين لا يحبهم الله" إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون.." لكن يحسن بهذه القنوات الفضائية أن تدرك بأنها تقدم برامجها لأكبر عدد من الناس، وليس لفئة أو جماعة محددة منهم. لهذا فمن الواجب عليها أن تنقي برامجها من الثرثرة لتتناغم مع حضارتنا العربية التي تعبر عن قيمنا وثقافتنا، هذه الحضارة التي من شعارات بلاغتها الإيجاز، و"خير الكلام ما قل ودل"، وليس الثرثرة التي فيها ضياع الفكر، واختلال القيم، واضطراب المعرفة، وتمجيد الثقافة الفارغة على حساب ثقافة العقل والوعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى