لا تكتمل المعرفة دون اختبارها عملياً بالمشاهدة والشم واللمس.. فالإحساس هو أساس بناء المعرفة. وحواسنا الخمس، أو الست هي ما تشكل ما يسمى بالمعرفة الإمبريقية، والتي تفوق بقيمتها ما تمنحه الكتب والمحاضرات النظرية، وهي التي تقربنا من الحقيقة، وبناء تصور أعمق وأشمل حول أي ظاهرة، أو حدث تاريخي.. من خلال المزج بين الحواس، والتي بدورها ستمزج بين العواطف، والتصورات، والإحساس، والتخيل، والفهم.. ليتشكل أمامنا عالَم جديد مختلف عما ألفناه في تصوراتنا النظرية..
هذا ما حصل معنا حرفياً أنا وزوجتي خلود عبر رحلة ترفيهية (في شهر عسل متأخر) امتدت من الجيزة حتى أسوان، وشملت زيارة أهم المعابد في مصر القديمة، والمتاحف الحديثة التي تحكي قصة الحضارة المصرية على امتداد العصور والأحقاب المتلاحقة.. وبالمناسبة، أتت الرحلة متوافقة مع خط الزمن التطوري للحضارة المصرية، من الأقدم إلى الأحدث، فقد كانت البداية في الجيزة في عصر الأسرات الأولى، والتي بدأت بحدود 2200 ق.م، ثم صعوداً إلى الجنوب (لأن شمال مصر كان يسمى مصر السفلى، وجنوبها مصر العليا، تماشياً مع مجرى النيل)، مروراً بالعصر الذهبي في الأقصر (الأسرات 18-20)، وانتهاء بأسوان، وعودة إلى الإسكندرية وعصر كليوباترا.. ولسوء الحظ لم نتمكن من زيارة معبد أبو سمبل أقصى الجنوب، وهو الأجمل والأهم.
هناك أهم ما أُضيف إلى المعرفة الأمبريقية: الشعور بالدهشة، أو ما يمكن تسميته بصدمة الحضارة والجمال.. بمجرد أن ترى أي معبد ستسري في بدنك قشعريرة خفية، ستختلط مشاعرك بين الإعجاب والرهبة والانبهار.. وستبدأ بالمقارنة بين ما قرأته سابقاً من كتب ومقالات عن حضارة مصر القديمة وبين ما تراه شاخصاً أمامك بكل بهاء وشموخ.. فمهما قرأت عن رمسيس الثاني الذي حكم مصر كلها 67 سنة، لا يُقارن مع مثولك أمامه ومشاهدته شخصياً.. فترى جسده كاملاً، حتى أسنانه وبقايا تعابير وجهه.. سترى تسريحة شعر الملكة حتشبسوت، وملامح امنحوتب.. وعشرات المومياوات لملوك وملكات مصر القديمة.. ماتوا قبل آلاف السنين وما زالت جثامينهم سليمة، وتلك أبرز أسرار تلك الحضارة، والتي ما زلنا عاجزين عن فك غموضها..
من المستحيل اختزال الحضارة المصرية في مقالة، أو حتى في كتاب؛ فهذا علم قائم بذاته، يسمى "المصريات"، ويُدرّس في أعرق الجامعات العالمية.. لذا سأكتفي ببعض المشاهدات والانطباعات الشخصية عما رأيناه، خاصة في النقوش..
بداية، يجدر التنبيه إلى خطأ وقعنا فيها ردحاً من الزمن، فقد اعتدنا استخدام مصطلح الحضارة "الفرعونية" على كل ما يتصل بتاريخ مصر القديمة، وهذه التسمية ظهرت لأول مرة في عصر البطالمة، وينفي خزعل الماجدي أي علاقة لحكام مصر الأقدمين بهذه التسمية، ويؤكد أن ملوك مصر القدماء لم يكونوا ظلمة ولا ديكتاتوريين، كما يُشاع، بل كانوا محبوبين من شعبهم، وأنَّ اشتغال المصريين في بناء الأهرامات والمعابد لم يكن بالسخرة، بل كان عملاً مدفوع الأجر، وقد سُجل أول إضراب عمّالي في التاريخ في عام 1151 قبل الميلاد، نفذه عمال المقابر بالقرب من وادي الملكات في الأقصر. حيث ظهرت في النقوش عبارة "نحن جوعى، لم نأكل الطعام منذ 18 يوماً".
الانبهار الأول كان أمام عظمة الأهرامات، وكيفية بنائها، وضخامة أحجارها، وكيف تمكنوا من جلبها من أسوان، وحملها وترتيبها في بناء هندسي معقد! وهذه كلها أسرار لم تُكشف بعد. ثم تمثال أبو الهول الضخم الرابض بكل هدوء وشموخ منذ آلاف السنين في وجه الزمن، وقد قدر العلماء أنه احتاج في نحته قرابة مليون ساعة عمل.
أما الانبهار الأعظم فكان في معبد الكرنك.. جمال أخّاذ، مبهر إلى آخر حدود الخيال، أعمدة مزينة بالألوان، في غاية الضخامة، مسلات منحوتة من صخرة واحدة من الجرانيت بعضها بوزن 70 طناً، وجدران ممتلئة برسومات ونقوش في منتهى الإتقان، لا تحتمل أي خطأ.. دونت عليها كل الأحداث والمعارك وأسماء الملوك، وتقلبات الأزمنة بأدق التفاصيل.. الرسوم لمن لا يتقن القراءة والكتابة، والنقوش لطبقة المتعلمين. ستجد مثلها في معبد الأقصر، وبقية معابد أسوان من حيث التصميم والعمارة والزخرفة، مع تميز وانفراد لكل معبد.
ومن الأسرار التي لم تُحل حتى الآن، كيفية النقش على صخور الغرانيت الأشد صلابة، والتي تقاوم حتى الأزاميل الحديدية.
ومن النقوش التي أثارت استغرابنا ودهشتنا: إشارة "wi fi" استخدمت حينها للدلالة على شذى العطر (الهواء الذي لا يمكن رسمه)، ومنه أُخذت إشارة "الواي فاي" الحالية للدلالة على موجات الإنترنت.. وأيضا رسوم استخدمت للتوعية الصحية لكيفية الولادة الآمنة والإرضاع الصحي.. وغرفة كاملة نُقشت عليها مئات الوصفات الطبية للتداوي بالأعشاب.. وفي معبد قريب بينهما فاصل زمني شاهدنا رسوماً لأدوات طبية متطورة، مثل أول سماعة طبية (وهي موجودة الآن في متحف برلين) ومشارط وأدوات استخدمت في العمليات الجراحية، وشرح واف ودقيق لمرض السرطان، ووصف لعمليات جراحية في الدماغ والأعصاب والديسك، وسجلات لمتابعة المرضى، وتوابيت لمن توفوا في العمليات.
سجلات المصريين القدماء لا تتضمن فقط السيَر الذاتية للملوك، بل هي سرد وتوثيق لكل الأحداث، وتشمل أيضا معتقداتهم وأساطيرهم. "آمون رع" الإله الأكبر الذي عُبد 3 آلاف سنة، "إيزيس" إلهة الحب والجمال، "نفرتاري" التي كانت تطلع من أجلها الشمس، "عين حورس" المبصرة والحارسة، "مفتاح الحياة" الذي يرمز لوحدة مصر، رحلة الانتقال إلى العالم الآخر، وسؤال القضاة للميت: هل قتلت؟ هل سرقت؟ هل لوثت مياه النيل؟.. وسيرة الملكة "حتشبسوت" الأشد إثارة. ومقابر وادي الملوك الأفخم، وكنوز "توت عنخ آمون"، رسائل "تل العمارنة"، ووادي الملكات (لم نتمكن من زيارته وهو مخصص لكبار الزوار فقط، حفاظاً على جماله وألوانه المبهرة التي تظهر وكأنها رُسمت للتو).
وفي قصة تدل على عبقرية الهندسة المصرية القديمة؛ أرادت "اليونسكو" إنقاذ معبد "فيلة" من فيضان النيل، وقررت نقله إلى مكان قريب وآمن، ومع توفر كل إمكانات العصر الحديثة من تقانة ومعدات وأجهزة إلا أنهم أخفقوا في إعادة البناء والتركيب بنفس التصميم والأبعاد السابقة، فظهر اعوجاج في المد البصري الممتد من غرفة "قدس الأقداس" (حيث يجلس الملك، وبجانبه كبير الكهنة) مروراً بالساحتين الداخليتين وانتهاء بالساحة العامة حيث يقف الجمهور..
ما زالت الكثير من كنوز وأسرار مصر القديمة مخبأة تحت الرمال، أو منهوبة، ومعروضة في متاحف أوروبا.. وما بقي منها أجمل من الخيال.. ويستحق الزيارة.
عبد الغني سلامة
2023-02-01
* الأيام
هذا ما حصل معنا حرفياً أنا وزوجتي خلود عبر رحلة ترفيهية (في شهر عسل متأخر) امتدت من الجيزة حتى أسوان، وشملت زيارة أهم المعابد في مصر القديمة، والمتاحف الحديثة التي تحكي قصة الحضارة المصرية على امتداد العصور والأحقاب المتلاحقة.. وبالمناسبة، أتت الرحلة متوافقة مع خط الزمن التطوري للحضارة المصرية، من الأقدم إلى الأحدث، فقد كانت البداية في الجيزة في عصر الأسرات الأولى، والتي بدأت بحدود 2200 ق.م، ثم صعوداً إلى الجنوب (لأن شمال مصر كان يسمى مصر السفلى، وجنوبها مصر العليا، تماشياً مع مجرى النيل)، مروراً بالعصر الذهبي في الأقصر (الأسرات 18-20)، وانتهاء بأسوان، وعودة إلى الإسكندرية وعصر كليوباترا.. ولسوء الحظ لم نتمكن من زيارة معبد أبو سمبل أقصى الجنوب، وهو الأجمل والأهم.
هناك أهم ما أُضيف إلى المعرفة الأمبريقية: الشعور بالدهشة، أو ما يمكن تسميته بصدمة الحضارة والجمال.. بمجرد أن ترى أي معبد ستسري في بدنك قشعريرة خفية، ستختلط مشاعرك بين الإعجاب والرهبة والانبهار.. وستبدأ بالمقارنة بين ما قرأته سابقاً من كتب ومقالات عن حضارة مصر القديمة وبين ما تراه شاخصاً أمامك بكل بهاء وشموخ.. فمهما قرأت عن رمسيس الثاني الذي حكم مصر كلها 67 سنة، لا يُقارن مع مثولك أمامه ومشاهدته شخصياً.. فترى جسده كاملاً، حتى أسنانه وبقايا تعابير وجهه.. سترى تسريحة شعر الملكة حتشبسوت، وملامح امنحوتب.. وعشرات المومياوات لملوك وملكات مصر القديمة.. ماتوا قبل آلاف السنين وما زالت جثامينهم سليمة، وتلك أبرز أسرار تلك الحضارة، والتي ما زلنا عاجزين عن فك غموضها..
من المستحيل اختزال الحضارة المصرية في مقالة، أو حتى في كتاب؛ فهذا علم قائم بذاته، يسمى "المصريات"، ويُدرّس في أعرق الجامعات العالمية.. لذا سأكتفي ببعض المشاهدات والانطباعات الشخصية عما رأيناه، خاصة في النقوش..
بداية، يجدر التنبيه إلى خطأ وقعنا فيها ردحاً من الزمن، فقد اعتدنا استخدام مصطلح الحضارة "الفرعونية" على كل ما يتصل بتاريخ مصر القديمة، وهذه التسمية ظهرت لأول مرة في عصر البطالمة، وينفي خزعل الماجدي أي علاقة لحكام مصر الأقدمين بهذه التسمية، ويؤكد أن ملوك مصر القدماء لم يكونوا ظلمة ولا ديكتاتوريين، كما يُشاع، بل كانوا محبوبين من شعبهم، وأنَّ اشتغال المصريين في بناء الأهرامات والمعابد لم يكن بالسخرة، بل كان عملاً مدفوع الأجر، وقد سُجل أول إضراب عمّالي في التاريخ في عام 1151 قبل الميلاد، نفذه عمال المقابر بالقرب من وادي الملكات في الأقصر. حيث ظهرت في النقوش عبارة "نحن جوعى، لم نأكل الطعام منذ 18 يوماً".
الانبهار الأول كان أمام عظمة الأهرامات، وكيفية بنائها، وضخامة أحجارها، وكيف تمكنوا من جلبها من أسوان، وحملها وترتيبها في بناء هندسي معقد! وهذه كلها أسرار لم تُكشف بعد. ثم تمثال أبو الهول الضخم الرابض بكل هدوء وشموخ منذ آلاف السنين في وجه الزمن، وقد قدر العلماء أنه احتاج في نحته قرابة مليون ساعة عمل.
أما الانبهار الأعظم فكان في معبد الكرنك.. جمال أخّاذ، مبهر إلى آخر حدود الخيال، أعمدة مزينة بالألوان، في غاية الضخامة، مسلات منحوتة من صخرة واحدة من الجرانيت بعضها بوزن 70 طناً، وجدران ممتلئة برسومات ونقوش في منتهى الإتقان، لا تحتمل أي خطأ.. دونت عليها كل الأحداث والمعارك وأسماء الملوك، وتقلبات الأزمنة بأدق التفاصيل.. الرسوم لمن لا يتقن القراءة والكتابة، والنقوش لطبقة المتعلمين. ستجد مثلها في معبد الأقصر، وبقية معابد أسوان من حيث التصميم والعمارة والزخرفة، مع تميز وانفراد لكل معبد.
ومن الأسرار التي لم تُحل حتى الآن، كيفية النقش على صخور الغرانيت الأشد صلابة، والتي تقاوم حتى الأزاميل الحديدية.
ومن النقوش التي أثارت استغرابنا ودهشتنا: إشارة "wi fi" استخدمت حينها للدلالة على شذى العطر (الهواء الذي لا يمكن رسمه)، ومنه أُخذت إشارة "الواي فاي" الحالية للدلالة على موجات الإنترنت.. وأيضا رسوم استخدمت للتوعية الصحية لكيفية الولادة الآمنة والإرضاع الصحي.. وغرفة كاملة نُقشت عليها مئات الوصفات الطبية للتداوي بالأعشاب.. وفي معبد قريب بينهما فاصل زمني شاهدنا رسوماً لأدوات طبية متطورة، مثل أول سماعة طبية (وهي موجودة الآن في متحف برلين) ومشارط وأدوات استخدمت في العمليات الجراحية، وشرح واف ودقيق لمرض السرطان، ووصف لعمليات جراحية في الدماغ والأعصاب والديسك، وسجلات لمتابعة المرضى، وتوابيت لمن توفوا في العمليات.
سجلات المصريين القدماء لا تتضمن فقط السيَر الذاتية للملوك، بل هي سرد وتوثيق لكل الأحداث، وتشمل أيضا معتقداتهم وأساطيرهم. "آمون رع" الإله الأكبر الذي عُبد 3 آلاف سنة، "إيزيس" إلهة الحب والجمال، "نفرتاري" التي كانت تطلع من أجلها الشمس، "عين حورس" المبصرة والحارسة، "مفتاح الحياة" الذي يرمز لوحدة مصر، رحلة الانتقال إلى العالم الآخر، وسؤال القضاة للميت: هل قتلت؟ هل سرقت؟ هل لوثت مياه النيل؟.. وسيرة الملكة "حتشبسوت" الأشد إثارة. ومقابر وادي الملوك الأفخم، وكنوز "توت عنخ آمون"، رسائل "تل العمارنة"، ووادي الملكات (لم نتمكن من زيارته وهو مخصص لكبار الزوار فقط، حفاظاً على جماله وألوانه المبهرة التي تظهر وكأنها رُسمت للتو).
وفي قصة تدل على عبقرية الهندسة المصرية القديمة؛ أرادت "اليونسكو" إنقاذ معبد "فيلة" من فيضان النيل، وقررت نقله إلى مكان قريب وآمن، ومع توفر كل إمكانات العصر الحديثة من تقانة ومعدات وأجهزة إلا أنهم أخفقوا في إعادة البناء والتركيب بنفس التصميم والأبعاد السابقة، فظهر اعوجاج في المد البصري الممتد من غرفة "قدس الأقداس" (حيث يجلس الملك، وبجانبه كبير الكهنة) مروراً بالساحتين الداخليتين وانتهاء بالساحة العامة حيث يقف الجمهور..
ما زالت الكثير من كنوز وأسرار مصر القديمة مخبأة تحت الرمال، أو منهوبة، ومعروضة في متاحف أوروبا.. وما بقي منها أجمل من الخيال.. ويستحق الزيارة.
عبد الغني سلامة
2023-02-01
* الأيام