د. وائل أحمد خليل الكردي - القيم المتجذرة.. كيف لها أن تبقى

قد نعبر سريعاً وبلا مبالاة من أمام لوحة (الحذاء) التي صور فيها الرسام العالمي (فان جوخ) حذاءً ضخماً ملقىً في أرض فلاة ولا يحيط به شيء ولا يبدو خلفه أي طريق أو أي معلم من المعالم.. ولكننا إذا تمهلنا قليلاً وأمعنا النظر إلى الجزء الداخلي من هذا الحذاء لأمكننا أن نلحظ آثار الاعياء مرسومة عليه ولو أننا نظرنا إلى ثقل الحذاء وصلابته لتوقعنا أنه حذاء لفلاح يشق به طريقه نحو الحقول كل يوم، كما أن النعل الملطخ يدل على مدى معاناة هذا الفلاح فيما يعمل.. ورغم كل ذلك وكل تلك الالام والمعاناة والأوحال ومهما طرأت عليه من متغيرات الظروف والأحوال لم يتخلى الحذاء عن مهمته الاصيلة في حماية أقدام الرجل حتى يهلك دونها.. تلك هي صفة القيم المتجذرة، هي قيم وأحوال فطرية إيجابية خيرة. وطالما أنها متجذرة في قلب ووجدان كل فرد فهي بطبيعة الحال تكون عامة مشاعة لدى كل الأمم والشعوب لأنها من أصل التكوين الفطري للإنسان، جاء ذلك في قول الله تعالى (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله - الروم (30.

علينا إذاً والحال هكذا، أن ننبه العقول الى وجود وحقيقة هذه القيم، فإن جزءاً كبيراً من مشكلاتنا الإنسانية يكمن فيما يمكن تسميته (التضليل النفسي) والذي يقع بفعل طريقة استخدامنا للمفاهيم والعبارات التي نتداولها. فيكون التضليل النفسي – على سبيل المثال - برسم صورة مأساوية اكبر من حقيقة الواقع بفعل الكلمات والاشارات والأوصاف التي نستخدمها فنضع لها دلالات معينة تستجيب لها امزجتنا النفسية فنتفاعل معها على نحو ما إما إيجاباً أو سلباً، فالتضليل النفسي لا يقتصر على السلبي فقط.

ومن هذا القبيل، جملة مفاهيم القيمة التي نحملها في أذهاننا ونتعامل معها ونتفاعل بها، في حين قد تكون هذه المفاهيم ذات دلالات غير حقيقية في واقع الأمر؛ تماماً كما لو قلنا كلمة (وجود) ووضعنا في مقابلها كلمة (عدم) فإننا نضل نفسياً وعقلياً إذا تعاملنا مع كليهما بأن لهما نفس التجسد الواقعي العيني المشخص، فكلمة (وجود) هي فقط ما لها هذا التجسد الذي نشير إليه في الموجودات والكائنات، أما كلمة (عدم) فليس ثمة شيء هناك في العالم لكي نشير إليه بدلالة الماهية أو الكينونة، إذ العدم هو محض سلب للوجود الذي هو صفة للأشياء العينية. فعلى نفس هذا المثال نجد أن قيم الخير هي ما له وجود حقيقي أما ما يسمى بقيم الشر فليست بقيم أصلاً وإنما هي محص سلب للقيم الحقيقية. وهذا يحيلنا إلى ما هو (فطري غريزي) وما هو (ثقافي مكتسب) في مجال القيم.

لما قال الرسول صل الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم صالح – وفي قول مكارم - الأخلاق) فإن ذلك مما يعطي دلالة أن هنالك أصل فطري للقيم بحكم أن الكائن الإنساني يحمل الغريزة الفطرية في قبول ورفض الأشياء كما باقي الكائنات ولكنه يتميز عنها بالتكليف بعمران الدنيا والذي يتطلب قدراً ضرورياً من حرية الاختيار، فالإنسان يتمم ما هو فطري غريزي بما هو ثقافي مكتسب من خلال الاختيار الحر لمزيد من القيم المركبة التي تمنحه إياها تفاعلاته المعرفية مع الطبيعة والمجتمعات ومن ذلك تلك القيم التي جاء بها الدين متمماً بها فطرة الله تعالى في خلقه. فهناك إذاً دور كبير لهذه القيم المتممة في عمران العالم وصلاح البشرية. ويبدو من هذا أن هناك قيم متممة سليمة وصالحة وهناك أخرى غير ذلك، فما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يأخذ الانسان بالقيم المتممة الصالحة؟.. هنا يظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولنا أن نتوقف عند هذه النقطة لنضع ملاحظة قد تبدو مهمة؛ أن الاحتفاظ بالقيم المتجذرة – والتي هي الأساس – ثم الاكتساب للقيم المتممة يحتاج إلى نوع من (الإدارة) تماماً كما هي إدارة المؤسسات والهيئات. ولكي نحقق منظومة إدارية ناجحة للقيم المتجذرة تبنى عليها القيم المتممة الصالحة فلابد أن نميز بين مفهومي (تغيير القيم) و(تطوير القيم)؛ فتغيير القيم هو ازالتها وتحويل الإنسان عن فطرته القيمية فيفقد ما هو متجذر لديه منها بفعل التبعية غير الرشيدة وغير الواعية لقيم متممة وافدة من حقول ثقافية منقصة أو منافية للأصول الأخلاقية فيضل الإنسان بهذا عن فطرته قبل أن يضل عن قيمه. أما تطوير القيم، فهو اختيار الإنسان لمجموعة القيم المتممة التي تتوافق مع مبادئ الفطرة الإنسانية وما بها من قيم متجذرة فيسير بها تراكمياً في خط رأسي للتطور والتركيب والتكثيف مع كل مرحلة من مراحل الاستحداث والتقدم الثقافي والعلمي والتقني للمجتمعات الإنسانية وبشرط عدم تناقض المتطور مع ما هو متجذر في الأصل. وزبدة القول أن هذه القيم المتممة الصالحة هي ما جاءت به الأديان بعد حيرة البشر (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - يونس19). لذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

إذاً، وباعتبار أن القيم المتجذرة هي قيم فطرية عامة مشاعة بين جميع البشر وأن الانسان ينحرف عنها عند تبنيه لقيم متممة غير صالحة، فإن القيم المتجذرة لها القوة في الأخير لأنها تظل باقية في الإنسان على هيئة ضمير حي وإلا فقول ربنا تعالى (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون – الأنعام1) هو دلالة على ذلك، وما قال الرسول صل الله عليه وسلم (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) هو حديث عن ذلك الضمير الحي بما تجذر فيه من قيم مثل قيم الحياء والشرف وهذا لكل الناس. ولذلك حينما دعا الفيلسوف البارز (فريدريش نيتشه) للتمرد على هذا الضمير الانساني العالمي بقلب القيم رأساً على عقب واعلاء قيم القوة والبطش التي يتصف بها عنده الإنسان الأعلى (السوبرمان) واعتباره قيم التسامح والإيثار قيم ضعف يتصف بها العاجزين، فإن دعوته هذه وإن كانت قد طبقت في بعض حقب التاريخ بقدر ما إلا أنها لم تعش طويلاً وكانت القيم المتجذرة تعلو في كل مرة من جديد. ولأجل تعزيز هذه القيم في بلادنا العربية والإسلامية فليس علينا محاربة الثقافات الوافدة ذات قيم غريبة وشاذة بقدر ما علينا واجب المبادرة بتقوية وعينا الشعبي لأمتنا بحقيقة تلك القيم المتجذرة فينا ليحقق ذلك واقياً تلقائياً تجاه كل وافد غير متوافق معها. وليست هذه التقوية فقط على المستوى الدفاعي لشعوبنا وإنما أيضاً على مستوى التأثير الإيجابي في الأمم الأخرى كافة، وهنا يكون هذا الدور منوطاً بالفنون البصرية والسمعية تأليفاً واخراجاً وأداءً ونقداً فنياُ بكونها رسائل جمالية تخترق وجدان الإنسان وعقله معاً بما تحمله من مضامين قيمية، وهو دور تفاعلي لا يقتصر على فهم المتلقي للرسالة القيمية فقط وإنما تفاعله معها من خلال انفعاله الوجداني وهو ما ينتج في الأخير وعياً متكاملاً. فإذا اتفقنا مع ما ذهبت إليه الفيلسوفة (سوزان لانجر) في تعيين الوظيفة الأولى للفن (إنما هي إحالة الوجدان إلى حقيقة موضوعية) فأن هذه الحقيقة الموضوعية تجد حتماً أرضاً مشتركة لها عند كل أبناء آدم.

وخلاصة قولنا في هذا، أن تقوية الوعي الشعبي بالقيم المتجذرة ابتداءً وبالقيم المتممة الصالحة هو ما يحفظ لنا بقاء هوياتنا المجتمعية تماماً كما حفظ حذاء (فان جوخ) قدم الفلاح القديم في أشد وأحلك الظروف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى