أدب المناجم المهدي نقوس - قراءة في رواية "أمفيون الرقم المهني 4892"* للروائي المغربي محمد العرجوني سيرة حكائية عن عالم العتمات

أ- تعالق الأسطورة والواقع
تحكي الأسطورة أن أمفيون ابن انتيوب وجوبيتر شخصية أسطورية يونانية. مَلَك طيبة، وتزوج نيوبي ابنة تانتالوس مَلِك فريجيا، وأنجبَ منها سبعَ إناث وسبعَة ذكور قتلَهم كلهم أپولو وزوجته أرتميس باستثناء كلوريس، لأنها كانت تفتخر بجمالهم وتسخِرَ من ليتو لأنَّ لديها ابنا واحدا هو أپولو، وابنة واحدة هي أرتميس، وظلَّت جثَثهم ملقاة في العراء، إلى أن تكفلت الآلهةُ بدفنهم
وأمفيون هو باني أسوار مدينة طيبة عبر تحفيز البنائين، تحت تأثير نغمات نايه، لحثهم على الاشتغال بجد ونشاط بالغناء والأناشيد وموسيقا المعاول والرفوش، وصدى المطارق، وبتقدير الأسطورة فإن الأحجار كانت تصطف من تلقاء ذاتها تحت تأثير العزف، أي كان يعلي الأسوار بالأحجار التي كانت تتحرك بتأثير وإيقاع موسيقاه، بمقابل هدير الآلات وزعيق الرؤساء، والسيليكوزوالانتراسيت التي تهدم الآمال وتورث الآلام بكل أنواعها المفاصل والظهر، الأنين، ونوبات السعال وأزمات الربو الحادة
بهذا الشكل الرهيب تتضافر آثار السليكوز والانتراسيت في إحداث العديد من العاهات والتشوهات والأسقام والمشاكل الصحية التي لا تزول ولا تريح. والمآسي الاجتماعية، وعلى هذه الشاكلة يقوم الروائي محمد العرجوني ببناء روايته كلمة كلمة، عبر هذا الاقتباس التمهيدي "فقد أزف زمن الكتابة على الصخر"2، المأخوذ من مقولة رونيه غي كادو، ليخط لنا عبر 90 صفحة رواية "أمفيون الرقم المهني 4892"، وقد كتبت أصلا باللغة الفرنسية في صيف سنة 1989، ونشرت بداية على حلقات بجريدة ليبراسيون، لسان حال الاتحاد الاشتراكي للقوات االشعبية، قبل أن تتحول إلى اللغة العربية سنة 2012 من ترجمة ذ. عيسى حموتي، وتقديم للناقد د. محمد داني الذي يقول: (وأمفيون الرقم المهني 4892 حكاية جرادة وعمالها المنجميين، وهي تشبه في موضوعها وتيمتها الروائية رواية إميل زولا "جيرمينال"3، وتشبه حكاية "بولنوار" عن عمال منجم الفوسفاط للكاتب الروائي الكبير عثمان أشقرا لكن تبقى رواية محمد العرجوني أكثر التصاقا بالواقع وتصويره لعالم المنجميين ، والتعبير عن مشاكلهم ومعاناتهم
ومحمد العرجوني هو ابن مناضل نقابي، شكل مع جملة من أبناء العمال من مجايليه ما يسمى: الشبيبة العاملة المغربية لاجوم، جناح الاتحاد المغربي للشغل آنئذ.
ولمدينة جرادة وأنفاقها وسراديبها السوداء حصة الأسد في الإبداع الأدبي المغربي في مدينة (جرادة)، التي أتت تسميتها -بحسب الروايات الشفهية- صدفة من جرادة جاءت على ظهر جمل، وتعود تفاصيل الحكاية بحسب المشافهات إلى القصة الشعبية التي تروي أن أحد الرعاة شاهد جرادة على ظهر جمل قادم من منطقة الضهرة ، ولم تطر وتغادر الجمل إلا بعد وصول القطيع إلى قمة جبل شخار ومنذ ذلك الوقت وهذه المنطقة تحمل إسم جرادة . ، وغلبت على تسميات السابقة للمدينة
فدان الجمل
Quartier 11
المعدن
هذه التسمية تجعلنا نشك في صحة التسمية، ذلك أن هناك عدة أماكن قريبة تحمل أسماء حشرات أو حيوانات مثل كنفوذة عكيربة وغيرها
اكتشاف الفحم كان بين سنة 1908- 1927، إلا أن الاستغلال الرسمي للفحم كان سنة 1936، طبقا لمرسوم السفير المقيم الفرنسي لسنة 06/09/1932 وأطلق اسم جرادة على مكتب البريد المحلي.

ب- رحلة البحث عن الخبز الأسود
رواية أمفيون الرقم المهني 4892 هي سيرة الألم والفجيعة والموت البطيء، والجو الجنائزي الذي يخيم على كل أجواء الحكي منذ البداية إلى النهاية ابتداء من التعسف والقهر إلى الإختناق والسعال والدم، والقهر والاحتقار، والاستغلال والعهر، وعشرات الحوادث المؤلمة، والأحداث الأليمة، والأنفاق الباردة والسراديب المعتمة، والجرذان والرطوبة والصقيع، وصفر يوم ، ويوم بيوم، وتنوع حالات التركيع، وغيرها من العقوبات، التي يمتزج فيها العذاب النفسي بالمشاكل الاجتماعية بما هو اقتصادي وسياسي، وجنسي
والقارئ لمجريات أحداثها يتصور الشخصيات تتحرك، والأحداث تتعاقب حتى ليخيل له أنه إزاء فيلم سينمائي، مستعينا بالعديد من المقومات الأسلوبية من تناص، وحكايات شعبية، وأشعار، وأهازيج، وملفوظات، وبهارات الحكي، من مونولوغ وفلاش باك، وإحالات، وتقنيات السرد الروائي مستغلا طريقة الرواية الدائرية حيث يبتدئ الحكي من نقطة البداية بعد ثلاثة نقط استرسال من العالم السفلي، نقيض العالم الدنيوي، على لسان الوالد الذي الذي يأتي صوته من العالم السرمدي: ("... والآن بعد أن أصبحت لا انتمي لعالم النور السماوي، هذا العالم المحدود بجبال بوكلثوم، بلقاسم، زروال، وزيدور. والتي في الحقيقة لم تنتم لإله قط، ألان بعد ان دفنت عند أقدام زيدور، ولم أعد أتنفس أبدا، بسبب رئتي اللتين أصبحتا ألان كما تود أن تعرف مجرد كتلتين من السيليس والانتراسيت. يمكن لها جمع الصخور البلورية والطاقة الحرارية استغلالها خلال الأزمنة المقبلة. ذلك انه يمكن الاعتراف بأني سامتزج بالأحفوريات الفيلودوندرونية. الآن بمستطاعي أن أحدثك وأن أقول لك كل شيء)4، ويسترسل في الحكاية ساخطا لاعنا الظروف التي رمت به الى أعماق المغاور يسام العذاب ويقتات بالغبن ويتجرع الإهانة من أجل درهمين إضافيين لإطعام البطون التي تنتظره، (من اجل ربح مزيد من المال يا عزيزي، ماذا تود أن افعل ب 4 دراهم في اليوم، والعمل في الأعماق، كمنجمي حفار، سأتقاضى على الأقل 6 دراهم وهذا يكفي لاقتناء ربع قالب سكر زيادة، تخيل قليلا لماذا اندفنت حيا ، لأجل درهمين، الحمل ثقيل جدا، أسرة بكاملها تنتظر إعالتها الأب، والأم، الإخوة وزوجات الإخوة، وآنت الذي ولدت حديثا، لأجل هذا أفعل كل شيء)5. لتحيا حياة كريمة خالية من المشاكل ثم يبتدئ الحكي (ليتخلص من الحمولة التي تخنقه وتقض مضجعه) عن الأصدقاء بدءا بعبد السلام الجبلي الذي باع رؤوس الماعز وبقرة وخيمته ، وزحف نحو جرادة التي سمع بوفرة الخبز فيها، ودا مبارك السوسي الذي احترقت أرضه وتفحمت شجيرات الأركان التي كان يملكها، والسي عمر ابن البحر المقترن من جنية، الفقيه المجهول أفرغه الحزام الناقل في عربة القطار، الحكيم المتكلم باسم المعتصمين، وبا موح، وحدو، وحمزة، وعبد الله رفينو الذي فارق الحياة في غمرة من الانتشاء، عن مقديش الحاكي، وحكوم القوال، وعبد القادر الزكراوي، وايت حمو، اعتصام العمال قي المنجم، مقتل علي بالرصاص الحي، وسقوط الونش، ورحلة انتظار الأبناء لعودة آبائهم من المنجم، وقد يطول الانتظار في بعض الأحيان، استراق الطفل لحركات أبيه وزوجته المريبة في الظلام وإطفاء جذوة نزوته الطفولي، اصطحاب حمو زبير لبناتهما للسوق من أجل الدعارة، مظاهرة النساء، وفاة الأب في الأخير وتكفل الابن بإتمام الحكاية، وبين هذا وذاك تتردد حكايات الموت المجاني والسواد والظلام والأنفاق والأشباح والأروقة السديمية، وتقيؤ الرجال لأطراف من رئاتهم المتفحمة، عن طقوس إعداد الشاي مبيد الهموم والأحزان ، وأنيس الجلسات العائلية الحميمية.. الكأس الساخنة التي تعيد إلى أرض الواقع، حيث يتكرر ذكره في أكثر من محطة باحتفائية كبيرة عن طقوس إعداده وأدواته وحكاياته وشروط تهييئه ومبيحاتها وموانعها، مع انتفاء ذكر الخمر ومشاكله الجانبية والذي غالبا ما يسود في الأجواء العمالية ويغرق العمال وأسرهم في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وقد أتى ذكره في احتفال رأس السنة، وحكاية الطبيب المخم

ج- قراءة في العتبات، ونهاية الرحلة القاسية
بتتبع أحداث الرواية، فالروائي لم يقدم للقارئ مادة معرفية فحسب، بل قدم خبرات حياتية عندما رسم معالم جغرافيات مادية، وعوالم مهملة بالنسب للعديد من الناس. لأن الأدب المنجمي باعتقادي مثله مثل آداب البحر والحرب والرحلة هو تأريخ لملاحم الشجعان والبطولات والمخاطر، والمغامرات الحقيقية.
يحمل الغلاف لوحة لجبل بلون بني، محاصر بإطار من السخام والسواد وقتامة المشهد، بحيث لا يمكن النفاذ منه إلا إلى القبر.. يأتي تحته مباشرة العنوان بالأحمر المتوهج بلون اشتعال الفحم، وحرقه للقفص الصدري، أمفيون إله الأسطورة اليونانية باني أسوار طيبة عبر تحفيز البنائين، وحثهم على العمل بجد ونشاط بالغناء والأناشيد وموسيقا المعاول، مقابل صدى المطارق وهدير الآلات وآلام المفاصل والظهر ومعاكسة الأطر والرؤساء، وأنين الأسقام، ونوبات السعال وأزمات الربو الحادة، مختوما برقم التأجير 4892 كأنه الشاهد الأبدي على محنة العذاب والموت الذي يتردد عبر صفحات الرواية عشرات المرات.. هذا الرقم الذي يحمله البشر والآلات وكانت تحمله البغال والجمال في بداية استغلال المناجم زمن الاستعمار كدلالة على تشيييء الكائن، وإذا أحصينا حاصل أعداد الرقم المهني، فإنه يكاد يساوي مجموع أسماء الشخوص الوارد ذكرهم في الرواية مع بعض التفاوت. هذا إلى جانب الخلط بين العديد من تقنيات الكتابة التي يتقاطع خلالها السرد السيرذاتي بالغيري، بالتناص مع التراث العربي، بالوصف الغرائبي والعجائبي عبر استلهام قصص الحيوان كما في كليلة ودمنة، وحكايات ألف ليلة وليلة عبر تقنية الحكاية العنقودية التي تتوالد فيها الحكايات داخل الحكاية الأم، التهيؤات عبر إيراد خرافة شمهروش، وتوظيف الطقوس التقليدية، طقوس صنع الشاي ، الأمثولات والأهازيج الشعبية القديمة، مثل استدرار موسم الأمطار، والتهيؤات والعادات المغربية مما يحيلنا على التوثيق الواسع والعميق لحقول علوم الإناسة والاجتماع، مما منحها بعدا كوسموبوليتيا يسري على جميع الأجيال والحقب مثل باقي الآثار الأدبية الخالدة التي تتناول حياة العمال لأن هذا النوع من المعاناة سيظل قائما بكل ويلاته على مر الايام والسنين والحقب، لينتهي بالنهاية على لسان الوالد وهو مسجى على محفة بيضاء ليفارق الحياة في حالة من العذاب الحقيقي والألم الحاد من لوعة الفراق، والأسف مما يعيشه عمال مناجم جرادة يوم الأحد غداة إجراء المغرب لمباراة كرة القدم حاسمة، وعن الروح الوطنية المعششة في كيانه، وعن إخلاص الأهل، وعن تذكر جيران، وفي حلقه بقية من حتى سيلتزم الابن البار بذكرها في رواية أخرى قبل أن يعثر على ريشة كفيلة بتلخيصها لأن كتابتها أمانة جسيمة في عنقه وفي عنق جميع المنجميين وأبنائهم وسكان المناطق المنجمية على السواء لأن التغاضي عنها ضياع لذاكرة جماعية، والسكوت عن الكرامة المهضومة



ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
1- أمفيون الرقم المهني 4892 تأليف محمد العجوني..رواية، 90 صفحة، الترجدمة العربية عيسى حموتي، 2012، تقديم د. محمد داني، مطبعة الجسور بوجدة
2- روتية أمفيون الرقم المهني 4892، تصدير عن رونيه غي كادو ص 3، ت: عيسى حموتي
3- د. محمد داني - أمفيون الرقم المهني 4892 تأليف محمد العرجوني..رواية، ص5، ت: عيسى حموتي - مطبعة الجسور بوجدة
، ص8، ترجمة عيسى حموتي 4- رواية أمفيون الرقم المهني 4892 ،
5- أمفيون الرقم المهني 4892 تأليف محمد العجوني..رواية، ص 75 ، الترجدمة العربية عيسى حموتي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى