- الرسالة الأولى:
أعرض لمولاي بحر العلم، وكنز الأدب، وعباب البيان، من بين فصحاء العرب، وتيار الفضل الذي ينسل من كلِّ إرْب، أفضل مَن تضلَّع من الدقائق، وأجلِّ مَن اطَّلع على غوامض الحقائق، بعد تقبيل أياديه التي رَفعتْ للمجد رايات، ونالت من الشرف غاية الغايات، متعنا الله تعالى بحياته، ومعجز أقواله، وبينات آياته، إن العبد الفقير، المعترف بالعجز والتقصير، قد تشرف من سيده وسنده، ومطلع شموس فخره ومجده، بقصيدة تخر لها تيجان رؤوس أساطين الأدب على الأذقان، مشتملة على فرائد تتحلى بها المسامع والأذهان، وأبيات كآيات بينات، يسجد عند تلاوتها فصحاء قحطان وعدنان، ألبسني بها حلل مجد لا تنخرق، وأَوْلاني نعمًا لا يؤدي اللسان شكرها بكل ما نطق، وفتح لي أبواب سؤدد لا تُسدُّ ولا تغلق، حين نفَّست من كربي، وداوت من آلام قلبي، بما حوته من الإشارات، ودقائق العبارات؛ فإن كل بيت منها سهم مِن أنفذ السهام، في أفئدة الطَّغام واللئام، بل كل كلمة منها صخر يدمغ رأس الزائغين، ويدق أعناق المتطاولين من العباد أجمعين، وحيث إني وجدت بها ضالتي، وظفِرت بها بأملي وبغيتي، بقيت أمرح بين أرآم مقاصدها، وأسرح في رياض بدائع فرائدها، وأردد تلاوتها آناء الليل وأطراف النهار، وأترنم بنغماتها كما تترنم بلابل الأسحار، واتخذتها رقية لي أسترقي بها من عفاريت الهموم والأكدار، فجزاك الله عني خير الجزاء، وحباك في الدارين منزلة أوصاف بِيض حسان كواعبها، ومحامدي لا تصل إلى ما تستحقه وإن اتسعت مذاهبها؛ حيث كانت كما أمَر المولى أحسن هدية للجماعة، فإنها خلدت عليهم ما يستحقونه إلى قيام الساعة، ولسان حالي يا سيد الأفاضل يقول كما قال القائل:
أمولاي ما عندي إليك وسيلة
تقرِّبني زُلفى وإنِّي لراغبُ
محاسنُ شعري ما إذا أنا قستها
بشعرك والإِنصاف فهْي مثالبُ
وإنِّي مع الإِطناب فيك مقصِّرٌ
وإن كانَ شعري فيك ممَّا يناسبُ
أهنِّيكَ فيه مَنصِبًا أنت فوقَه
بمرتبة لو أنصفتك المراتبُ
فإنَّك شرَّفتَ المناصبَ كلَّها
وما أنتَ ممَّن شرَّفَتْهُ المناصبُ
وَهَنَّيْتُ نفسي والعراق وأهلَهُ
وكلَّ امرئ أهل لذاك وصاحبُ
وزُفَّت إليه كلُّ عذراء باكرٍ
كما زفَّت البيض الحسان الكواعبُ
وإني لأقسم عليك بالذي حباك شرف الذات، وأحسن الشمائل والصفات، ومنحك بغزارةٍ العلم، والذكاء القريحة وغاية الفهم والحلم، وحلاوة المنطق والعبارة، وحسن السيرة، ودماثة الخلق والسريرة، إلا ما وليت عليك مثل هذه النعم، بل الدرر الغالية القيم، فقد أضر بنا فِراقك، وآلمنا ما كابده من ألم البُعادِ رفاقُك، وفقدنا بَعْد بُعْدك من نلجأ إليه من جور الزمان ومكره، ونهرع إليه لمقاومة ظلم الدهر وغدره، وإن كان يكفيني من عناية سيدي أطال الله بقاءه، ومتعنا جل شأنه بشريف رؤياه: تخطُّره لهذا العبد على البال، وكفى بذلك فخرًا لي من بين الأمثال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في أواخر جمادى الأولى سنة 1311 هـ.
العبد محمود شكري.
=============
- الرسالة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
كانت رواة الحديث والأنباء تقول: (إن الله كنز مفتاحه ألسنة الشعراء)، وقد أدركت - ولله تعالى الحمد - من هذا الحديث الصحيح مغزاه، وتحققت من صحة لفظه البديع معناه؛ حيث وردتني أبيات عربية في تخميس القصيدة الأحمدية، اشتملت على جوهر ذلك الكنز المطلسم، وحوت فرائد قلائد دُرِّه المنظم قرأتها قراءة من استفزه الطرب لها، وملكه الشغف بها، فوجدتها جامعة للطبع السهل، واللفظ الجزل، والأغراض الصحيحة، وامتزجت مع الأصل امتزاج الماء بالراح، والأجسام بالأرواح، نظمها سيد بني الآداب، ومفخر من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، المولى الذي استرقَّ الفصاحة فهي طوع لسانه، واستعبد حر البيان فهو منقاد لبنانه، ولو تعاطيت وصف محاسنه بنطق اللسان، وفضل البيان، وجهود الطاقة، وغاية الاستطاعة، لم آتِ على ما في صدري، ولم أبلغ ما في نفسي؛ لعلو مراقيه، وجليل مناقبه، وعظم شأنه، وبُعد لعلها: شأوِه، وتكاثر مآثره ومفاخره، وكرم أوائله وأواخره، وشرف أصله ومحتدِه، وطيب مغرسه ومولده، واستعلائه في كل ذروة من المجد، واستيلائه على كل غاية من الحمد، مع كتاب شُهد له بعلو المكان في صناعة الكلام في دقائق النظر، وجُعل في الفضل إمامًا، وعند التفاضل أمامًا، وللخير عَلَمًا منشورًا، ومنارًا مرفوعًا، حمله على ذلك المحبة الغيبية والمحبة الحقيقية، حيث جعل سبحانه تلاقي الإخلاص عوضًا عن تلاقي الأشخاص، وتحاور الأرواح بدلاً من تحاور الأشباح، وترائي الخواطر بدلاً من ترائي النواظر، وتناجي القلوب منابًا عن تناجي الألسن، مع ما اقتضاه أوله الكريم، وتالده القديم، وأصله الراسخ، وفرعه الشامخ، وما جمعه الله فيه من عرق زكي، وعَرف ذكي، ووجه حيي، وبشر خفي، ومحاسن كاملة، ومناقب زائدة، ومعالٍ شامخة، ومساعٍ سابقة، وكم له - أدام الله تعالى تأييده - من خير أبداه، وبرٍّ أسداه، ومَنٍّ اعتقده، وحرٍّ استعبده، وحق أوجبه، وسبق أحرزه، ومجدٍ أثَّله، وحمد أوصله، وإني لأشكرك أيها السيد الرئيس على ما أبدعت من التخميس والنثر النفيس، كل ذلك لم يسبقك إليه سابق، ولم يشقَّ غبارك فيه لاحق، ولا أعدمك الله العز الشامل، والحمد المتواصل، ما اختلفت الأدوار، وتعاقَب الليل والنهار، غير أن ما أبدعته من الثناء، وحسن المدح والإطراء، لست من أهله ولا من رجاله، ولا ممن يليق به أن يجول في تفكركم العالي بخطر أمثاله، وما كان ما كان من المدائح العلية الشأن إنما هو من حسن ظن النظم، وتغافله عما يعلم، وإلا فالعبد أعرف بنفسه من أبناء جنسه، ولو لم تجرِ عوائد الله تعالى في الطاقة وستر عيوب عباده إمهالهم في المؤاخذة عن ذنوبهم إلى يوم معاده، لكنت أحق الناس بالجرح والقدح، ولم أكن أهلاً لأقل ثناء ومدح، ولكنه حسن ظن الإخوان المستوجب غض الطرف عن الصفات الهجان:
ورصاصُ مَن أحببته ذهبٌ كما
ذهَبُ الذي لم ترضَ عنه رصاصُ
وعلى كل حال، أعرض إليك أيها المولى المفضال، أن ما أتحفتني به قد اتخذته مأثرة من أعظم المآثر عُدَّةً لي إذا فاخرني مُناظِر، ويدًا أطاول بها الراسيات، وأقتاد بها أزمَّة المعالي، وعنان العنايات، فإن محاسنك أشهر من أن توصف، وأظهر من أن تعرف؛ لأنها لائحة في وجه الزمان، ورائدة في مجاري الامتحان، وشبيهة الشمس في انتشارها وإشراقها، والسماء في إطلالها وإطباقها، فما أحد من ذي لسان قائل، ونظر عادل، ووعد ثاقب، ورأي صائب إلا وهو شاهد بها شهادة العلم الصريح، واليقين الصحيح، التي لا يقع فيها محاباة، ولا يتداخلها محاماة، بل هي بالحق قائمة، وعن لسان الصدق ناطقة، وإذا كان ذلك كذلك فقد صارت الإشارة إليها أبلغ من الدلالة عليها، والإمساك عن ذكرها كالإطالة في نشرها.
فمهما ادعى ذو النقد أنك واحد
فما أنت إلا في الأنام كما ادَّعى
وإن مدَّتِ الأبواع في طلب العُلا
مددت إلى العلياء بوعًا وأذرعا
فإنك في هذا الطريق الذي به
سلكت طريقًا أعجز الناس مُسبِعا
جزاك الله تعالى عني خير الجزاء في الدنيا والأخرى، وألبسك في مشاهد العز والهناء حُلل المجد الفاخرة، وقد طوَّقت عنقي أياديك، وقيدت لسان نطقي بقيد إلطافك ومعاليك.
أرى مدحيَ العالي عليَّ فريضة
وغيرك لم أمدحهُ إلا تطوعا
عليَّ لك الفضل الذي هو شاملي
وإنك قد حزتَ الفضائل أجمعا
وقد أتعبت سمعكم فيما جرى به القلم، وكتب رجال في هذا المجال الواسع والمقال المطنب، وإن لم يُعبِّر قولي عما في نفسي، وقد بذلت فيه قدرتي، واستفرغت فيه وُسعي، لزيادة ذلك على ما يتعاطاه لساني من استيفائه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته