أحمد الزلوعي - الألــوهـــــــة المؤنثـــــــة وأصـداؤهـــــــــا

يؤمن المسلمون بأمومة جامعة لأمهات المؤمنين, ويجلون –شيعة وسنة- السيدة فاطمة المنعوتة ب (الزهراء) والملقبة ب (البتول), ويذهب المسيحيون إلى مدى أبعد كثيرا في اعتقادهم في السيدة مريم الملقبة ب (العذراء) حيث يصفونها بأنها (أم الإله) بناء على ما تقرر في مجمع أفسس الأول المسكوني عام 431 م ضد الأسقف نسطور الذي دعا لاعتبارها أما للمسيح بصفته الناسوتية فقط.
وعلى مستوى المعتقدات الشعبية فقد تطور تصور السيدة فاطمة عند الشيعة فرووا أن السيدة خديجة حبلت بها من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أكل من تفاحة سماوية, وفي مروية أخرى أنها خلقت قبل آدم, وكانت في حُقة تحت ساق العرش, وهو ما يشير لتصور الأصل السماوي لها, ولذلك يسمونها الحوراء الإنسية, ويعتقدون أن زواجها بعلي تم بأمر إلهي, كما أنها أم الأئمة المعصومين وسيدة نساء العالمين. وبينما لا يسفر المسلمون السنة عن ذلك القدر من تعظيمها إلا أنهم يجلونها ويعتبرونها من سيدات نساء العالمين, وتحتفي الجماعة المصرية بابنتها السيدة زينب احتفاء بالغا حيث يحتفل بمولدها في القاهرة الملايين, ويعتقدون أنها الأم الكبرى (أم العواجز). وأنها (السيدة) حيث صار اللقب علما عليها, وأنها المُنجدة لكل محتاج ومظلوم وتقطع إليها المسافات لتقديم الشكاوى وطلب النجدة و الوفاء النذور وإيقاد الشموع وقد صورها المخيال الشعبي المصري بأنها (مَحكمة)
سيدنا الحسين مملكة أما الحسن سلطان
(والسيدة المحكمة) والأوليـــا ددبان
وغير بعيد من المعتقدات الدينية وتصورات الإنسان المختلفة لها؛ يطالعنا موروث شعبي ثري يحمل ظلال تقديس للأنثي يتجلى في النسبة إلى الأم -لا إلى الأب- في أعمال السحر والرقى و التعاويذ, كما هو الحال في الدعاء للشخص باسمه منسوبا لأمه كما يمكن تتبع أساطير الجنيات وعرائس البحر والنداهات في الموروث الشعبي, وكلها عناصر مؤنثة, كما ارتبطت ظاهرة العِرافة والسحر بالأنثي إلى حد كبير حتى العصور الوسطى؛ الأمر الذي أنتج قصص الساحرات في أوروبا, ولازالت أعمال قراءة الغيب واستشراف المستقبل عندنا فى الشرق أكثر ارتباطا بالأنثى العرافة والساحرة وضاربة الودع وقارئة الفنجان.
والحقيقة أن معظم مورثاتنا الشعبية حول الأنثى هو أصداء لأساطير قديمة رسخت زمنا طويلا وكانت هى المعتقدات الأساسية للانسان في فترة طويلة؛ كان طبيعيا بعدها أن تتسرب ظلالها -ولو باهتة- وأصداءها -ولو خافتة- إلى الوعي الجمعي للإنسان المعاصر.
لقد حازت الأنثي مكانة مقدسة مطلقة في العصر الحجري القديم (الباليوليت), وقد استنتج الباحثون ذلك من آلاف التماثيل الأنثوية التي وجدوها في مواقع شتي في شرق أوروبا وآذربيجان وآسيا الصغرى وبلاد الرافدين والشام وغيرها, وقد أرجعوا تقيس الإنسان للأنثى في تلك العصور إلى غرائبية الحمل والولادة والرضاعة في نظر الإنسان القديم. فقد رأي الرجل المرأة ينتفخ بطنها بغير سبب ثم يخرج منها إنسان حي ثم ترضعه من صدرها غذاء مخصوصا فربط بين الأنثي وبين قوة الحياة الغامضة, كما أنه نظر برهبة إلى ظاهرة الحيض حيث تنزف المرأة الدم ولا تموت؛ ثم لاحظ ارتباط نزفها الشهري بدورة القمر السماوية فافترض علاقة ما ورائية بين الأنثي وذلك الجرم السماوي, وبينها و بين قوى الخصب والنماء بشكل عام. وفيما انشغل الذكور بالصيد وجمع الثمار لاحظت الأنثي نبت البذور في التربة, وبدأت بواكير الزراعة كما بدأت تدجين بعض الحيوانات. وقد امتدت فترة تقديس الأنثي حتى العصر الحجري الحديث (النيوليت) الذي بدأ في الألف التاسع قبل الميلاد, والذي شهد بداية الاستيطان البشري في تجمعات لتكوين القري ورعاية المزروعات. صوّر الإنسان الإلهات الأم في تلك العصور على شكل تماثيل بصدور ضخمة ترمز للوفرة والعطاء, ولاحقا ستُصور عشتار رافعة ثدييها بيديها, وستوصف بالخضراء, وهو نفس وصف إيزيس المصرية, وستظهر سنابل القمح دائما معهما, و بتعدد صور إلهات العالم القديم برفقة سنابل القمح وحيوانات تحت القدمين يمكننا فهم خلفية الدور الأنثوي في الزراعة, واستئناس الحيوان في العصورالاقدم.
ومع ظهور الكتابة في الحضارات الإنسانية الأولى -المصرية والسومرية- بدأ الإنسان في تدوين تصوراته عن العالم غير بعيد نسبيا من عصور الإلهات الأمهات فظهرت (نمو) السومرية إلهة المياه الأزلية التي صدر عنها الوجود كما في الإينوما ايليش
(في البدء كانت نمو ولا أحد معها. هي المياة الأولى التى عنها صدر كل شيىء. أنجبت الإلهة نمو ولدا وبنتا, آن إله السماء وكي إلهة الأرض, وكانا ملتصقين مع بعضهما وغير منفصلين عن أمهما نمو . ثم تزوج آن بكي فأنجبا أنليل إله الهواء الذي ضاق بالانحصار بينهما فقام بقوته الخارقة بفصل أبيه عن أمه فرفع الأول فصار سماء, وبسط الثانية فصارت أرضا)
وعلى غرار نمو السومرية جاءت (تعامة) البابلية ثم عشتار ثم عناة الكنعانية وغيرهن من إلهات شعوب المنطقة. ولعشتار شيدت المعابد في الشرق القديم و لها رفعت صلوات منها
(لك الحمد يا أرهب الآلهة . لك الإجلال يا سيدة البشر . عشتار مالها في عظمتها من قرين. بيدها مصائر الموجودات جميعا . لها الدعاء .. تسعى إليها الآلهة مليكة نافذة الإرادة)
وقد انتشرت عبادة عشتار واسعا وارتبطت بمعاني الخصوبة والتكاثر والقوة .
وفي الحضارة المصرية القديمة صورت الإلهة (نيت) على انها المياة الأزلية التي صدر عنها الوجود, وفي بعض الأساطير ذكر أنها أم رع نفسه, وعلى أنها البقرة السماوية, والتي نسجت العالم بمغزلها, وقيل على لسانها
(أنا ما كان وما هو كائن وما سوف يكون . ولا أحد يستطيع أن يكشف عني برقعي), وهي تتماهي مع إيزا (إيزيس) سيدة القمح كما صورها الإغريق لاحقا, وهي تحمل السنابل خالقة كل نبات أخضر سيدة الخبز. وقد وصفت إيزا ب (السيدة) و ب (العذراء), وصورت تحمل طفلها الوليد إلى صدرها في مشهد مماثل لصورة العذراء مريم وهي تحمل طفلها. وقد كان للألوهة المقدسة وجود راسخ في المعتقدات المصرية القديمة تجلى في إلهات عدة مثل نيت ونوت و إيزا وسخمت وهاتور.
وإذا استوعبنا ما ارتبط بأساطير الإلهات الأمهات قديما أمكننا في غير عسر فهم كثير من دقائق مورثاتنا الشعبية المعاصرة؛ فوصف السيدة زينب بمصر بالأم, وتخصيصها لإغاثة الملهوف و نصرة المظلوم ومساعدة العاجز هو ذات الدور الذي كانت تقوم به إيزا؛ بل إن تصورها كمحكمة وقاضية يستدعي تاريخ إيزا المصرية التي يرأس زوجها أوزير محكمة الموتى بعضوية أبنائها, ولا بد أن ننوه إلى أن المعتقد المصري القديم يصف إيزا بالعذراء, وتروي الأسطورة أنها حملت من زوجها حملا إلهيا بغير لقاء جسدي وأنها هربت بوليدها المضطهد إلى براري الدلتا بعيدا عن الشرير ست, ولعل ذلك مما ما سهل تقبل المعتقدات المسيحية لاحقا في مصر لتشابه القصة مع قصة السيدة مريم.
وقد ارتبطت عشتار ككثيرات من الآلهات الإناث بكوكب الزهرة, ولقبت بالزهرة السماوية, لاحظ وصف السيدة فاطمة ب (الزهراء), وتجلت لاحقا في إفروديت اليونانية وفينوس الإغريقية ولعلها الجذر الذي اشتق منه مفردة ((Star التي تعنى النجم في الإنجليزية حاليا, وقد شاعت النجمة الثمانية كرمز لها؛ كما شاع ارتباطها برمز الهلال في بلاد الرافدين قديما لارتباطها بالقمر, وقد بقي اسم عشتار في لغتنا المعاصرة ففي العامية المصرية يقال العشر والتعشير تعبيرا عن التلقيح المخصب.
ولا بد أن نعي بالطبع أن الأساطير القديمة تخضع للتغير بالحذف والإضافة حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية للإنسان, وأن الجماعة البشرية في جدل مستمر مع العالم ينعكس على وعيه وأفكاره, ولذلك قد نجد الهات بصفات مختلفة في عصور أخرى لكن الدلائل تشير لوراثة صفات من بطلات الاساطير الأولى كما هو الحال مع الإلهة (اللات ) مثلا والتي كان مركز عبادتها في تدمر, وعبدت في عموم سورية ووصلت الى الجزيرة العربية فقد سماها العرب الربة والأم, وصورت في تدمر حاملة لسنابل القمح ومصاحبة لحيوانات, ويرجح أنها أحد تجليات عشتار بموضعة جديدة في الميثولوجي الكنعاني كما كانت عشتار نفسها في السابق تجليا للإلهة السومرية إنانا .
واللافت للنظر أن وثنيي قريش كانوا قد بلوروا ديانة تشتمل على الله كمعبود أعلى وله بنات هن اللات و العزي ومناة ولم يتصوروا أن له أبناء ذكورا, كما وصفوا الملائكة ببنات الله, وذلك من بقايا الديانات الأمومية الأولى.
وتمثل جزيرة كريت قيمة تاريخية كبرى في هذا المجال البحثي لاستمرار العصر الأمومي فيها حتى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ربما لانعزالها, وقد عثر فيها على تماثيل أنثوية كثيرة تنتمي إلي هذا العصر الحديث نسبيا.
أما كيف ومتى تغير التصور الأنساني فيما يخص الألوهة المؤنثة وهو ما يعرف تاريخيا بالانقلاب الذكوري والذي أرجعه معظم الباحثين إلى استيعاب الرجل لدوره الأساسي في عملية الإنجاب, وكذلك لتعاظم الحاجة إلى قوة الرجل العضلية في السيطرة على الأرض بعد انتشار الزراعة, والدفاع عن القرية بعد انتشار المستوطنات (القرى), ومع تكون الأسرة وظهور الملكيات الخاصة فرض الرجل سيطرته فصارت الابناء تنسب له -و ليس للام- وصارت الوراثة تتم عن طريقة وقد كانت تتم عن طريقها من قبل, وبدأ تكوين الدول بقيادة ذكورية استدعت تغيير/تعديل الأساطير بحيث تعلو قيمة الإله الذكر في مجمع الآلهة ليبزغ مجد رع وآمون وبتاح في مصر, ومردوخ وإيل وبعل في الهلال الخصيب ...

أحمد الزلوعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى