د. علي زين العابدين الحسيني - من دفتر الخطرات

أسجل في هذه الخطرات بعض ما مرّ بنفسي من إمعانٍ في بعض الأحداث، وأخضع في ذلك إلى ما يوحيه الخاطر عبر الأيام مِن غير حرصٍ على ما يحرص عليه الواصفون، أو عنايةٍ بما هو معروفٌ عند المؤرخين، فما يسجله القلم هنا هو ضربٌ من التصوير لبعض خطرات النفس حينما تحاول تذكر ما كان، وتسمو بها إلى عالمٍ آخر من معالم الانتفاع، وإلى معنى من معاني العظمة، ولذا كانت هذه الخطرات التي أسعى جاهداً أن تكتمل على صورةٍ تليق بمَن هي مُوجهةٌ لهم؛ ليجدوا فيها مادة إثرائية، ويشعروا معها بعبق الذكريات.

1- ليس أغلى عند الشخص المشتغل بالمعرفة من كتابه، ولا إخالني أكذب حينما أخبرك أنه ربما يستغني عن كثيرٍ من مقتنياته الشخصية إلا مصدر ثقافته، فلا يغمض له جفن ولا يقر له قرار عند فقد كتابٍ، هذا إحساس غريب قد لا يعرفه كثيرون، أن تشعر أن الكتاب تحول فجأة إلى كونه عضواً من أعضائك، ومع مرور الأيام يزداد تعلقك بالكتب وشوقك لمكتبتك، حتى ينتهي بك المطاف أن يصير الكتاب شيئاً محسوساً تناجيه وتتحدث معه، وتعتقد أنّه يتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، هذه سلسة من الحالات يمرّ بها العاشقون، وآخرها أن تخاف على كتبك كخوفك على أولادك، قد تكون كتابتي هذه تستوجب اللوم عليّ ممن لا يقدرون هذه المشاعر نحو الكتب، لكن هذه مشاعري نحو الكتاب، وأخذتُ على نفسي عهداً أن أكتب كلّ ما يجول في خاطري، هكذا سأكون.
2- كان أستاذنا العلامة الفرضي الحاج شحاتة سليم بقة (ت1431) حريصاً على مكتبته، فيقوم بتجليد كتبه بنفسه، ويعتني بها اعتناءً خاصاً، وإذا ما خرج من بيته أغلق مكتبته وأحكم القَفْل، وكان من عادته ألا يُدخل أحداً مكتبته، ولم يسمح لي برؤية مكتبته والاطلاع على كتبه وأوراقه الخاصة إلا بعد شهور من التحاقي بالدراسة عليه في حلقته، وكان أول دخولي لها أمراً مضحكاً، إذ جلس مولانا الشيخ على باب المكتبة ينظر إليّ ويرقبني، وبعد خروجي قام بحركة غريبة، حيث وضع يده في جيبي متحسساً الكتب، فلما تأكد أنّي لا أحمل شيئاً منها سمح لي بالخروج، أشبه ما يكون بالتفتيش الذي يكون في المطارات، ثم مازحني بأنّه خاف أني أحمل كتاباً ناسياً، هكذا كان حرصه على الكتب وقد تجاوز يومها الخامسة والتسعين من عمره.
سألته بعدها بمدة عن سبب شدة تعلقه بمكتبته، فأخبرني أنه يخاف على كتبه كخوفه على نفسه، بل أشد؛ لأنها أغلى ما يملكه، وتكاد في المحبة تعادل محبته لأولاده، وقد أكرمني فيما بعد بدخول مكتبته والاستعارة منها كيفما أردتُ، وزاد في كرمه -كعادته- فأهدى لي مجموعة من كتبه الخاصة العزيزة؛ كحاشية شيخ الأزهر البرماوي على شرح ابن قاسم في فقه الشافعية، والمصباح المنير للفيومي، وغيرها.
3- ها هو قد وقف في طريق العودة إلى وطنه حائراً، يُقدم رجلاً ويُؤخر أخرى، ففي كلّ عام يأخذ على نفسه المواثيق أن يكون آخر عهده بغربته عامه، وها هو قد أخذ قرار العودة إلى مسقط رأسه بشجاعةٍ، وتحسّس في المطار جواز سفره فلم يجده، فحينها أيقن أن عمره سُرق في غربته كما قد ضاع جوازه، فذهبت سعادته، وتبدلت ابتسامته، ورجع على نفسه لائماً بأنه ضيّع أيامه، وأفسد طريقه، فلا هو حافظ على بقايا ذكريات الماضي وأنسه بأهله، ولا استطاع أنْ يعيش بهناءٍ حاضره، ثمّ قال لرفيقه: اختر وجهتك قبل فوات الأوان، وتأكد أن الوطن أغلى ما يملكه أيّ إنسان.
4- زرتُ أستاذ الأساتيذ العلامة الفرضي الشهير عبد الرحمن بن محمود مضاي العلوني الجهني (ت1430) في بيته، وهو من علماء السادة الشافعية بالمدينة المنورة، وآخرهم تدريساً في المسجد النبوي، وقد أهداني كتابه القيم "الروض الأنيق في أحوال الورثة على التحقيق"، ولسببٍ ما ضاع كتابه مني مما سبّب لي حزناً شديداً، وفي إحدى زياراتي للمدينة المنورة وأثناء وجودي فيها في فسحة من الوقت تواصلت مع ولده الأكبر وكان على سابق معرفة بي، ورغبت في زيارته وفاءً لحق أستاذنا، وأثناء حديثي معه أخبرته عن طريق الهاتف أني في حاجة إلى كتاب والده في علم الفرائض، فردّ علي بما لا يصدقه عقل، إذ أخبرني بأن مكتبة والده منذ مات وهي مغلقة، وقد تجمعت في غرفةٍ يكاد لا ينتفع بكتبها أحدٌ، ومنذ مدة وهو يرغب في إهدائها لمشتغلٍ بالعلم، وطلب مني إذا كان الأمر في استطاعتي، فبإمكاني أخذها، وفي حقيقة الأمر لم أصدق ما أخبرني به وظننه مازحاً، ومِن هَوْل ما سمعت سقط الهاتف الجوال من يدي، فعاودت الاتصال به، واستفهمت منه، فكانت فرصة هائلة للتعرف على عقليةِ عالمٍ كبيرٍ وفقيهٍ محققٍ من خلال عناوين كتب مكتبته وطالب لا يُضيع فرصة في التعرف على العلماء ومكتباتهم.
كان الموعد المقترح بيننا أن أذهب إليه في الغد، وحتى لا تضيع عني الفرصة أخبرته إذا كان ما بالإمكان أن أزوره بعد سُويعات، فرحب ترحيباً شديداً، فأخبرتُ صديقاً لي من أهل المدينة بما حدث، وتفضل مشكوراً ورافقني بسيارته إلى بيت شيخنا، ولمن لا يعلم فبيته قريب من المسجد النبوي، وقريب من مكتبة شيخنا السيد مالك العربي السنوسي، فلا يفرقهما إلا شارع واحد، كانت المكتبة في الدور الرابع، وهي كثيرة مما يستوجب علينا أن نجد مَن يعيننا، وأنا كذلك حريصٌ على حملها في يومها، فقد يتغير رأي ابنه لأيّ سبب، أو يعرض عليه ما يحول بيننا وبينه، فأبصرت شباباً واقفين على رأس الشارع، فأخبرتهم أني أريد منهم مساعدتهم بأجرها، وسرعان ما كانت المكتبة في الشارع بعد تكاتف جهود الجميع في نقلها، وقد كانوا في عملهم جميعاً كخلية نحلٍ نزولاً وصعوداً مع اعتناء بالكتب بعد تشديد الأمر عليهم.
أخذتُ المكتبة بكاملها ونقلتها إلى مدينة الرياض محل إقامتي آنذاك، وجلستُ معها شهوراً قد لا يجود الزمان بمثلها مطالعة وبحثاً، وعكفتُ على قراءة ملاحظاته على هامش كتبه قبل نقلها إلى مصر، وهي تحتوي على كثيرٍ من نفائس المطبوعات، خصوصاً في الفقه الشافعي وعلم الفرائض، وهما العِلمان المبرز فيهما شيخنا، ومن نفاستها تلك التعليقات الفريدة على هوامش كتب علم الفرائض، كحواشيه النفيسة على كتاب "فتح القريب المجيب بشرح كتاب الترتيب" للإمام عبد الله الشنشوري، وهكذا آلت مكتبة شيخنا الفرضي عبد الرحمن الجهني إلى حوزتي، ولم أكن أحلم بمثل هذا من قبل، لكن هكذا الأقدار تجلب لك الخيرات من حيث لا تدري، ومكتبته لا شك أنّها من الخير الذي ساقه الله إليّ دون حرصٍ أو طلبٍ.
5- التقاه مصادفةً بعد غيابٍ طويلٍ فأظهر من ألوان الحبّ ومظاهر الصداقة الشيء الكثير، ثمّ سأله عن سرّ غيابه، فكانت منه هذه الكلمات: يا صديقي غبتُ عنك لسنواتٍ فلم تكلف نفسك السؤال عني ولو برسالةٍ خاطفةٍ، أو مكالمةٍ موجزةٍ، ثم قابلتك على غير موعد فأبديتَ مشاعر الإخاء، وهذا جميل، لكنّ الأجمل حينما تتحول هذه المشاعر إلى واقع عمليّ؛ إذ الصداقة في الغياب والحضور، وفي الحياة وبعد الممات.
6- بعد انتهاء الصلاة في المسجد المجاور لبيته سأل إمامه: ما حكم إعطاء المحتاجين الواقفين أمام باب المسجد صدقاتي؟ وهل يجوز منعهم؟
سأله الإمام: هل كلفتَ نفسك في السؤال عن أحوالهم، فقد تكون الحاجة أعوزتهم، فإذا كان الأمر ذلك حمدنا ربنا على نعمه الكثيرة، وسعينا في أن نكون لهم إخواناً متحابين.
يا صاحبي: ليت التفكير الذي يستغرقه ذهنك في تتبع حال هؤلاء توفره لإعانتهم، فلا يكون سؤالك عن حالهم لتتبعهم، وإنّما لقضاء حوائجهم.
7- طالعت ترجمة مجيزنا الفقيه شيخ الشافعية بالأحساء الشيخ أحمد الدوغان للدكتور عبد الإله العرفج في كتابه (الشيخ أحمد الدوغان: مجدد المدرسة الشافعية) في جلسة واحدة بعد ما أهدانيه مؤلفه في بيته بالأحساء، وهي ترجمة غير حافلة بالألقاب العلمية ولا الشهادات المدرسية التي عادة ما تمتلأ بها تراجم المعاصرين إلا أنني أيقنت من خلالها أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وعن سبب تذكري لهذه المدينة العريقة بعد هذا الوقت الطويل أني وجدت صديقي الشاعر الأحسائي الأستاذ محمد الجلواح يوجه نداء عاجلًا إلى المصريين، يقول فيه: "إلى أحبتنا المصريين المقيمين في الأحساء والمملكة وإلى كل مَن يقول مثلهم: اسم واحتنا .. (الأحساء) بفتح الألف، وليس (الإحساء) بالكسر ..أنتم تكسرون قلوبنا بكسر الألف ، كأنكم قد اتفقتم على ذلك، الأحساء على غرار أنباء وأبناء وأصداء وأرجاء، وأسماء، وأجواء"، وكنت ممن أقع في ذلك لكن تنبهت للنطق الصحيح حين قرأت في مجلة "العرب" بتاريخ 1 مارس 1982 سؤالاً وجه من الأستاذ عبد الله بشيت بمعهد الأحساء العلمي يسأل فيه عن كيفية نطق الهمزة في كلمة "الأحساء"، وهي على كل حال الأحساء لا الإحساء كما في إجابتهم له، ولي في هذه المدينة العريقة ذكريات كثيرة مع أعلامها وصالحيها، ولا أكون كاذباً حين أخبرك أنها البلد الوحيد الذي تشعر وكأنها بلدك، وأهلها هم أهلك، ورغم ما أصابني فيها من فجيعة ضياع دفتر خاص بي كنت قد وثقت فيه رحلاتي إليها والكتابة عن بعض أعلامها، لكن تبقى أنها من المدن المحببة إلى قلبي لطيبة أهلها وكرمهم وحفاوتهم بالضيوف، وحتماً سيأتي علي الوقت الذي أعيد فيه كتابة تلك الذكريات العزيزة، وفي ظني أن أي مدينة عريقة يمتد بها العمر، ويطول زمانها، ويكثر إنتاجها المعرفي والثقافي، وتبقى صامدة أمام ظروف مختلفة دخيلة عليها فإنها تمتلك من نقاط القوة ومن مظاهر الحضارة الشيء الكثير، وهذا سبب استمرارية الوجود في الأحساء على النهج القديم دون تغير أو تحريف، فهي مدينة قوية بكلّ تفاصيلها.

د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى