د. عبدالرحيم الكردي - السرد الروائي وتداخل الأنواع، نماذج من الرواية المصرية.

هذا البحث يحاول الإجابة علي بعض الأسئلة الناشئة من العلاقة بين تقاليد النوع الأدبي متمثلا في الرواية وبين الإبداعات الحرة المتمثلة في النصوص التي تنتمي إلي هذا النوع، من خلال نماذج من الرواية المصرية المعاصرة، علي وجه التحديد فإن البحث يحاول الإجابة علي الأسئلة التالية: كيف يحتفظ الروائي بحريته التي هي سر الإبداع وفي الوقت نفسه ينصاع لقيود النوع الأدبي؟ كيف يكون حرا ومكبلا في وقت واحد؟ وهل ظل الروائيون محافظين علي ولائهم لحدود الأنواع الأدبية؟ أم أنهم تمردوا عليها؟ وكيف بدا ذلك في أعمالهم الروائية؟ وهل ظل مفهوم النوع الأدبي كما هو لم يصبه التغيير؟ وبالإضافة إلي محاولة البحث الإجابة علي هذه الأسئلة وأشباهها فإنه في الوقت نفسه يطرح مجموعة أخري من الأسئلة، من قبيل : ما الذي يدفع الأديب إلي التمرد أو الالتزام بقوانين الأنواع؟ وهل هناك علاقة بين هذا التمرد أو الاتباع وبين القيم الاجتماعية والجمالية السائدة؟ وما دور كل من المبدع والمتلقي في ذلك؟ وكيف تجلت هذه الإشكالية في النص الروائي العربي المعاصر في مصر؟

الأنواع الأدبية

لعل أول إشارة وصلت إلينا عن الأنواع الأدبية جاءت في كتاب الجمهورية لأفلاطون، ففي المحاورة التي يديرها أفلاطون بين سقراط وتلميذه أديمانتوس يقسم سقراط السرد إلي ثلاثة أنواع بناء علي أسلوب العرض:

النوع الأول: السرد التاريخي البسيط الذي يحكي فيه الراوي/الشاعر الأحداث ويصف ما يتخللها من وقائع بلسانه هو ولا يدعنا نعتقد أنه يتكلم بلسان أي شخص آخر.

النوع الثاني: السرد التمثيلي أو التصويري، وهو الذي يحذف الشاعر فيه الكلام الذي يفصل بين الحوار، فلا يتبقي إلا الحوار ذاته فقط، وهو الذي يسمي بـ ” المأساة ” أو التراجيديا.

أما النوع الثالث: فهو خليط بين الأسلوبين السابقين وهو السرد الملحمي حيث يتحدث الراوي / الشاعر بلسانه حينا ويتحدث بألسنة الشخصيات أحيانا أخري (1).

وعلي الرغم من أن الحدود التي يري أفلاطون أنها تفصل بين هذه الأنواع الثلاثة مرجعها إلي الطبيعة الخاصة لكل أسلوب أي أن هذا التفريق يبدو تفريقا أسلوبيا خالصا غير أن النظرة الفاحصة في مجمل فكر أفلاطون تظهر أن مرجعها فلسفي أيضا، ويعود إلي أن أفلاطون كان يري أن الإنسان لا يستطيع أن يتقن إلا عملا واحدا فقط لا عدة أعمال، وأن من يحاول أن يجمع بين عدة حرف فلن يشتهر بإجادة أي منها، فالحداد من وجهة نظره يمكن أن يكون ماهرا في الحدادة فقط، والنجار يمكن أن يكون ماهرا في النجارة فقط، لكنه لا يمكن أن يكون حدادا ماهرا ونجارا ماهرا في وقت واحد ” وبالمثل – كما يقول – لا يستطيع المرء أن يكون شاعرا قصاصا وممثلا ناجحا في الوقت نفسه ” (2) ثم يقول: ” وكذلك لا يمكنه الجمع بين التمثيل الجدي والهزلي، وإن تكن كل هذه الأشياء داخلة في باب المحاكاة ” يقول علي لسان سقراط: ” بل إنه ليخيل إلي يا أديمانتوس أن الموهبة البشرية موزعة علي أجزاء أدق وأصغر حتي من هذه، بحيث يستحيل إجادة محاكاة عدة أشياء، ناهيك بأداء الأفعال التي يعبر عنها المرء في محاكاته (3).

وهكذا يضع أفلاطون الأساس الفلسفي لنظرية الأنواع، ويشيد الأسوار التي تفصل بين كل نوع وآخر، بل يفتح الباب أمام تشييد أسوار أخري أدق وأكثر تفصيلا مثل التمثيل الجدي ( التراجيديا ) والتمثيل الهزلي ( الكوميديا ).

فإذا انتقلنا إلي أرسطو فإننا نجد نظرية الأنواع تمثل الأساس النقدي الذي يبني عليه نظرية المحاكاة في كتابه عن الشعر، فهو في أول جملة في هذا الكتاب يقول: ” إنا متكلمون في صنعة الشعر في ذاتها وأي قوة لكل نوع من أنواعها ” ثم يقول: ” فشعر الملاحم وشعر التراجيديا وكذلك الكوميديا والشعر الدثورمبي وأكثر ما يكون في الصفر في الناي واللعب بالقيثار كل تلك، بوجه عام، أنواع من المحاكاة (4)، ثم يفصل الجوانب التي يمكن عن طريقها رصد الاختلافات بين كل نوع وآخر، ويحصرها في ثلاثة هي :

1- ما يحاكي به هل هو بالقول اللغوي وحده؟ أم بالوزن وحده؟ أم بالإيقاع وحده؟ أم بها مجتمعة؟

2- ما يحاكي، “فإذا كان من يحدثون المحاكاة إنما يحاكون أناسا يعملون وكان هؤلاء المحاكون – بالضرورة – إما أخيارا وإما أشرارا..فينتج من ذلك أن المحاكين إما أن يكونوا خيرا من الناس الذين نعهدهم أو شرا منهم أو مثلهم(5).

3- طريقة المحاكاة، ” فقد تقع المحاكاة في الوسائط نفسها والأشخاص أنفسهم تارة بطريق القصص – إما بأن يتقمص الشاعر شخصا آخر كما يفعل هوميروس، وإما بأن يظل هو هو لا يتغير – وتارة بأن يعرض أشخاصه جميعا وهم يعملون وينشطون»(6)

هذه المبادئ التي وضعها أرسطو لترسيم الحدود بين الأنواع الأدبية والفنية نمت وترعرعت بعد ذلك في ظل الفكر الكلاسيكي مرورا بهوراس وبواللو حتي غدت في ظل الكلاسيكية الجديدة في أوربا عقيدة نقدية راسخة لا يمكن المساس بها، وأصبح لكل نوع أدبي قوانينه الصارمة التي لا يجوز تجاوزها أو عبورها، وبخاصة القوانين التي تحكم التراجيديا.

لكن الفكر الكلاسيكي المتعلق بقضية الأنواع في عصر النهضة تأثر بالتفكير العلمي الذي أصبح سمة من سمات العصر الحديث، وبخاصة نظرية النشوء والارتقاء عند داروين، ففي ظل هذه النظرية والتأثيرات التي أحدثتها في الفكر النقدي تعامل برونتيير مع المصطلح ” نوع أدبي” Genreحسب المفاهيم التي يتضمنها المصطلح ” نوع حيوي ” Genderأو Kind وتسربت الأفكار والمصطلحات الخاصة بالنشوء والارتقاء وتطور الأنواع واضمحلالها ونشوء أنواع جديدة من أنواع قديمة من نظرية التطور عند داروين إلي ساحة الدراسات الأدبية، كما تسربت أفكار أخري عن الوراثة بين الأنواع الحيوانية والنباتية.

نتيجة لذلك بدت الأنواع الأدبية وكأنها شجرة بل شبكة معقدة من الفصائل والسلالات المتنوعة تخضع في تطورها للقوانين التي اكتشفها داروين، وأخذت جذورها من التقسيم الثلاثي اليوناني القديم الذي يقسم الأدب إلي ثلاثة أنواع هي: الشعر والدراما والنثر، ثم ينقسم الشعر إلي شعر ملحمي Epic وشعر غنائيLyric وشعر درامي Dramatic ثم ينقسم الشعر الدرامي إلي شعر كوميديComedy وشعر تراجيديTragedy ثم ينقسم الشعر الكوميدي إلي مهزلة Farce و مهزلة سلوك Come dy of manners وهجاء .Satir

وهكذا أصبحت هناك تقسيمات كثيرة جدا للأنواع التقليدية المعروفة، بل أصبحت هناك تقسيمات داخل كل نوع من الأنواع القديمة وظهر كثير من الأنواع الجديدة، بل أصبحت هناك تقسيمات لمناطق التماس بين الأنواع، ففي مجال النقد الروائي مثلا نجد المصطلحات التالية المعبرة عن شجرة باسقة الأغصان من الأنواع الفرعية: رواية المغامرات – رواية الجريمة – الرواية البوليسية – الرواية التاريخية – الرواية الفانتازية – رواية الرعب – رواية الخيال العلمي – الرواية الفلسفية – الرواية الرومانسية – رواية الواقعية السحرية ـ اللارواية… إلخ.

ولم يقف الفكر التنظيري لقضية الأنواع الأدبية عند حدود التوصيف النوعي للأعمال الأدبية، أو عند مجرد بيان القواعد والقوانين والأعراف التي تميز كل نوع منها عن الأنواع الأخري، بل تعدي ذلك إلي نشوء نوع من النقد يعتمد علي هذه القواعد والقوانين والأعراف النوعية في تقويم الأعمال الأدبية، باعتبار هذه القواعد معيارا للجودة، وعرف هذا النقد بـ”النقد النوعي” Genre criticism ، ومن نماذج هذا النوع في اللغة العربية ذلك الركام الهائل من الانتقادات التي وجهت للأعمال الروائية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، إذ كانت تقاليد الفن الروائي الأوربي غالبا هي المعيار الذي كانت تقاس عليه جودة الأعمال الروائية العربية أو رداءتها، بل كانت هي القوانين المعتمدة التي يحكم النقاد علي أساسها علي أي عمل أدبي بأنه رواية أو ليس رواية.

الرومانسية وعبور الحدود

من المعروف أن الرومانسية تعتمد علي التمرد علي القوانين والقواعد الكلاسيكية المستقرة، وتري أن الأديب كما أنه يرصد في عمله الأدبي حالات فريدة لا تتكرر فإن إبداعه ذاته أيضا عبارة عن حالة فريدة لا تتكرر، ومن ثم فإن كل نص يصبح له تقاليده الخاصة وهويته الخاصة والتي لا يشاركه فيها نص آخر ولذلك عبر الرومانسيون الحدود النوعية ولم يأبهوا بالتقاليد التي تفصل كل نوع، ولعل أشهر ناقد ينظر إليه علي أنه البطل الذي حطم أسطورة الأنواع الأدبية هو ” بنديتو كروتشه ” يقول رينيه ويليك عنه:” لا تحتل نظرية الأنواع الأدبية مكان الصدارة في الدراسات الأدبية في هذا القرن ( يقصد القرن العشرين ) والسبب الواضح لذلك هو أن التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا، فالحدود بينها تعبر باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج، والقديم منها يترك أو يحور، وتخلق أنواع جديدة أخري إلي حد صار معها المفهوم نفسه موضع شك ” ثم يقول: ” وقد شن بنديتو كروتشه في الاستيطيقا 1902 هجوما علي المفهوم لم تقم له بعده قائمة ” (7) لكن حدس “رينيه ويليك” لم يتحقق، إذ لم تمت فكرة الأنواع الأدبية بعد بنديتو كروتشه ولم تنمح آثارها تماما من أذهان النقاد ولا من أذهان الأدباء، وكل ما في الأمر أنها تطورت و استخدمت استخدامات جديدة (8) والأساس الذي يبني عليه كروتشه نظريته في رفضه لفكرة الأنواع الأدبية هو فهمه الخاص لطبيعة الفن، فهو يقول عنه (أي الفن): ” إنه حدس أو حدس غنائي، ولما كان كل أثر فني يعبر عن حالة نفسية، وكانت الحالة النفسية فريدة وجديدة أبدًا، فإن الحدس يتضمن حدوسا لا نهاية لعددها ولا يمكن أن يجمعها تصنيف، إلا أن يكون هذا التصنيف مؤلفًا من عدد لا نهاية له من الزُّمر، ولن تكون هذه الزمر عندئذ زمر أنواع بل حدوس(9) ” ويري كروتشه أيضا أن نظرية الأنواع تجزئ آثار الفنان الواحد بينما يري أن كل أعمال الفنان ينبغي أن تكون وحدة تامة معبرة عن ذاته المتفردة، كما يري أن المبدعين الكبار طالما كسروا قواعد النوع الأدبي الذي يكتبون فيه ويعبرون الحدود من نوع إلي نوع آخر.

إن الإنجاز الحقيقي الذي أحرزه الموقف الرومانسي ليس في القضاء علي نظرية الأنواع بل يكمن في توجيه الأنظار ناحية النص باعتباره وحدة إبداعية فريدة يمكن دراستها في ذاتها وبيان مقوماتها الذاتية بصرف النظر عن النوع الذي ينتمي إليه أو الأنواع التي أخذ منها.

الواقعية وتقاليد النوع الروائي

لكن الرومانسية – التي كان لها السيادة بعد خيبة الأمل التي صاحبت إخفاق المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية – سرعان ما جوبهت بالرؤي والنظريات العلمية والفكر المادي والفلسفات الوضعية التي رافقت ظهور الطبقة البرجوازية في أوربا، الذي تمثل في سيادة الرؤية الواقعية، وتبوئها مكان الصدارة في الفن الأوربي، وكان من أكبر الإنجازات الفنية لهذه المرحلة الواقعية ظهور فن الرواية، ومن ثم جاءت الرواية معبرة عن الفكر المادي الواقعي متمثلا في الفلسفة الوضعية المنطقية ومبلورة للقيم الاجتماعية للطبقة البرجوازية التي حملت عبء هذا الفكر الواقعي علي كاهلها.

1- وكانت السمة الأولي لهذا الفن الوليد أنها نبعت من الروح الفردية للأديب وليس من الروح الجماعية التي كانت السمة التي تميز بها آباء الرواية: الملحمة والسيرة الشعبية والقصص الخيالي، لأن الرواية كانت معبرة بل صادرة عن القيم الجمالية والفكرية والاجتماعية المعاصرة لظهورها، مثل قيم الذاتية والفردية والعصامية وتأليه الإنسان في ظل سيادة القيم البرجوازية.

2- إن الثورة العلمية الهائلة التي رافقت سيادة القيم البرجوازية جعلت الإنسان الأوربي يؤمن بمقدرته غير المتناهية علي التحكم في العالم، فالإنسان الأوربي في هذه المرحلة كان يعتقد أنه سيطر علي العالم وأن كل شيء يمكن التوصل لأسبابه المادية الفيزيقية عن طريق العلم، حتي الإنسان نفسه يمكن اكتشاف قدراته الداخلية والتحكم في مصيره بالعلم، مما أثمر مفهوم الحبكة الروائية المحكمة التي هي المظهر الفني للشعور بالسيطرة علي العالم والقدرة علي التحكم في مصيره، وكذلك مفهوم الواقعية باعتبارهما قيمتين فنيتين.

3- لم يعد البطل إلها أو نصف إله كما في الملاحم والسير الشعبية بل أصبح البطل إنسانا معتادا مثل سائر الناس تتحكم فيه غرائزه الدنيا وشهواته الأرضية، وكل ما في الأمر أنه عصامي يعتمد في تفوقه علي قدراته الذاتية، ويقدس العمل مثل إنسان الطبقة البرجوازية.

4- إن الحقيقة في الرواية الواقعية التي هي الفن البرجوازي الأول لم تعد مثالية محلقة في عليائها، بل أصبحت ملتفة بذرات الواقع الفيزيقي، ومحكومة بقوانين تجريبية مادية تستند إلي نظريات علمية محكمة في بحثها عن الحقيقة، مثل منهج البحث العلمي عن الحقيقة الطبيعية عند داروين في نظريته عن النشوء والارتقاء، أو نظريات التحليل النفسي عند فرويد أو النظرية الاجتماعية عند دوركايم أو الاجتماعية الاقتصادية عند كارل ماركس.

5- إن الرواية جاءت بوصفها شكلا تلفيقيا – كما يقول عنها إيخنباوم (01) – أو مستنقعا ترويه مئات القنوات – كما يقول فورستر(11)- وكان ذلك استجابة للواقع الفعلي لفكر الطبقة البرجوازية الذي تخلي عن المثاليات المحلقة.

وهكذا ظهر هذا النوع الجديد وأثمر أعمالا روائية عظيمة علي أيدي الروائيين العمالقة في الغرب من أمثال إميل زولا وبلزاك وفي الشرق أمثال تولستوي وديستويفسكي وفي الأدب العربي أمثال نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وفتحي غانم وغيرهم، وحمل معه تقنيات جديدة استقاها من العلاقات الناشئة بين الإنسان والعالم المحيط به حسب القيم البرجوازية وحسب النظريات السائدة، ومن ثم نري أن الأنواع الأدبية لم تمت بل أفرخت أنواعا جديدة تتلاءم مع القيم الجديدة، نعم إنها ليست في صلابة القيم الإنسانية الخالدة التي أقام عليها أفلاطون وأرسطو تفريقهما للدراما والسرد التاريخي والملحمة، بل هي قيم اجتماعية وعلمية متحولة، لكنها مع ذلك أنشأت أنواعا أدبية راسخة مثل الرواية والقصة القصيرة.

تطور النوع الروائي فيما بعد الواقعية

بعد ظهور نظرية النسبية واكتشاف البعد الرابع علي يدي أينشتين انهار اليقين العلمي، فقد تخلخل إيمان الإنسان المعاصر بالعلم ولم يعد الإنسان واثقا من قدرته علي الإحاطة بالعالم المحيط به ومن ثم تبدد وهم سيطرته عليه، كما اختل إيمانه بأن العلم قادر علي إسعاد البشرية بعدما شاهد الدمار الهائل الذي أحدثه التقدم العلمي خلال الحربين العالميتين الأولي والثانية، نتيجة لذلك تغيرت العلاقة بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والعالم وبين الإنسان وأخيه الإنسان بل بينه وبين نفسه، ومن ثم تغيرت التقاليد الفنية للرواية كما تطورت التقنيات السردية التي سادت الرواية الواقعية التقليدية وظهرت تقنيات جديدة تتلاءم مع الأشكال الجديدة والواقع الجديد، ومن ثم ظهرت أشكال روائية عديدة أشهرها ما يلي:

1- رواية تيار الوعي، وهي تعتمد علي الفلسفة الظاهراتية التي تري أن الحقيقة لا تكمن في الواقع الموضوعي الفيزيقي، بل تري أنها تكمن في الوعي الإنساني بهذا الواقع، كما تعتمد علي أن الأداة التي يمكن أن تتجلي فيها هذه الحقيقة هو فيضان الشعور، ومن ثم انفرط عقد الحبكة الدرامية المحكمة في الرواية، واختل توازن الزمان الفيزيقي وتقطع اتجاهه وتسلسله وأصبح زمانا نسبيا ذاتيا محكوما بالخبرة الإنسانية، وأصبحت الأحداث تروي من خلال تقطيرها في وعي الراوي أو إحدي الشخصيات.

2- رواية الأشياء أو الرواية الجديدة، وقد ظهرت في فرنسا علي يدي ألان روب جرييه وناتالي ساروت وغيرهما، وهي تعتمد علي رؤية تشاؤمية للعالم، لأنها تري أن العالم خال من المعني وأن وجوده عبث، وأن الأشياء فيه لا تحمل أي دلالة بما فيها الإنسان نفسه، لأنه مجرد شيء موجود فحسب، ولذلك خلت رواية الأشياء من العواطف والأحاسيس الإنسانية، كما خلت من الروابط السببية المادية أو غير المادية، هي مجرد أشياء متراصة وأحيانا متنافرة وغير معقولة.

3 – رواية العبث أو اللارواية، وهي عبارة عن تركيب غير منطقي للعالم، لا يتقيد بتسلسل درامي أو حكائي، ولا يخضع لمبدأ السببية، والرواية من هذا القبيل لا تحمل حكاية، ولا ترسم شخصيات لها ملامح، إنها مجرد لوحة ذات ألوان صارخة سريالية تشبه اللوحات السريالية في الفن التشكيلي.

هذه الأنواع وغيرها كثير ظهر في أوربا علي أنقاض الرواية الواقعية، وكلها تشترك في:

1- التمرد علي التقاليد الراسخة للرواية الواقعية التقليدية التي ظهرت في أوربا إبان صعود الطبقة البرجوازية، وبروز قيم جديدة وتقنيات جديدة تتلاءم مع الواقع الجديد والقيم الإنسانية والاجتماعية الجديدة.

2- التخلي عن الحبكة الفنية المحكمة واستبدالها بالتصميم الفني الذي يشبه نظم التصميم في الفنون التشكيلية.

3- الحرية في القفز بين الأنواع الفنية وغير الفنية والإفادة من تقنياتها، وبخاصة من الفنون التشكيلية ومن السينما والأفلام التلفزيونية من التاريخ والأساطير وغير ذلك.

هذه الأشكال الجديدة المتمردة علي الشكل التقليدي ظهرت في الرواية العربية في مصر منذ ستينيات القرن الماضي، لكن ظهورها في البيئة المصرية في هذه الفترة كان بطرق مختلفة ولأسباب مختلفة أيضا:

1- وكان أسبق هذه الأشكال إلي الظهور هو رواية تيار الوعي، وهي لم تظهر في صورتها الكاملة النقية المعبرة عن حيرة الإنسان وتمزقه وفقدانه لليقين كما هو الشأن في روايات جيمس جويس أو فرجينيا وولف، بل ظهرت بصورة جزئية في روايتي الشحاذ واللص والكلاب لنجيب محفوظ وفي رواية حارة الطيب لمحمد جلال وغيرهما، فلم تعتمد أي من هذه الروايات بصورة كاملة علي تيار الشعور عند الراوي أو عند إحدي الشخصيات كما هو الشأن في رواية تيار الوعي الأوربية، بل جعل نجيب محفوظ تيار الوعي في اللص والكلاب مثلا يتناول جزءا من القصة وهو حياة سعيد مهران (بطل الرواية) منذ طفولته حتي دخوله السجن، ثم أرفق نجيب محفوظ بذلك تكوينا حدثيا آخر يحمل في طياته حبكة تقليدية ويستوعب المرحلة السابقة ويتناول حياة سعيد مهران القصيرة منذ دخوله السجن إلي خروجه منه مرة أخري، بالإضافة إلي ذلك فإن الدوافع والغايات التي صاحبت ظهور هذا النوع من الروايات في كل من أوربا ومصر كانت مختلفة، فبينما كان تيار الوعي في أوربا نتيجة طبيعية أو تعبيرا عن الفلسفة الظاهراتية التي تري أن الحقيقة لا تكمن في الواقع الموضوعي بل في الوعي بهذا الواقع فإن استخدام تيار الوعي في الرواية المصرية في الستينيات استخدم بوصفه قناعا لما أراد الكاتب التعبير عنه في واقع مأزوم، في وقت كان التعبير المباشر فيه غير متاح، ومن ثم لم يكن هذا التحول في النوع شكلا روائيا عاما بقدر ما هو أسلوب فني أو مجرد تقنية سردية خادعة لتعمية الدلالات السياسية والاجتماعية في المناطق المحرمة.

2- بالإضافة إلي ذلك ظهر في الستينيات لون جديد من الرواية التي تجاوزت الشكل التقليدي للرواية الواقعية، ويتمثل هذا الشكل في تكسير الواقع المصور وتطعيمه بأحداث تاريخية، أو في معالجات واقعية عن طريق اقتباس تقنيات من السرد التاريخي، كما هو الشأن في رواية «السائرون نياما» لسعد مكاوي، ورواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني، ورواية حمام الملاطيلي لإسماعيل ولي الدين، وكل هذه الروايات استخدمت هذه التقنية بوصفها قناعا أيضا.

3- هناك لون ثالث ظهر أيضا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وهو الروايات التي استخدمت تقنيات رواية الأشياء، وتمثلها رواية ” تلك الرائحة ” لصنع الله إبراهيم، وقد استخدم الكاتب تقنيات رواية الأشياء أيضا بوصفها قناعا للتعبير عن موقف نقدي سياسي أو اجتماعي خاص.

4- وهناك لون آخر استخدم رواية العبث بوصفها قناعا أيضا وذلك في رواية «لعبة القرية» لمحمد جلال.

5- كما ظهرت تقنيات الرواية الوجودية بوصفها قناعا أيضا في رواية «أحزان نوح» لشوقي عبد الحكيم.

كل هذه الأنماط الروائية الجديدة ظهرت في الرواية المصرية، وتمردت علي القوالب التقليدية للنوع الأدبي، فاقتبست من تقنيات السينما والفن التشكيلي والسرد التاريخي وتخلت عن نظام الحبكة والبناء المحكم، لكن التقنيات الجديدة فيها لم تظهر بوصفها تعبيرا جماليا عن علاقة مختلة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والإنسان كما هو الشأن في الرواية الأوربية، بل نشأت للتعبير عن موقف مأزوم سياسيا وثقافيا في ظروف قاهرة ضاقت فيها مساحة الحرية الفردية أو حرية التعبير، ومن ثم استخدمت هذه التقنيات في هذه الفترة بوصفها أقنعة تعبر عن علاقة الإنسان بواقعه السياسي والثقافي ولكن من زاوية أخري غير الزاوية التي استخدمت فيها في أوربا، ومن ثم يمكن وصفها كلها بأنها روايات رمزية ذات أقنعة(21).

عصر الانفتاح والنوع الروائي

منذ الثمانينيات من القرن الماضي طرأت علي الحياة المصرية والعالمية ظروف جديدة أدت إلي تطور العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به والعلاقة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه، مما دعا إلي ظهور أشكال روائية جديدة وتقنيات سردية جديدة وأشكال جديدة من تعامل النصوص مع تقاليد الأنواع الأدبية، ويمكن إجمال هذه الظروف وتأثيراتها فيما يلي:

1- الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، مما أدي إلي إلغاء المسافات بين البشر، وتحول العالم إلي ما يشبه القرية الواحدة، بحيث يمكن لكل فرد أن يتصل ويتحاور مع أي فرد في أي مكان في العالم وفي أي وقت، وقد أدي ذلك إلي سهولة انتقال الأفكار والقيم وتقارب الأذواق واتساع دوائر الوعي الإنساني، وتجاوز الأطر المحلية إلي العالمية، واتساع حرية التعبير، ومن ثم لم يعد هناك مبرر لاختفاء الكاتب وراء الأقنعة الرمزية.

2- تحول السلطات التقليدية نتيجة للحرية والسيولة المعلوماتية التي وفرتها أدوات الاتصال الحديثة، فقد خفت أو انهارت سلطة المعلم علي التلميذ، وسلطة الأب علي الابن، وسلطة الزوج علي الزوجة، وسلطة الطبيب علي المريض، وسلطة الحاكم علي المحكومين، بل سلطة الدولة علي الرعية، وقد ظهرت هذه العلاقات الجديدة المفككة، وفي البناء المفكك، وأصبحت الرواية أكثر جرأة علي الدخول في المناطق المحرمة: السياسة والدين والجنس، وأصبحت أكثر تمردا علي القيم الاجتماعية والفنية.

3- طوفان الأدوات التعبيرية غير اللغوية مثل الصور المتحركة واجتياحها لمناطق شاسعة من الربوع التقليدية العريقة للمملكة اللغوية، وساعد علي ذلك الانتشار الهائل للقنوات التلفزيونية وشبكات المعلومات الدولية، مما جعل الكتاب يشعرون أن التقنيات التقليدية للرواية بل للأدب عموما لم تعد قادرة علي التعبير عن تجاربهم الجديدة، فمزقوا إهاب النوع الروائي وهو أصلا نوع مرن قابل للتمزيق وأدخلوا فيه تقنيات غريبة من أشكال أدبية وغير أدبية، ولعل هذا السبب ( أي مرونة النوع الروائي ) هو الذي جعل الرواية هي الفن الأول بعد أن كان الشعر متربعا علي هذا العرش منذ مئات السنين.

4- في ظل الانفتاح الاقتصادي المحكوم برغبات السوق التي تتحكم فيها الشركات الاحتكارية الضخمة والمعروفة بالشركات متعددة الجنسيات، انهار كثير من القيم الأخلاقية المحلية والقومية وحلت محلها قيم السوق، و أصبح كل شيء محكوما بقانون العرض والطلب والمكسب المادي والخسارة المادية، ومن ثم تضخمت سلطة المتلقي/ الزبون، ولذلك اعتمد التشويق والعرض علي أدوات ترضي الذوق الشعبي العام، مثل مزج الواقعي بالسحري وحكاية الغرائب وتصوير الشخصيات غير السوية، وتخفيف الأسلوب وقصر النصوص وسرعة إيقاعها والبعد عن التفاصيل أو الإغراق في التحليل أو الإغراق في التفلسف.

5- انتشار البطالة الظاهرة أو المقنعة نظرا لميكنة الصناعة الحديثة وعدم احتياجها للعمالة الكثيفة من ناحية، ونظرا لعدم القدرة علي منافسة المنتجات الرخيصة المستوردة، مما نشأ عنه ظهور ذوق فني خاص يتلاءم مع العاطلين يشبه الأذواق الأرستقراطية المتبطلة في ميله إلي التسلية والهروب من الواقع إلي عوالم سحرية وإن كان هنا هروبا اضطراريا مؤلما، من الأوفق والأدق أن يوصف بأنه نفي أو اغتراب.

6-ظهور ما يسمي بظاهرة الخناثة في كل مظهر من مظاهر الحياة، ويتمثل ذلك اجتماعيا في ذوبان الفوارق بين ملابس الفتيان والفتيات، وذوبان الفروق بين نوع العمل الذي يقوم به الرجل والعمل الذي تقوم به المرأة، بل بين مسئوليات وتصرفات كل منهما، ويتمثل ثقافيا في الدهشان الفكري والتيه الثقافي، وقد أدي ذلك إلي إلف الأشكال المهجنة فنيا أو لغويا أو عاطفيا أو فكريا، فأصبح من المقبول أن يوصف الشيء بالوصف ونقيضه في وقت واحد كأن يوصف الشخص بأنه متفائل ومتشائم في وقت واحد أي (متشائل)، أو يوصف بأنه شجاع وجبان في وقت واحد، خائن ووطني، لص وشريف، ومن ثم أصبح من المألوف أن يوصف النص الروائي بأنه خنثي يجمع بين سمات أكثر من نوع في وقت واحد، وساد في السرد الأسلوب اللغوي الهجين ( الأسلوب الحر غير المباشر).

7- غياب سلطة القيم الأخلاقية التقليدية القائمة علي الحق والعدل والخير والحياء والوطنية وإحلال القيم البراجماتية الذرائعية محلها، تلك القيم التي تفاضل بين الأشياء والأعمال بناء علي الغاية النفعية فحسب، ومن ثم أصبحت الغاية تبرر الوسيلة، مما عمق الإحساس بالاغتراب النفسي والفني.

كل هذه العوامل انعكست علي الأعمال الروائية الجديدة فأصبحت لا تكسر فقط الحواجز بين الأنواع الأدبية، بل تعمل علي تفجير النوع الأدبي من داخله، فهذه الأعمال تتمرد علي القيم الجمالية التقليدية للنوع الروائي وعلي التقنيات السردية الروائية التقليدية وعلي الطرق التقليدية في تصوير الشخصيات وتصوير الزمان والمكان، بل تفتت الحبكة والحكاية معا، لأنها تصدر عن رؤية مهزوزة عاجزة ومغتربة، ومن ثم لا تملك إلا الاندفاع الهائج للتعبير المباشر عن تيار الثورة المكبوتة محطمة في سبيل ذلك العناصر الواقعية والروابط السببية للعالم المصور أو الانزواء في ضبابيات البلاهة وتعمد اللامبالاة حتي يبدو العالم المصور وكأنه بلا حدود أو قيود أو منطق.

النوع الأدبي والدراسات النصية

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن التعامل مع كل عمل من هذه الأعمال المتمردة علي النوع الأدبي؟ هل ينبغي عند قراءة هذه الأعمال المتمردة علي الأنواع التخلي تماما عن فكرة النوع الأدبي والتعامل معها علي أنها مجرد نصوص أو حدوس فريدة كما يقول كروتشه؟ أم نتعامل معها بناء علي درجة اقترابها أو ابتعادها عن النموذج الذي يمثله النوع الأدبي للرواية الواقعية التقليدية؟

إن فكرة التخلي تماما عن الأنواع الأدبية عند دراسة النصوص لم تكن واردة حتي في أذهان أكثر النقاد استغراقا في التحليل النصي، فهذا تودوروف يسخر من فكرة الاكتفاء بدراسة النصوص في ذاتها والتخلي عن الأعراف الجمالية للنوع الأدبي، ويشبه المقولة التي تدعي إنكار وجود الأنواع الأدبية بالمقولة الطبية التي تزعم بأنه لا توجد أمراض بل يوجد مرضي، ثم يقول تودوروف: ” ومن حسن حظنا أن علم الطب لم يأخذ بهذا المبدأ”(31) والأدباء أنفسهم عندما يكتبون أعمالا متمردة علي الأنواع أو قائمة علي مزيج من التقنيات المختلفة فإنهم ما زالوا يصفونها بأنها روايات أيضا.

ولهذا فإننا يمكن أن نتعامل مع ظاهرة التداخل النوعي أو التمرد النوعي علي أنها تقنية سردية جمالية تعتمد علي تكسير السرد أو التهجين الأسلوبي، أي خروج علي الرتابة السردية عن طريق إدخال أساليب مختلفة من أشكال متنوعة، أو علي أنها نوع من التغريب – حسب المصطلح الشكلي – كما يمكن التعامل معها علي أنها شكل من التناص حسب مصطلحات علم النص، أو علي أنها اختلاف ونفي للمركزية الفنية متمثلة في النوع الأدبي حسب مصطلحات التفكيكية، أو علي أنها إطار يستكشف أفق التوقعات لدي القارئ حسب مدارس التلقي، وكل جانب من هذه الجوانب يحتاج إلي بحث مستقل.

معني ذلك أن قضية النوع الأدبي تستخدم في ظل الاتجاهات النقدية المعاصرة بوصفها أداة لتحليل النص و قراءته، ولهذا يمكن القول بأن قضية الأنواع الأدبية لم تمت تحت ضربات المعاول التي سددها لها الرومانسيون أو الحداثيون أو نقاد ما بعد الحداثة بل بعثت بعد أفول نجم الرومانسية، ولكن بشكل جديد ولأغراض جديدة وبخاصة في ظل الدراسات السردية المعاصرة.

نماذج من الرواية المصرية المعاصرة

سوف يدور حديثنا في هذا المجال من خلال قراءتنا لثلاثة أعمال إبداعية صدرت طبعاتها الأولي خلال الأعوام الأخيرة، وهي حسب ترتيب صدورها: “مرج الكحل ” لـ ” منير عتيبة “(41) سنة 2005، و”دهشان ” لـ “عبد المنعم شلبي “(51) سنة 2006، و ” فدوي ” لـ”فدوي حسن “(61) سنة 2008 .

ولم يكن اختيار هذه الأعمال ناشئا من جدتها وحداثة مناهجها فحسب، ولكن لتمثيلها لرؤي ثلاثة أجيال، عبد المنعم شلبي ثم منير عتيبة ثم فدوي حسن، ولأنها تمثل اتجاهات فنية مختلفة أيضا.

1: “مرج الكحل” والنوع الهجين

سوف يحتار الناقد الأدبي في تصنيف هذا العمل الأدبي، هل يدرجه في عداد الروايات أم يدرجه في إطار القصص القصيرة؟ ففيه من الرواية تكامل العالم المصور، ووحدة الراوي/ السارد، وفيه من القصة القصيرة احتواؤه علي مجموعة من الوحدات القصصية القصيرة التي كتبت كما يشير الكاتب في أوقات مختلفة، وقد خرج الكاتب من هذا المأزق بأن أطلق علي عمله هذا اسم: ” متوالية قصصية “.

وعلي الرغم من أن شكل المتواليات القصصية من الأشكال المعروفة في مجال المجموعات القصصية القصيرة التقليدية فإن “مرج الكحل” ليست مجرد متوالية من القصص القصيرة التي يمكن قراءة كل واحدة منها بصورة مستقلة والتي لا يجمعها إلا البطل أو الراوي الواحد، وهي أيضا ليست رواية لأنها لا تحتوي حبكة ولا حكاية موحدة، هي عبارة عن شرائح للوحة كاملة من الرسوم المتحركة لكنها مفككة تشبه اللوحات المصممة عن طريق برنامج الرسام في الحاسب الآلي، أقول تشبه تلك اللوحات لثلاثة أسباب:

الأول: أنها ثلاثية الأبعاد، ففيها البعد الزماني والمكاني الواقعي الذي تتحرك فيه الشخصيات ( الراوي ووالده وجده …. إلخ ) وفيها البعد السحري الأسطوري والخرافي حيث تؤدي القوي الغيبية من العفاريت والجنيات والكائنات المسحورة دورا كبيرا في العالم القصصي، جزء ضبابي لا تبدو منه إلا رؤوس باهتة لأسماك مسحورة وجنيات وأشجار مسكونة بقطط من العالم السفلي وأسواق يقيمها الجن ولا يراها إلا من قدر له أن يدخل العالم السفلي.

الثاني: المرونة التي نلمحها في إمكان تحريك الشرائح السردية المكونة للوحة من مكانها، إذ إن كل حلقة قصصية تمثل شريحة من لوحة فنية متكاملة وتقوم بدور ما في الإيقاع الكلي للوحة، لكن من اليسير نقل شريحة أو أكثر من مكانها ولصقها في مكان آخر أو إعادة ترتيب الوحدات مع الاحتفاظ بتكامل اللوحة وإن كان الإيقاع سوف يختلف.

السبب الثالث: أن الصور التي رسمها منير عتيبة للناس صور صناعية هزيلة، تشبه الملامح البشرية في الفن التجريدي المعتمد علي اللون والخط، ومن ثم لا نجد فارقا فيها بين البشر وسائر الأشياء،

ومن ثم فإن القارئ لهذه الشرائح المكونة لهذه اللوحة يمكنه بعد الانتهاء منها تخيل صورة كاملة لقرية مرج الكحل وما يجاورها من قري وترع وحقول، ويتعرف علي من يعيش في بيوتها من الناس، وفي الوقت نفسه تتراءي له الأشباح التي تعشش في البيوت وفي عقول الناس، والجنيات التي تسكن الحقول والنداهة التي تختفي في مياه الترع. هي إذن مزيج مهجن يجمع بين ملامح من الرواية والقصص القصيرة والأسطورة والخرافة والحكاية الشعبية وتمتزج ملامح كل هذه الأنواع لتفرز لنا هذا الشكل الهجين غير المنتمي.

الملمح الثاني : هو التحلل من الروابط السببية المادية، حيث يعلل الراوي الأحداث بعلل أسطورية، ثم يتعامل معها علي أنها واقعية، وهنا يقترب الخيال من الوهم، حيث يهرب الراوي من سطوة الواقع، ومن اللافت للنظر أن الهروب هنا ليس هروبا خارجيا إلي أماكن نائية، بل هو هروب داخلي في نفس المكان ونفس الأشخاص، بل نفس الراوي / المؤلف، إنه نوع من الارتداد إلي الحياة البدائية، يشبه الهروب الصوفي.

الملمح الثالث في مرج الكحل هو أن السرد فيها رغم اعتماده علي رؤية فانتازية غير واقعية فإن الكاتب يجعله ذا طابع غنائي مغرق في الغنائية، فهو يحكي الأحداث بضمير المتكلم، ولذلك فإنه يقول في الإهداء:” إلي من احتفظوا بأسرارهم طويلا وجئت أنا لأفشي بعضها..سامحوني”(71) ثم يقص سائر الأحداث باعتبارها حدثت له هو، فالرجل الذي أخذته النداهة إلي عالمها السحري تحت مياه الترعة ثم استطاع فك الطلسم السحري الذي كتب علي من يفكه أن يرث حزن العالم هذا الرجل هو جده، والفتاة التي منحت العفريت قبلة حارة تحت الشجرة المسحورة فأنقذته من الاحتراق هي جدته، والنخلتان المسحورتان تسكن في إحديهما روح جده والأخري تسكنها روح جدته، وهكذا نري أن العالم المصور هو عالمه الذاتي والناس أهله بمن فيهم خاله الأرضي وجد والده المسحور وسائر الكائنات المسحورة هم أهله، حتي غدا السرد كأنه قصيدة غنائية ذاتية مروية بضمير المتكلم، مما جعل صفة الفانتازية لا تقتصر علي العالم المحكي بل تشمل بصفة أساسية الرؤية الساردة التي هي في الوقت نفسه رؤية المؤلف الضمني.

رابعا:من الملاحظ أن جميع الشخصيات الواقعية المصورة في العالم القصصي لمرج الكحل ضعيفة مقهورة مستسلمة مسيرة بقوي ميتافيزيقية سحرية غير معلومة الأسباب، ولا تستطيع الشخصيات دفع سطوتها بل لا تريد ذلك، فالجد رغم قوته فإنه محكوم بإرادة النداهة ضعيف أمام سطوتها، حتي عندما فك الطلسم الذي هو سر سحرها أصبح محكوما بما هو مكتوب علي الحجاب الذي يسكن في قلب الوردة. والجدة مسحورة منذ قبلت فم العفريت، والجد عبد الحفيظ وسائر أبناء القرية منجذبون فاقدو الإرادة أمام رغبتهم الجارفة نحو رؤية مرج الكحل، والحاج فتحي يعجز عن الإمساك بالقط المسحور الذي يخمش وجهه كلما مر علي شجرة الجميز التي زرعها علي رأس أرضه، فيغضب غضبته المألوفة ويحلف أن شاربه سوف يكون علي امرأة إذا لم يقطع شجرة الجميز غدا لكنه لا يفعل شيئا، تغضب شجرة الجميز علي الحاج فتحي مثلما غضب عليها، لكنها- بخلافه – تفعل، حيث تتحرك من مكانها وتحركت معها كل أشجار القرية مما هدد القرية كلها بضياع الحدود والملامح، وفي النهاية تراجع الحاج فتحي وذهب إلي الشجرة ليعتذر لها، وهكذا نري أن علاقة الإنسان في هذه اللوحات بالطبيعة علاقة عجز، كان الإنسان في الرواية الواقعية التقليدية هو الذي يقهر الطبيعة، أما هنا فهو عاجز بل هي التي تقهره.

خامسا : أن هذا العالم الذي يمتزج فيه الوهم والخيال بالواقع ليس مبنيا بناءً رمزيا مباشرا، فهو لا يقول شيئا، وليس فيه إشارات انتقادية أو أيديولوجية، هو فقط عالم غريب يستخدم الفانتازيا للتشويق وللمتعة ولرسم لوحة فنية غرائبية تقوم العلاقات فيها بين الناس والأشياء علي روابط غير عقلانية.

سادسا: أنها صغيرة الحجم وتخلو من التحليل الفلسفي العميق، فهي تلائم القارئ المعاصر الملول الذي لا يستهويه العمق ولا يصبر علي الإطالة، ولا يهمه معرفة الأسباب وأسباب الأسباب، ومن ثم فإن التشويق فيها لا يعتمد علي كشف الأسرار الفكرية أو التأمل في الأغوار كما هو الشأن مع النصوص التي كانت تستهوي الأجيال الماضية، بل يعتمد التشويق هنا علي الإغراب الحدثي المتمثل في سحرية السرد والدخول بالقارئ في الكهوف المظلمة وإمتاعه بالمناظر السحرية المسلية، فذوق الشاب المعاصر يشبه أذواق الطبقة الأرستقراطية الأوربية قبل الثورة الصناعية، باشوات متبطلون مثلهم لكن بدون ثروات.

سابعا وأخيرا: فإن اللغة المستخدمة ليست شعرية ولا ضبابية، بل هي بسيطة بساطة العالم الفطري البدائي الأسطوري الذي تصور ملامحه، فالخطاب السردي في لوحات مرج الكحل شبيهة بالخطاب السردي للجزء الأول من ألف ليلة، حيث تدخلك الجمل السهلة القصيرة والتعبيرات في سراديب عالم مسحور، لكن الخطاب في مرجل الكحل يجعل في يد القارئ دائما طرف الحبل الذي يمكنه أن يتشبث به للخروج من هذه السراديب المسحورة إلي عالم الواقع.

2:« دهشان» والنوع الأدبي المفرغ

وكذلك فإن العالم الذي صوره عبد المنعم شلبي في روايته “دهشان ” عالم غريب مخيف، فهو بلا ملامح ولا حدود، والناس فيه تعساء مقهورون، بل هم تائهون لا يعرفون مصائرهم ولا يشاركون في تحديد هذه المصائر التي ينجرفون إليها مرغمين، قوة جبارة تهوي بهم إلي مصير مجهول لا يفهمون أسبابه ولا غايته ولا يملكون دفعه.

يصور الكاتب هذا العالم الواقعي علي أنه عالم غريب، لا يلجأ هو إلي تغريبه أو انحرافه للتعبير عن فكرة يؤمن بها الكاتب أو أيديولوجية يبشر بها، ومن ثم فإن الرواية ليست من تلك الروايات الرمزية أو الأيديولوجية التي تصنع من الواقع قصة، بل هي رؤية خاصة للواقع، رؤية غرائبية تصور الحقيقة ممزوجة بالخيال.

فالبطل في هذه الرواية اسمه “دهشان” واسم أبيه ” حالم ” واسم جده “دهشان ” وينجب ولدا يسميه ” حالم ” أيضا، والقرية التي ينشأ فيها دهشان والتي يعرفه فيها الناس كما يعرفون أنفسهم وأبناءهم تسمي قرية ” الغرباء”، والصنعة التي يجيدها دهشان هي الصيد، ليس صيد الغزلان أو الأسماك فحسب وإنما صيد الخواطر والأفكار ثم تقييد هذه الخواطر في دفاتر عن طريق اللغة. كان دهشان يدمن الأحلام في نومه وفي يقظته، يعيش في الأحلام، في يوم من الأيام وأثناء عودته من رحلة صيد لم يجد القرية لقد ضاعت أو ضاع هو، تاه لم يعرف الطريق إليها ولم يهتد إليها حتي آخر الرواية، قادته خطاه إلي الدقي القديم بالقاهرة حاملا معه شعورًا جارفًا بالغربة والتيه والشوق إلي جنته القديمة “قرية الغرباء” وجد في القاهرة عالما شهوانيا أعمي يقوده البطش ويضيع فيه المنطق، تعرفت عليه فتاة قاهرية جميلة يرجح أن يكون أبوها من الغرباء، تزوجته، أدخلته بلا وعي وبلا روية مصيدة حريرية ناعمة محكمة وحاولت استخدام قوته الباطشة لإقامة العدل ورفع الظلم وحماية الأمن في داير الناحية بالدقي، ونجحت وأنجبت منه ولدا، لكن دهشان يكتشف أنه ليس هو التائه الوحيد بل هناك مثله كثيرون وليس هو التائه عن الغرباء بل القرية أيضا ضائعة، يقول عن نفسه: ” اكتشفت وأنا في الصحراء أنني لم أكن التائه الوحيد. التقيت أفرادا آخرين، واحدا بعد الآخر، وكل واحد منهم كان يسألني عن الطريق إلي قريته، ولا يجد مني جوابا لأنني تائه مثله (81) ، ولم يفارق دهشان الإحساس بالغربة، ولم يشف من إدمان الأحلام أو تجسيد الأحلام في تحركات عملية، فتاه كعادته عن زوجته وابنه وعن القاهرة، وتحولت القاهرة إلي “غرباء ” جديدة يجد في البحث عنها وتفاقم إحساسه بالغربة، عاد إلي داره وزوجته بعد ساعات فوجد أنها قد ابتعدت عنه خمسين سنة إلي الوراء لقد تغيرت لم تعد كما كانت، في هذه الأثناء فقد أدوات الصيد التي كانت عدته، السنارة والقلم والقرطاس، كرر المحاولة مرة أخري في الإسكندرية، وفشل أيضا مثلما فشل في القاهرة، لأنه لم يستطع أن يتخلص من دائه القديم، كتب عليه – كما يقول عن نفسه – أن يقضي عمره وحيدا حائرا في المتاهة أن يضيع صوته في الظلام أن يعيش مهزوما من داخله مثقلا بالإحساس بالهزيمة ومرارتها، فلم يبق له إلا أن يعيش في الوهم: يقول مخاطبا نفسه: ” أنت تدعي النوم، تهرب من مواجهة المواقف المفاجئة، بدلا من أن تحاول فك غموضها تهرب منها أنت يا دهشان رجل ضعيف ” (91) لقد كان الطريق الذي يريد دهشان الوصول إلي نهايته طويلا وشاقا ولا يتمكن من قطعه إلي نهايته إلا الأنبياء، وكان هو أضعف من ذلك بكثير، لذلك لم يجد في النهاية مفرا من اللجوء إلي ضريح سيدي العجمي المدفون بالإسكندرية يقوده إليه رجل ضرير يتحسس الطريق بعصاه.

والكاتب يستخدم زاويتين للرؤية لرصد العالم المصور، هما: زاوية الراوي العليم وهي تقترب من رؤية الكاتب نفسه وصاغ مشاهدها بضمير الغائب، وزاوية البطل نفسه وصاغها بضمير المتكلم، وربما تكونان معا تعبيرا ذاتيا عن تجربة ذاتية للمؤلف نفسه، تجربة الحياة المثالية في عالم ضاعت فيه المثالية.

والعلاقة التي تربط بين الناس في الرواية هي علاقة الخضوع والسيطرة، وليس المنطق أو العاطفة، فالقوي فيها يقهر الضعيف، البلطجية يقهرون الناس في الدقي ويستولون علي أموالهم، ونوران ابنة تاجر الأدوات الكهربائية تقهر دهشان بقوة سحرها وجمالها فتجعله كما يقول هو ينجر خلفها بلا وعي ولا روية حتي تدخله المصيدة، ودهشان يقهر البلطجية بساعديه القويين ويحولهم إلي ضعفاء مهزومين، كما أن الطبيعة متمثلة في الصحراء تهزم البطل ـ وسائر الشخصيات ـ فتجعلها طول عمره تائها، بل إن كل شخصية في الرواية مهزومة من داخلها بعناصر من الداخل أيضا.

ومع كل ذلك فإن الإطار العام للرواية يبدو كأنه إطار تقليدي، فهي تحتوي علي حكاية وعلي شخصيات، لكن هذا الإطار مفرغ من الداخل، فلم تعد الشخصيات شخصيات روائية، ولم تعد الروابط سببية واقعية، ولم يعد الزمان واقعيا، وخلت الرواية من الحبكة، فماذا بقي من فن الرواية؟ لقد فجر الكاتب الشكل الروائي من الداخل فلم يبق منه إلا الإهاب الخارجي، واستولد نوعا روائيا جديدا يعتمد علي سحر الواقع وظلاله، وهذا ربما يكون أصدق في دلالته علي الواقع من تصوير الواقع نفسه.

“فدوي ” والكتابة المارقة

أما رواية ” فدوي” فقد أسمتها صاحبتها فدوي حسن ” رواية”، علي الرغم من أن هذا العمل الجديد في أسلوبه وشكله لا يسير حسب الأعراف والتقاليد الروائية ولا يستخدم تقنيات الفن الروائي، لكن القارئ لهذا العمل يتساءل: إن لم يكن هذا العمل رواية، فماذا يكون؟ هل يكون قصيدة؟ نعم فيه من الشعر الغنائي لغته التصويرية وذاتيته المفرطة وتحليقه الخيالي، وتقطيعاته الموسيقية، وجمله القصيرة الموحية، وعاطفته الجياشة، ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نقول عنه إنه قصيدة غنائية أو ملحمية، لأن الكاتبة جلست لتكتب قصة وهي بالفعل قصة حياة أو تجربة ذاتية مسرودة في ثوب قصصي، ربما تكون أقرب إلي فن السير الذاتية لكنها ليست سيرة ذاتية، هي إذن لا رواية ولا قصيدة وليست سيرة ذاتية إنها ربما تكون سليلة حديثة لفن التجليات أو الإشارات الذي انقرض بموت كبار المتصوفة والفلاسفة القدامي امتزج بكل هذه الفنون الحديثة وتمرد عليها في وقت واحد، وإن أصدق وصف يمكن أن ينطبق عليها هو ذلك الوصف الذي أطلقته الكاتبة في صلبها وهو: أنها كتابة مارقة(02) .

وهي فعلا كتابة مارقة شكلا وموضوعا ومضمونا، فالكاتبة لا تراعي قوانين أي نوع أدبي بل تتمرد علي كل الأشكال المتعارف عليها، إنها قفزة جريئة لتجربة ذاتية خارج إطار الحلبة، وتحتوي تجربة متمردة علي التقاليد والأعراف والأفكار الموروثة، وخوض فيما كان ممنوعا، وكشف للمستور جنسيا والمخبأ فكريا، بصورة انتقامية، فالوسيلة الوحيدة للانتقام – كما تقول هي- أن تكتب عنهم بصدق(12) .

أفضل طريقة لقراءة هذا العمل – كما أري – أن نتعامل معه علي أنه نص مارق لا نوعي، أو أنه شكل جديد تخلق من امتزاج وتفاعل جينات وراثية لأشكال مختلفة، فالكاتبة نفسها تري أن الإبداع يكمن في التمرد علي المألوف، تقول: ” الإضافة تعني الخروج عن النص(22) الكتابة نصف انحراف والانحراف أفضل طريق للوصول للحقيقة”(32) وهي قد خرجت علي النص وعلي قواعد النوع الأدبي وعلي الأعراف والتقاليد التعبيرية المألوفة.

فطريقة كتابة النص تشبه كتابة الشعر المنثور أو قصيدة النثر، من حيث اعتمادها علي فواصل أو سطور لا يتحكم فيها نظام الجملة والفقرة المعبرة عن اكتمال الفكرة، بل نظام الدفقة الشعورية، فالتصميم الكتابي تصميم شعري، وهو الفارق بين البيت الشعري والفقرة النثرية، واللغة انفعالية، وعلي الرغم من ذلك فإن الجمل التي تقوم عليها رغم قصرها وإيقاعها الشعري جمل سردية، الفعل فيها سردي يحتوي زمانين ومكانين، وله فاعلان مثل سائر أفعال السرد التقليدي المتعارف عليها.

والمقاطع عبارة عن صور لملامح ذكريات ترسم خيوطا طولية لكائنات بشرية تستدعي في ذاكرة الراوية (فدوي) وسميتها المؤلفة (فدوي حسن )، وتحكي قصة معاناتها منذ أن كانت طفلة في الريف ثم في المدرسة ثم في الجامعة ثم زواجها في المدينة وصراعها في حياتها الزوجية ثم إنجابها وترملها، قصة مأساة مؤلمة وفي الوقت نفسه لذيذة مثل الولادة، مرسومة رسما جميلا لأنها من الذاكرة ومؤطرة بالوعي، وفي كل مرحلة من مراحل التجربة التي تمر بها هذه الفتاة تكمن بذور المفارقة، فهي متمردة وفي الوقت نفسه مستسلمة، هي البطل وهي الضحية في وقت واحد، ريفية ساذجة وفي الوقت نفسه تحاور هيجل وسارتر و كيركيجارد وميشيل فوكو وبسكال وشلر، تحكي بسطحية وببراءة عن تجربة معقدة عميقة، مغتربة وذاتية إلي حد مفزع – كما وصفها – محمود أمين العالم في تعليقه عليها، لها ظلال وأطياف وليس لها جسد محدد بالتفاصيل، فقد زالت معالمها ولم تبق إلا آثارها النفسية الحادة الكامنة في الشعور أو اللاشعور، فهي لا تهتم بالتفاصيل بل تعمد إلي الفكرة فتطرقها بطريقة لاسعة تشعل في المتلقي شعلة من التحريض الثوري، تتلفع فيها الفكرة أحيانا بغلالات من الضبابية التي تتراءي من خلفها أشباح إنسانية نلمس فيها العنف الشديد والقسوة المفرطة والآلام المبرحة، وتصرخ أحيانا بالشكوي والأنين فتبدد غشاوة الخجل الأنثوي، ففيها صراع حاد بين البوح والكتمان، بين الصراحة والحياء، بين التعقل واللامعقولية، بين الواقعية والتحليق في الخيال، بين الممكن والانقياد خلف اللاممكن، بين اليأس والرجاء، إن فدوي في الرواية شبيهة بشخصية “سعيد أبي النحس المتشائل ” البطل الذي رسمه الكاتب الفلسطيني ” إميل حبيبي” في روايته “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”.

وبعد.. فيمكننا القول بأن مسيرة التطور الذي سلكته الأنواع الأدبية ـ ممثلا في النوع الروائي ـ تسير في اتجاهين مختلفين:

الاتجاه الأول: يتعلق بعملية الإبداع، ونلاحظ فيه أن النصوص الروائية المعاصرة تمردت علي التقاليد التي كانت متبعة في الرواية الواقعية الأوربية، وأن هذا التمرد اتخذ عدة مظاهر هي:

1- استعارة تقنيات سردية وغير سردية من مجالات فنية وغير فنية مختلفة، مثل تقنيات السينما والفنون التشكيلية، والسرد التاريخي والسرد الأسطوري والملحمي ومن أساليب التحليل النفسي، ومن الشعر الغنائي.

2- تفكك البنية السردية والاستعاضة عنها بالتصميم الفني.

3- التخلي عن أهم سمة ميزت الرواية عند نشأتها وهي الواقعية حسب المفهوم الذي أفرزه العقل المنطقي الوضعي الأوربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستبدالها بالواقعية السحرية والفانتازيا والهروب من الواقع.

4- الإنسان في النصوص الروائية المعاصرة أصبح مغتربا عن واقعه، هاربا من عالمه، حالما غير واقعي، يائسا مقهورا يشعر بأنه مسير من قبل قوي خفية لا يعلمها ولا يتحكم فيها بل لا يملك التحكم في مصيره.

5- علي وجه الإجمال فإن النصوص الروائية المعاصرة مزقت إهاب النوع الروائي وتحررت من سطوتها لكنها لم تتخذ لنفسها قيودا أخري تحل محلها، ولم تتبلور مساراتها في أشكال يمكن الحكم عليها بأنها أنواع وليدة.

أما الاتجاه الثاني: فهو نقدي تنظيري، وقد انتهت الدراسات النقدية المتعلقة بالنوع الروائي بل بالأنواع الأدبية بشكل عام إلي استخدام النوع الأدبي باعتباره نموذجا في التحليل النصي أو الاسترشاد به في دراسة التناص عند علماء النص، أو رصد أفق التوقعات لدي القارئ عند أصحاب مدارس التلقي، أو باعتباره مركزا دائم التشكل كل شكل منه ينفي ما قبله ويختلف معه أو يلغيه حسب الرؤية التفكيكية للنص.

علي أي حال فإن كل جانب من الجوانب السابقة يحتاج إلي دراسة مستقلة، ويكفينا هنا أننا أجبنا عن الأسئلة الأولي في هذه القضية الشائكة والتي رصدنا من خلالها ثلاثة نماذج مصرية للتحلل النوعي لفن الرواية، وانتهينا إلي أن هذا التحلل في نوع الرواية أو في سائر الأنواع الأدبية ليس نذيرا بانتهاء فكرة النوع الأدبي جملة بل هو بشير بميلاد أنواع جديدة سوف تخرج من تحت الرماد، ذلك لأن هناك علاقة وطيدة بين الأطر الجمالية التي تتخذ شكل العصب أو الأنواع وبين القيم الإنسانية، فالقيم الإنسانية تتبدي في كل جيل وفي كل ثقافة بوجه جديد بل تتبدي في كل نص بوجه، لكنها في النهاية هي قيم إنسانية مثل البشر لا تنتهي إلا بفناء الجنس البشري نفسه.

الهوامش

1- أفلاطون الجمهورية ترجمة فؤاد زكريا ط الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 5891 ص 952، 062.

2- الجمهورية ص 362.

3- الجمهورية ص362.

4- أرسطو: كتاب أرطوطاليس في الشعر، ترجمة شكري عياد دار الكاتب العربي للطباعة والنشر 7691 ص82.

5- المرجع السابق ص23.

6- السابق ص43.

7- رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت سنة 7991 ص673.

8- راجع هذه الاستخدامات والرد علي كروتشه في كتابنا البنية السردية للقصة القصيرة، مكتبة الآداب بالقاهرة ط3 سنة 5002 ص91 وما بعدها.

9- بنديتو كروتشه المجمل في فلسفة الفن ترجمة سامي الدروبي ط دار الفكر العربي القاهرة سنة 7491 ص 37،47.

01- راجع بوريس إيخنباوم حول نظرية النثر نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب ط مؤسسة الأبحاث العربية الرباط ص 211.

11- إدوارد مورجان فورستر أركان القصة ترجمة كمال عياد ط دار الكرنك بالقاهرة سنة 0691 ص8.

21- راجع الباب الثالث من كتابي: تطور التقنيات السردية في الروايةالمصرية ، مكتبة الأداب بالقاهرة سنة 8002.

31- تودروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة ، دار توبقال المغرب سنة 7891 ص62.

41- منير السيد محمد عتيبة: محرر مجلة امواج سكندرية علي الإنترنت، صدرت له عدة أعمال قصصية منها رواية حكايات آل الغنيمي ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومجموعتي الامير الذي يطارده الموت وحكايات البيباني ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.

51- أديب وناقد بدأ ينشر أعماله القصصية منذ الستينيات من القرن العشرين، له مجموعات قصصية عديدة منها الخط المائل 8691، معني الابتسامة9691، رقصة واحدة 0002 عبور صياد إل يعيون الشمس 1002 الماء يجري في النهر 4002، وله روايتان عنوان الشمس مازالت تشرق 2002، وله دراسة بعنوان تذوق الجمال في الأدب 2002.

61- كاتبة شابة تعد رواية فدوي باكورة انتاجها الأدبي.

71- منير عتيبة ،مرج الحكل: متوالية قصصية ط1 سنة 5002 ص3.

81- عبد المنعم شلبي دهشان ص52.

91-الرواية ص07.

02- فدوي حسن ، فدوي ط1 شمس للنشر والتوزيع، القاهرة سنة 8002 ص37.

12- الرواية ص7.

22- الرواية ص 33.

32- الرواية ص341.



أعلى