فاتن فاروق عبد المنعم - بقعة ضوء (١٠)

(١٠)
نهاية الحكم اليوناني- الروماني (الدولة البيزينطية):
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

26 آل عمران

الكل مؤمن وكافر خاضع لمراد الله، ألف سنة يحكمون مصر، نخبة يونانية رومانية تتقاطع مصالحها مع عموم المصريين، نصارى ووثنيون،

ولا غرو أن يسمي المسلمون عاصمتهم في مصر بالفسطاط، فسطاط الإسلام الذي يشمل الجموع مهما كان دينهم،

لم يكن الإسلام غريبا عليهم وإن كانوا يجهلونه بأطره القشيبة التي بين أيدي العرب الفاتحين،

فتلك الدعوة سبق وأن سمعوا بها من قبل من الأنبياء الذين مروا بأرضها،

فليست هذه الدعوة بغريبة على أسماعهم، لمصر دائما دور محوري من خلال موقعها،

هي من كتبت السطر الأخير في إغارة الصليبيين والتتار على العالم الإسلامي، كم عصفت بها من أزمات وخطب جلل كادت أن تطيح بسفينتها حتى يخيل إليك أنها في زوال ماحق،

ولكن كانت دائما وأبدا يد الله فوق أيديهم، نعم القول الفصل الإلهي يضبط الميزان المضطرب،

ولكن ما ينبغي التوقف عنده والتأمل في ثناياه هو طبيعة النخبة التي قادت إلى فتح مصر، والنخبة التي انتصرت على الصليبيين،

والنخبة التي انتصرت على التتار، لنعود إلى التأمل في واقعنا،

فمع دراسة مجريات الأحداث ومسبباتها لا ننسى طبيعة علاقتنا بالله لأنها دائما لم تغب عن النخب التي أشرت إليها آنفا،

إنها رمانة الميزان على مستوى الفرد والمجتمع،

وهو ما أدركه الناصر صلاح الدين ذو الأيادي البيضاء على مصر والشام على وجه الخصوص، والإسلام بعامة،

فقد كان يوقظ الجنود المرابطين في الميدان كي يقيموا الليل،

كان يحرص على تنظيف القلوب التي سينطلق أصحابها للاشتباك مع عدو يفوقهم عدة وعتاد،

وكان يدعو الله باكيا أن يمن عليهم بالنصر لأنه يوقن أن النصر فقط من عند الله.

وبالمقال يتضح المثال،
فالحروب والأزمات والزلازل والغلاء الذي يقصم الظهور يجعلنا في المقام الأول أن نعيد النظر في علاقتنا بالله،

فلا بلاء إلا بذنب، ونحن جميعا غارقون في الذنوب ولا نسارع بالتوبة والإنابة

ولو حاسبنا على فعلنا ما ترك عليها من دابة،

وما نعاني منه إنما هو عدل الله فينا لأننا فرطنا وأفرطنا.

ظل المصريون يتحدثون اللغة اليونانية ثلاثة قرون بعد الفتح الإسلامي حتى تم تعريب الديوان،

فكان لزاما على المصريين تعلم العربية كي يعينوا في الجهاز الإداري

وتم تعريب ألسن المصريين بالكامل بعد خمسة قرون من الفتح الإسلامي.

سلوك المسلمين «البدو الأجلاف» مع المصريين:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

256 البقرة

مبدأ قرآني فيه من السمو والرقي ما لا يوجد في غيره، لم يجبر العرب المصريين على اعتناق دينهم، فلم يأمرهم الله بذلك،

ورغم الأغلاط والافتراءات التي ساقها كينيدي بلا خجل، فإنه إزاء سلوك المسلمين مع المصريين لم يستطع أن ينكره،

فقد أرسل عمرو بن العاص لبنيامين الذي كان متخفي بالصحراء ثلاثة عشرة عاما،

عامله عمرو بحب واحترام ثم أصدر له تعليمات بأن يعود للسيطرة على الكنيسة القبطية ويشرع في مصالحة المصريين

الذين كانوا قد هجروا العقيدة أثناء حكم كيروس اليوناني (الكنائس والأديرة كانت مخربة ومهجورة حتى الفتح الإسلامي)،

وفيهم عدد من الأساقفة، ورتب لإعادة بناء أديرة وادي النطرون

التي كانت قد دمرت على أيدي الخلقدونيين بما في ذلك البيت الكبير للأنبا مكاريوس

الذي لا يزال موجودا حتى اليوم، ولم يسع كينيدي إلا أن يقول:

«لقد نمت الأعمال الطيبة للأرثوذكس وتزايدت وفرح الشعب بها مثل صغار العجول عندما تفك قيودها وتنطلق لكي تتغذى على لبن أمها»

عاش بنيامين بعد الفتح الإسلامي لمصر عشرين عاما معززا مكرما (كما وصف كينيدي)

ثم مات ودفن في دير الأنبا مكاريوس، ومات عمرو بن العاص بعده بثلاث سنوات.

لم يقم المسلمون «البدو الأجلاف» للمصريين محاكم للتفتيش،
ولم يمارسوا فيهم القتل والتنكيل والتعذيب كما فعل بنا الاحتلال الفرنسي ثم الانجليزي،

ولا أقاموا لهم سجن أبو غريب،

وَلَا معتقل جونتانامو، ولم يجبروهم على اعتناق دينهم

ولا تغيير عاداتهم ولا ملابسهم ولا سلوكياتهم الحياتية كاملة ولا حتى لغتهم، ليس بدافع المحبة،

فديننا ليس دين محبة وإنما دين عدل مع من نحب ومن نكره، العدل الذي هو قوام الإسلام وصميم دعوته،

وهذا السلوك القويم لا ينبع إلا من أسوياء النفوس سليمي الطوية.

ورغم أن المؤرخ المسيحي يوحنا النقيوسي لم يكن معجبا بالحكم الإسلامي

أو مؤيدا له (حيث يرى أن الإسلام هو عقيدة الوحش) إلا أنه قال عن عمرو بن العاص:

«لقد استخرج الضرائب التي كانت قد تقررت،

ولكنه لم يأخذ أيا من أملاك الكنائس، ولم يرتكب أي فعل من أفعال السلب والنهب، وحافظ عليها طوال أيامه».

العرب «البدو الأجلاف» الفاتحون المنتصرون لم يقتربوا من أملاك المصريين ولا تعرضوا لخصوصياتهم،

ولا عاثوا في مصر الفساد ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.

عدد العرب الفاتحين بعوائلهم كانوا مائة وخمسين ألف بينما عدد المصريين كان ثلاثة ملايين نسمة ويقول كينيدي تعجبا:

«من الأمور المتناقضة أن حقيقة كون الفاتحين قلة قليلة ربما تكون بالفعل قد جعلت الحكم أكثر سهولة،

إذ أنهم لم يمارسوا ضغطا لا يمكن احتماله على الموارد، كما أنهم لم يحرموا الأهالي من أرضهم أو منازلهم،

وعاشوا على عوائد الضرائب وبنوا مدينة جديدة يعيشون فيها، كذلك فإنهم لم يتدخلوا في الممارسات الدينية أو مباني المسيحيين».

لم يسكن المسلمون الفاتحون المتغلبون بين عموم المصريين من نصارى ووثنيين ليضايقوهم أو يبتزوهم دينيا،

أو يفرضوا عليهم نمط حياتي لم يألفوه، فأي رقي هذا!!

لم يسعهم إلا قول الحقيقة
وإنما تركوهم كما هم، ولم يسعوا لنقض أو تغيير من نوع ما من شأنه أن يكدرهم،

وإنما ابتنوا لهم عاصمة جديدة يعيشون فيها (هذا هو سلوك تابعي عقيدة الوحش)،

ويقال أن الرومان اتخذوا من الأسكندرية عاصمة لدولتهم في مصر لتكون قريبة من المركز على الضفة الأخرى من البحر المتوسط،

والعرب ابتنوا الفسطاط حتى تكون قريبة من مكة والمدينة فلا يفصلها عنها البحر.

في هذا الجزء الخاص بفتح مصر نحيت المصادر الإسلامية جانبا (الجبرتي والمقريزي، ودكتور أحمد شلبي ودكتور سهيل زكار……إلخ)

واكتفيت بالمصادر المسيحية (ساويرس بن المقفع، يوحنا النقيوسي، وهيو كينيدي) مع ما بها من أغلاط فجة متعمدة

ولكنهم أمام بعض الحقائق لم يسعهم إلا قول الحقيقة،

ولكن بعد مائة عام ثار نصارى مصر أكثر من مرة يتزعمهم رجال الدين للانفصال عن الدولة الإسلامية خاصة في زمن المأمون بن هارون الرشيد.

نحن لا نعيش في هذا العالم وحدنا ولكن المحتل الذي شد رحاله عائد إلى بلاده لا ينسى مصر الغناء،

فإن لم يقبض عليها مرة أخرى فلا يهنأ بها من أعقبه وأتصور أن هذا هو المتبع منذ شروق الإسلام في مصر.

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى