د. أحمد الحطاب - كل بلد فيه…

كل بلد فيه مواطنون شرفاء و فيه مواطنون نزهاء و فيه مواطنون مستقيمون و صادقون و مُحبُّون لوطنهم و خادمون للصالح العام و فيه مواطنون فاعلون للخير و مواطنون يؤدون واجباتِهم بأمانة و عن طواعية و… و…

و نفسُ البلد يضمُّ بين أحضانه بشرا انتهازيين، منافقين، متملِّقين، فاسدين، مفسدين، كذابين، سارقين، متكبِّرين، نرجسيين، خداعين، غشاشين، أفاكين، دجالين، مختالين، حَقِيرين، خبيثين، دنئين، سافلين، منحرفين و… و…

هذه هي سنَّة الحياة. فيها الطيب و فيها الخبيث و فيها فاعل الخير و فيها الشرير و فيها المحمود و فيها غير المحمود و فيها ما يَسرُّ و فيها ما يُحزٍن… و ذلك منذ قيام هذه الحياة على وجه الأرض. بل و حتى قبل مجيء الأنسان العاقل Homo Sapiens على وجه هذه الأرض.

قبل مجيء الإنسان العاقل على وجه الأرض، كانت الحيوانات و لا تزال تتصرَّف بالغريزة. و الغريزة تفرض على الحيوان أن يضمنَ بقاءَه في الحياة assurer sa survie. و العمل من أجل ضمان البقاء في الحياة يتطلَّب من الحيوان معركةً مستمرة لا تتوقف إلا بموت هذا الحيوان. و هذا الأخيرُ كلما حلَّ به الجوعُ، كلما استيقضت غريزتُه للبقاء في الحياة. و كل الحيوانات، بدون استثناء، تتصارع من أجل البقاء في الحياة. و لهذا، نرى معاركَ ضارية تدور بين حيوانات من نفس النوع و بين حيوانات من أنواع مختلفة من أجل الدفاع عن منطقة عيشها territoire. و بالطبع، البقاء في الحياة مضمون، بصفة عامة، للحيوانات القوية التي لها من الخاصيات ما يجعلها قادرةً على البقاء في الحياة أكثر من غيرها. لكن هذا لا يعني أن الحيوانات الأقل قوةً مآلها الانقراض. لا أبدا! لأن العديدَ من أنواع الحيوانات تضمن بقاءَها في الحياة بعدَّة طُرُق، أذكر منها على سبيل المثال : بعض الحيوانات الثديية mammifères، عوض أن تَلِدَ مولودا واحدا، فإنها تلدُ اثنين أو ثلاثة أو أكثر كالأرانب و الفئران و الخنازير… و إذا كانت الحيوانات بيَّاضة ovipares، فإنها تضع بيضا كثيرا كالحشرات و الزواحف و الأسماك و شيئا ما الطيور… و من بين الطُّرق الني تلجأ لها بعض الحيوانات لضمان البقاء في الحياة قدرتُها على التَّوالد عدَّةَ مرات في السنة. و حتى النباتات التي تبدو جامدة، فإنها هي الأخرى تتصارع من أجل البقاء في الحياة و لها وسائل كثيرة و متنوعة تضمن بها هذا البقاءَ.

ما يمكن استنتاجُه من هذا التَّوضيح، هو أن الصِّراعَ من أجل البقاء lutte pour la survie، كان موجودا على سطح الأرض قبل مجيء الإنسان العاقل على وجهها. غير أن هناك فرقا كبيرا بين كائنات حية تتصارع من أجل البقاء بالغريزة و كائن حي ميَّزه الله عن سائر المخلوقات الحية بالعقل. و هذا التّمييز، في حد ذاته، ليس مجرد صدفةٍ أو عشوائيا. لا بد أن له هدفا معيَّنا. و الهدف الذي يفرضُه المنطق و نصَّ عليه القرآن الكريم هو إعمارُ الأرض. لكن ليس أي إعمارٍ. إنه الإعمار الذي يوفِّر الخيرَ للجميع. و "الجميع" هنا يعني كل الكائنات الموجودة على سطح الأرض، حيةً كانت أو غير حية. و " الخير" لا يمكن أن يتوفَّرَ للجميع إلا إذا كان الإعمارُ يضمن التَّساكنَ و التَّعايشَ بين ما هو حي و ما هو غير حي. و ما هو حي، بقاءُه في الحياة مرهون، في نفس الوقت، بما هو حي و بما هو غير حي. فمَن الذي سيضمن البقاءَ في الحياة؟ هل الكائنات الحية التي تتصرف بالغريزة أم تلك التي ميَّزها الله عن بافي الكائنات بالعقل؟

هذا السؤال الأخير لا يحتاج إلى جوابٍ لأن أمانةَ ضمان البقاء للجميع ملقاةٌ على عاتق مَن ميَّزه الله عن سائر المخلوقات بالعقل! إذن، فالإنسان العاقل هو مَن يتحمَّل مسئوليةَ ضمان البقاءِ للجميع! و هذه المسئولية رهينة بكيفية استعمال العقل لإعمارِ الأرض! فهل استعمل و يستعمل الإنسانُ العاقلُ عقلَه بكيفيةٍ عقلانيةٍ لإعمار الأرض إعماراً يضمن البفاءَ في الحياة للجميع؟ و هنا بيتُ القصيد!

و إذا لاحظنا أن السياسةَ، في عصرنا هذا، هي التي تتحكَّم في نوعية استعمال العقل، فمن المفروض أن هذه السياسة يجب أن تتلاءمَ مع مبدأ ضمان البقاء في الحياة للجميع. و هذا يعني أن على السياسة، بجميع تجلياتها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، البيئية، الزراعية، الصناعية، العلمية، التِّكنولوجية… يجب أن تصبَّ في هذا الاتِّجاه. و هذا هو ما لم تستطع السياسةُ توفيرَه إلى حد الآن و خصوصا عندما اختلطت هذه السياسةُ بالانتهازية، بالنفاق، بالتَّملُّق، بالفساد، بالإفساد، بالكذب، بالسرقة، بالكبرياء، بالنرجسية، بالخداع، بالغش، بالإفك، بالدجل، بالحقارة، بالخُبث، بالدَّناءة، بالسفالة، بالتَّحريف…

أكاد أقول إن جلَّ تصرفات الإنسان العاقل، في إطار السياسة المعاصرة، تسير في الاتجاه المعاكس لضمان إعمارٍ أرضي عقلاني! المناخُ تغيَّر بفعل الأنانية بجميع أشكالها، اعتداء الاقتصاد و التِّكنولوجيات العُدوانية على التَّنوُّع البيولوجي أدى إلى انقراض أنواعٍ كثيرة من الكائنات الحية، هيمنة القوي على الضعيف لا تزال قائمةً، القيم الإنسانية في تدهورٍ مستمرٍّ، المجاعة تطلُّ على الجميع، الغِنى الفاحش لا يرحم، التوزيع غير العادل للثروات هو السائد، الحروب تقرع الطبولَ من حين لآخر، زواج السلطة و المال في كل مكان، العدالة الاجتماعية مفقودة في أكثر من مكان، عدم المساواة بين الأفراد و بين الدول حدث و لا حرج… فأين هو عقلُ الإنسان العاقل؟ و أين هو إعمارُ الأرض العقلاني؟

و ما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن السياسةَ واعيةٌ كل الوعي بما تقترفُه من خروقات في إعمار الأرض إعماراً عقلانيا. و مع ذلك، فهي مستمرة في عدم عقلانيتها. لماذا؟ لأن السياسة، بمعناها السائد حاليا، لا تتحكَّمُ فيها الشعوب. إنها في يد الطغمة التي ركَّزت وجودَها على زواج السلطة و المال. و هذا هو حالُ الأغلبية العُظمى من دول العالم و حتى تلك التي تدَّعي أنها دولٌ ديمقراطية علما أن هذه الأخيرةَ لا تصمد أمام المصالح الشخصية و الوطنية.

و ما أختم به هذه المقالة هو أن الصِّراعَ بين الخير و الشر سيبقى قائما ما دام الإنسان العاقل سيستعمل عقلَه حسب ما تُمليه عليه أنانيتُه إلى أن يرثَ الله الأرضَ و مَن عليها علما أن هذا الإنسانَ الذي فضَّل و يفضِّل أنانيتَه، يإمكانه أن يسلكَ طريقا فيه منفعةٌ للجميع كما سبق و أن فسَّرتُ هذا "الجميع".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى