تقطن في آسيا الوسطى قبائل عربيّة يبلغ عدد أفرادها سبعة وعشرين ألفًا من نسل أولئك الغزاة الّذين فتحوا هذه البلاد واستوطنوها. وقد زارت هذه القبائل سنة 1928 سيّدتان روسيّتان عاشتا حينًا من الدهر في سوريا وفلسطين حيث تعلّمتا العربيّة، فذكرتا أنّ هذه القبائل تتكلّم العربيّة بلهجة تَقْرُبُ من لهجة أهل العراق. وقد أحببت أنْ أزور تلك البلاد وأتّصل بأهلها، ولكنّ الفرصة لم تسنح لي إلّا في صيف سنة 1935، حين قرّر مؤتمر للمستعربين الّذي عقده المجمّع العلميّ الشرقيّ إرسال بعثة علميّة إلى تلك القبائل تدرس لسانهم وتبحث شؤونهم. فاشتركت في تلك البعثة، ولكنّني سبقت أعضاءها بالسفر كي أعود إلى كلّيتي عند بدء الدراسة في أوّل أيلول، متحمّلة في ذلك لفح الحرّ في تلك الفيافي وأنا الّتي اعتدت القرّ في أصقاع الشمال.
بدأت رحلتي من ليننغراد في 24 أيّار متّجهة إلى طشقند، حيث اجتاز بي القطار أدغالًا كثيفة تجري فيها الأنهار الواسعة العميقة، ثمّ صحاري مقفرة جرداء، تهبّ فيها الرياح القارصة العاتية، فتهرأني بزمهريرها، وتخنق أنفاسي برمالها وأتربتها. ثمّ مررت بواحات أوزبكستان، فللّه أنتِ من واحات أثارت في النفس ذكرى الوطن بمجده وجلاله، وبرجاله وأبطاله! أجل! لقد فاضت من عينيّ دموع حارّة، وانبعثت من قلبي زفرات حارّة، حين ذَكَرْتُ أنّنا كنّا في بلاد غيرنا سادة غالبين، فصرنا في بلادنا عبيدًا مغلوبين. ولكن لا يأس ولا قنوط. فها هي أمّتي تنهض في مصر وسوريا وفلسطين مضحّية بما تملك من دم وروح لتفتدي حرّيّتها المغصوبة وتسترجع مجدها التليد.
ثمّ بلغت مدينة طشقند، فوجدت قسمها الجديد لا يقلّ عن المدن الأوروبّيّة في نظامه ومبانيه، وقسمها الشرقيّ يشبه المدن الشرقيّة في ضيق طرقه وضآلة بيوته. ستُهْدَمُ أحياء هذا القسم حسب مشروع السنوات الخمس الثاني، ثمّ تقام مكانها أبنية حديثة تتوافر فيها أسباب الراحة والرفاهية. وأكثر سكّان المدينة من الأوزبك، ونساؤها لا يتحجّبن، بل يجارين المرأة الأوروبّيّة في العلم والعمل؛ فمنهنّ المهندسات والطبيبات والمصوّرات والممثّلات. والحكومة تفتح لهنّ أبواب المدارس والجامعات، كما أنّها تحارب الأمّيّة بينهنّ بجميع الطرق؛ فقد نزلت بمدرسة في إحدى القرى، فأفقت صباحًا على أصوات نساء جئن يتعلّمن، وهنّ يقضين كلّ يوم ثلاث ساعات في الدراسة بينما تُعْنى مربّية بأطفالهنّ في المدرسة ترعاهم. لكن ثمّة فريقًا من النساء لا زلن يتحجّبن بلباس يسمّى «القمباز» يغطّين به رؤوسهنّ، وتتدلّى من خلفهنّ أكمامه العريضة الطويلة، وهنّ يغطّين وجوههنّ بشبكة كثيفة منسوجة من شعر الخيل.
غادرت طشقند إلى بُخارى فوجدتها خربة إلّا من بيوت من اللّبّن، تفصل بينها طرق ضيّقة معوجّة، تغوص الأقدام في أتربتها الكثيفة. وقد تهدّمت أكثر مبانيها أيّام الحروب الأهليّة، ولم يعملوا على ترميمها، إذ شرعوا في بناء مدينة جديدة على الطراز الحديث.
وفي المدينة آثار شتّى؛ ففيها مئذنة الموت الّتي كانوا يلقون من قمّتها مَنْ حُكِمَ عليه بالموت، وفيها قلعة وقصر كان ينزل فيه أمراء بخارى لمامًا، حين يتركون مقرّهم في مَخا الّتي لا تبعد إلّا قليلًا. وقد اكتشف المنقّبون مسجدًا يعود تاريخه إلى زمن الفتوحات العربيّة. وتشتدّ الحرارة في بُخارى إلى درجة لا تُطاق، فيلجأ الناس إلى شرب الشاي الأخضر، وقد بلغ ما كنت أشربه منه أربعين قدحًا في اليوم، كما أنّ العواصف العاتية تهبّ في تلك الأنحاء فتملأ الجوّ ترابًا يكاد يخنق الأنفاس ويعمي الأبصار. وقد ذهبت إلى مَخا أزور متحفها الّذي كان مقرًّا لأمراء بُخارى فيما مضى، وهو قصر صغير مؤلّف من غرف قلائل، لكنّه يبهر الناظر بما فيه من زخرف بديع؛ فجدرانها يكسوها جصّ مزركش يتدلّى كدانتيلّا دقيقة أنيقة، ونوافذها تتراءى فيها صورة السماء بكواكبها ونجومها، ويحفّ القصر بستان ثريّ بالأزهار والأثمار، تتوسّطه بحيرة ونافورات شتّى، وكانت تجري فيها الطواويس الّتي كانت تُربّى في قرية تُدْعى «طواويس». وفي جانب المتحف ثمّة قصر اتّخذه الاتّحاد السوفييتيّ محلّا عامًّا ينزل فيه الناس للأكل والنوم، أو للراحة والرياضة، كما هو الشأن في أغلب قصور الملوك والأمراء والأغنياء الغابرين. وقد وجدت هناك عدّة عائلات من الفلّاحين الّذين امتازوا بعملهم في حقول القطن، وقد تناولوا غداءهم ثمّ اضطجعوا فوق سرير وثير تحت ظلال الأشجار الوارفة.
يعيش أغلب العرب في تلك البلاد في واحات بُخارى وقشقاداريا، وهم لم يأتوا إليها دفعة واحدة، بل نزحوا إليها فوجًا تلو فوج، وجميعهم ينتسبون إلى قريش، ولكنّ تباين لهجاتهم يدلّ على أنّهم من قبائل شتّى. وقد تغيّرت ملامح الكثيرين منهم لتزاوجهم بالأوزبكيّات والتركمانيّات والتدجيكيّات، وإن كانوا هم لا يُزوِّجون بناتهم لغير العرب. ولهذا بقي فيهم الكثير من الجمال العربيّ البدويّ؛ قوام أهيف وخصر ضامر وسواعد ممتلئة وعيون سوداء كحلاء. وقد كانت عيونهم هذه تنمّ على أصلهم الّذي كانوا ينكرونه أيّام أمراء بُخارى لأنّهم كانوا يرهقون العرب بالضرائب بدعوى أنّهم دخلاء. وهم يتكلّمون اللغة الأوبكيّة والتدجيكيّة، ولهذا نسوا لغتهم العربيّة اللّهمّ إلّا بضعة ألفاظ كخبز ولحم ونعجة، ومنهم مَنْ يتكلّم العربيّة ولكن داخل بيته فحسب.
قلت إنّ هذه القبائل نزحت في أزمنة مختلفة، فعرب قشقاداريا جاؤوا إلى أوزبكستان فارّين من اضطهاد الأمير تيمور الّذي تدور قصصهم وأنباؤهم على بغضه وكراهتيه، وقد قال لي رجل طاعن في السنّ: "إحنا من الطائف عرب شيباني أمير تيمو جنري جابا". وهم عرب رحّل تنقّلوا بقطعانهم من حدود أفغانستان إلى أن بلغوا أرض أوزبكستان، وهم يسمّون أنفسهم عربًا ويسمّون الشعوب الأخرى «حضرًا»، ممّا يدلّل على أنّهم بدو رحّل. ولكنّي لا أجزم برأي من هذا وأترك للبحث والتنقيب ودرس اللغة تحديد وطنهم وقبيلتهم. أمّا عرب واحة بُخارى فيقولون إنّهم جاؤوا من اندخوى بأفغانستان منذ مائتيّ عام، وإنّ أصلهم أربعة أخوة تزوّجوا بأربع من قشقاداريا، وممّا يستحقّ الذكر أنّ هؤلاء العرب لا يعرفون الأشهر الهجريّة ويستعملون الحساب الكلدانيّ أو بالأحرى الساميّ. فأشهُرُهُم هي: حوت، حمل، ثور، جوزاء، سرطان، أسد، سمبلة، ميزان، عقرب، قوس، بشيلا، دلو، رحل. ولست أدري هل أخذوا هذه الأشهر من أفغانستان، أم أنّ ثمّة من القبائل العربيّة مَنْ لا يزال يستعمل هذه الشهور؟ ورجائي ممّن يعرفون شؤون القبائل العربيّة أن يُفتوني في هذا.
وجميع هذه القبائل نسيت الأرقام العربيّة ولا يذكرون منها إلّا الخمسة الأولى قبل أن ينتقلوا بعدها إلى الأعداد الأوزبكيّة أو التدجيكيّة. وهذا أمر لا بدّ منه لأنّ جميع معاملاتهم التجارية والاقتصاديّة مع أهل هاتين اللغتين. وكذلك نسوا أسماء بعض أجزاء الجسم، فلم أجد سوى شيخًا في الثمانين يعرف كلمة «إصبع»، ولم ألق أحدًا يعرف كلمة «جبهة»؛ لكنّ اتّخاذهم الرعي جعلهم يحتفظون بأسماء الغنم والماعز كلّها، وهم يسمّون الوسادة «ليلة» أو «حجر رأس» أو «متكيين»، ويسمّون الرصاصة «نشيبة»، وهي مأخوذة من نشّابة، والبارود «مزريق» أو «كمان» من الفارسيّة. ولهذا يرى العالِمُ بوشمانون أنّهم قد نزحوا من البلاد العربيّة قبل اختراع البارودة.
وهذا نموذج من لسان عرب قشقاداريا وما يقابلها من الألفاظ العربيّة:
سمرا كوم راسي اشدا. وتس ايدي أغسِلا. مذ خلك أتيبا عكب شاي امور. ادمكر مؤكلا خبز شاي كلينا. دسترخان فوك افراش ادعى عكب دار بيت. انقت مويا نجيب كوزا من دجفر.
ومقابلها في العربيّة: (2) سمراقوم رأس اشدا (ألبس منديلًا على رأسي). وجهي ويدي أغسلهما بفرو خلق، امسحهما عقب شاي أغلي. خبز شاي أكلنا. دسترخان فوق القراش أحط وراء الباب. نجيب ماء مسكّر في كوب من البير.
ولا شكّ أنّه ممّا يدعو إلى العجب أنّهم استطاعوا أن يحتفظوا بلغتهم طوال هذه الأجيال، ولم يدخل عليها إلّا تغيّرات قليلة، فبُدِّلَتْ كلمات عربيّة بغيرها من ألفاظ الأمم المجاورة، وخضع نحوهم لقواعد اللغة الأوزبكيّة، فصار الخبر في آخر الجملة، واستبدلوا في بعض الكلمات صوتًا بآخر فيقولون: ميه بدل مئة، وجاع بدل جاء، واحطى بدل أعطى، وحتّ بدل حطّ... إلخ.
وهؤلاء العرب لا يأمنون جانب الغريب، وأظنّ أنّ هذا لما ذاقوه في عهد أمراء بُخارى من الظلم والجور. فكانت تأخذهم الريبة في أمري، ويتشكّكون في أنّي عربيّة مثلهم، وكانوا يسألونني أنْ أسمّي لهم بعض الأشياء بالعربيّة، ثمّ يأتون بالقرآن لأتلوه على مسامعهم. ومع هذا لا يثقون بي ويقولون لي لم لا تضفرين صقرغان أو كسائب (جدائل تضفر على الصدغ)، ولماذا لا تلبسين أزمامًا في نعلك كهذا الّذي كانت تلبسه هاجر عندما حزقت سارة أنفها؟ فيجب على المرأة العربيّة أن تلبس ما لبست هاجر! ثمّ يقولون أليس من العيب والحرام أن تظهري على الرجال عارية الرأس والساقين؟ فاضطررت برغم هذا الحرّ الّذي يغلي الدم ويصهر العظم أن أغطّي رأسي وساقيّ، أمّا الجدائل فلا حيلة لي فيها، لأنّ شعري معقود فوق رأسي كالعادة الأوروبّيّة. وأحاول أن أُفْهِمَهُم أنّ «الإزمام» لم يتّخذه العرب إلّا في جاهليّتهم وهمجيّتهم، وقد نبذوا اليوم هذه العادة السخيفة كما هو شأن النساء الأوزبكيّات، ولكنّهم مع هذا يرتابون في أمري ويظنّون أنّ الحكومة بعثتني لفرض ضريبة جديدة عليهم. وأحاول دون جدوى أن أُفْهِمَهُم أنّي جئت أدْرُسُ شؤونهم وأتعرّفُ أحوالهم، وأنّ الحكومة إذا وجدت عدد المتعلّمين منهم كافيًا ألّفت لهم الكتب باللغة الّتي يعرفونها. ولكنّهم أبوا أن يذكروا لي شيئًا من تقاليدهم أو يدلّوني على شيء من لغتهم إلّا بعد أنْ آتي لهم بفتوى من خطيبهم! فماذا أفعل؟ جئت بكثير من الطعام والحلوى والشاي، ودعوت طائفة من الرجال المسنّين، وأخذت أحدّثهم عن تاريخ العرب وعاداتهم، ثمّ أنشدت لهم بعض الأغاني بالعربيّة، فراحوا هم كذلك يحدّثونني عن تقاليدهم وعاداتهم، كما سمح لي كبير منهم أن أكتب طائفة من ألفاظهم.
وهم لا يذكرون شيئًا من الأغاني والأهازيح العربيّة، ولم يحتفظوا من العادات العربيّة إلّا بالقليل منها كما هو الشأن في الأعراس، فتنتقل العروس إلى بيت زوجها على فرس، وهناك توقد النار ويجتمع الناس حولها يغنّون، فإذا جاءت العروس أخذ أخوها أو خالها بزمام الفرس وطاف حول النار ثلاثًا، ثمّ يتقدّم إليها الزوج ويُنزلها عن الفرس ويدخل بها البيت حيث يحتجبان فيه ثلاثة أيّام لا يراهما فيه سوى أمّها أو أمّه.
ليننغراد.
============
كلثوم عودة - المتحف الفلسطينيّ
العنوان الأصليّ: 27000 عربيّ في جوار بلاد الصين- رحلة في آسيا الوُسْطى بقلم السيّدة كلثوم عودة
المصدر: «مجلّة الهلال».
زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1937.
كلثوم عودة فاسيليفيا (1892-1965)؛ كاتبة ومترجمة وباحثة فلسطينيّة عاشت في الاتّحاد السوفييتيّ، وكانت لها مكانة بارزة بين مؤسّسي «مدرسة الاستعراب الروسيّة». انتقلت من فلسطين إلى روسيا بعد زواجها بطبيب روسيّ عام 1913، وعاشت هناك فترة الحرب العالميّة الأولى والثورة البلشفيّة، وسُجِنَت عام 1948 لبعض الوقت عقب رسالة وجّهتها إلى ستالين تحتجّ فيها على اعترافه بإسرائيل. من مساهماتها ترجمة كتاب «حياة الشيخ عياد الطنطاوي» للمستعرب الروسيّ كراتشوفسكي.
***
بدأت رحلتي من ليننغراد في 24 أيّار متّجهة إلى طشقند، حيث اجتاز بي القطار أدغالًا كثيفة تجري فيها الأنهار الواسعة العميقة، ثمّ صحاري مقفرة جرداء، تهبّ فيها الرياح القارصة العاتية، فتهرأني بزمهريرها، وتخنق أنفاسي برمالها وأتربتها. ثمّ مررت بواحات أوزبكستان، فللّه أنتِ من واحات أثارت في النفس ذكرى الوطن بمجده وجلاله، وبرجاله وأبطاله! أجل! لقد فاضت من عينيّ دموع حارّة، وانبعثت من قلبي زفرات حارّة، حين ذَكَرْتُ أنّنا كنّا في بلاد غيرنا سادة غالبين، فصرنا في بلادنا عبيدًا مغلوبين. ولكن لا يأس ولا قنوط. فها هي أمّتي تنهض في مصر وسوريا وفلسطين مضحّية بما تملك من دم وروح لتفتدي حرّيّتها المغصوبة وتسترجع مجدها التليد.
ثمّ بلغت مدينة طشقند، فوجدت قسمها الجديد لا يقلّ عن المدن الأوروبّيّة في نظامه ومبانيه، وقسمها الشرقيّ يشبه المدن الشرقيّة في ضيق طرقه وضآلة بيوته. ستُهْدَمُ أحياء هذا القسم حسب مشروع السنوات الخمس الثاني، ثمّ تقام مكانها أبنية حديثة تتوافر فيها أسباب الراحة والرفاهية. وأكثر سكّان المدينة من الأوزبك، ونساؤها لا يتحجّبن، بل يجارين المرأة الأوروبّيّة في العلم والعمل؛ فمنهنّ المهندسات والطبيبات والمصوّرات والممثّلات. والحكومة تفتح لهنّ أبواب المدارس والجامعات، كما أنّها تحارب الأمّيّة بينهنّ بجميع الطرق؛ فقد نزلت بمدرسة في إحدى القرى، فأفقت صباحًا على أصوات نساء جئن يتعلّمن، وهنّ يقضين كلّ يوم ثلاث ساعات في الدراسة بينما تُعْنى مربّية بأطفالهنّ في المدرسة ترعاهم. لكن ثمّة فريقًا من النساء لا زلن يتحجّبن بلباس يسمّى «القمباز» يغطّين به رؤوسهنّ، وتتدلّى من خلفهنّ أكمامه العريضة الطويلة، وهنّ يغطّين وجوههنّ بشبكة كثيفة منسوجة من شعر الخيل.
غادرت طشقند إلى بُخارى فوجدتها خربة إلّا من بيوت من اللّبّن، تفصل بينها طرق ضيّقة معوجّة، تغوص الأقدام في أتربتها الكثيفة. وقد تهدّمت أكثر مبانيها أيّام الحروب الأهليّة، ولم يعملوا على ترميمها، إذ شرعوا في بناء مدينة جديدة على الطراز الحديث.
وفي المدينة آثار شتّى؛ ففيها مئذنة الموت الّتي كانوا يلقون من قمّتها مَنْ حُكِمَ عليه بالموت، وفيها قلعة وقصر كان ينزل فيه أمراء بخارى لمامًا، حين يتركون مقرّهم في مَخا الّتي لا تبعد إلّا قليلًا. وقد اكتشف المنقّبون مسجدًا يعود تاريخه إلى زمن الفتوحات العربيّة. وتشتدّ الحرارة في بُخارى إلى درجة لا تُطاق، فيلجأ الناس إلى شرب الشاي الأخضر، وقد بلغ ما كنت أشربه منه أربعين قدحًا في اليوم، كما أنّ العواصف العاتية تهبّ في تلك الأنحاء فتملأ الجوّ ترابًا يكاد يخنق الأنفاس ويعمي الأبصار. وقد ذهبت إلى مَخا أزور متحفها الّذي كان مقرًّا لأمراء بُخارى فيما مضى، وهو قصر صغير مؤلّف من غرف قلائل، لكنّه يبهر الناظر بما فيه من زخرف بديع؛ فجدرانها يكسوها جصّ مزركش يتدلّى كدانتيلّا دقيقة أنيقة، ونوافذها تتراءى فيها صورة السماء بكواكبها ونجومها، ويحفّ القصر بستان ثريّ بالأزهار والأثمار، تتوسّطه بحيرة ونافورات شتّى، وكانت تجري فيها الطواويس الّتي كانت تُربّى في قرية تُدْعى «طواويس». وفي جانب المتحف ثمّة قصر اتّخذه الاتّحاد السوفييتيّ محلّا عامًّا ينزل فيه الناس للأكل والنوم، أو للراحة والرياضة، كما هو الشأن في أغلب قصور الملوك والأمراء والأغنياء الغابرين. وقد وجدت هناك عدّة عائلات من الفلّاحين الّذين امتازوا بعملهم في حقول القطن، وقد تناولوا غداءهم ثمّ اضطجعوا فوق سرير وثير تحت ظلال الأشجار الوارفة.
يعيش أغلب العرب في تلك البلاد في واحات بُخارى وقشقاداريا، وهم لم يأتوا إليها دفعة واحدة، بل نزحوا إليها فوجًا تلو فوج، وجميعهم ينتسبون إلى قريش، ولكنّ تباين لهجاتهم يدلّ على أنّهم من قبائل شتّى. وقد تغيّرت ملامح الكثيرين منهم لتزاوجهم بالأوزبكيّات والتركمانيّات والتدجيكيّات، وإن كانوا هم لا يُزوِّجون بناتهم لغير العرب. ولهذا بقي فيهم الكثير من الجمال العربيّ البدويّ؛ قوام أهيف وخصر ضامر وسواعد ممتلئة وعيون سوداء كحلاء. وقد كانت عيونهم هذه تنمّ على أصلهم الّذي كانوا ينكرونه أيّام أمراء بُخارى لأنّهم كانوا يرهقون العرب بالضرائب بدعوى أنّهم دخلاء. وهم يتكلّمون اللغة الأوبكيّة والتدجيكيّة، ولهذا نسوا لغتهم العربيّة اللّهمّ إلّا بضعة ألفاظ كخبز ولحم ونعجة، ومنهم مَنْ يتكلّم العربيّة ولكن داخل بيته فحسب.
قلت إنّ هذه القبائل نزحت في أزمنة مختلفة، فعرب قشقاداريا جاؤوا إلى أوزبكستان فارّين من اضطهاد الأمير تيمور الّذي تدور قصصهم وأنباؤهم على بغضه وكراهتيه، وقد قال لي رجل طاعن في السنّ: "إحنا من الطائف عرب شيباني أمير تيمو جنري جابا". وهم عرب رحّل تنقّلوا بقطعانهم من حدود أفغانستان إلى أن بلغوا أرض أوزبكستان، وهم يسمّون أنفسهم عربًا ويسمّون الشعوب الأخرى «حضرًا»، ممّا يدلّل على أنّهم بدو رحّل. ولكنّي لا أجزم برأي من هذا وأترك للبحث والتنقيب ودرس اللغة تحديد وطنهم وقبيلتهم. أمّا عرب واحة بُخارى فيقولون إنّهم جاؤوا من اندخوى بأفغانستان منذ مائتيّ عام، وإنّ أصلهم أربعة أخوة تزوّجوا بأربع من قشقاداريا، وممّا يستحقّ الذكر أنّ هؤلاء العرب لا يعرفون الأشهر الهجريّة ويستعملون الحساب الكلدانيّ أو بالأحرى الساميّ. فأشهُرُهُم هي: حوت، حمل، ثور، جوزاء، سرطان، أسد، سمبلة، ميزان، عقرب، قوس، بشيلا، دلو، رحل. ولست أدري هل أخذوا هذه الأشهر من أفغانستان، أم أنّ ثمّة من القبائل العربيّة مَنْ لا يزال يستعمل هذه الشهور؟ ورجائي ممّن يعرفون شؤون القبائل العربيّة أن يُفتوني في هذا.
وجميع هذه القبائل نسيت الأرقام العربيّة ولا يذكرون منها إلّا الخمسة الأولى قبل أن ينتقلوا بعدها إلى الأعداد الأوزبكيّة أو التدجيكيّة. وهذا أمر لا بدّ منه لأنّ جميع معاملاتهم التجارية والاقتصاديّة مع أهل هاتين اللغتين. وكذلك نسوا أسماء بعض أجزاء الجسم، فلم أجد سوى شيخًا في الثمانين يعرف كلمة «إصبع»، ولم ألق أحدًا يعرف كلمة «جبهة»؛ لكنّ اتّخاذهم الرعي جعلهم يحتفظون بأسماء الغنم والماعز كلّها، وهم يسمّون الوسادة «ليلة» أو «حجر رأس» أو «متكيين»، ويسمّون الرصاصة «نشيبة»، وهي مأخوذة من نشّابة، والبارود «مزريق» أو «كمان» من الفارسيّة. ولهذا يرى العالِمُ بوشمانون أنّهم قد نزحوا من البلاد العربيّة قبل اختراع البارودة.
وهذا نموذج من لسان عرب قشقاداريا وما يقابلها من الألفاظ العربيّة:
سمرا كوم راسي اشدا. وتس ايدي أغسِلا. مذ خلك أتيبا عكب شاي امور. ادمكر مؤكلا خبز شاي كلينا. دسترخان فوك افراش ادعى عكب دار بيت. انقت مويا نجيب كوزا من دجفر.
ومقابلها في العربيّة: (2) سمراقوم رأس اشدا (ألبس منديلًا على رأسي). وجهي ويدي أغسلهما بفرو خلق، امسحهما عقب شاي أغلي. خبز شاي أكلنا. دسترخان فوق القراش أحط وراء الباب. نجيب ماء مسكّر في كوب من البير.
ولا شكّ أنّه ممّا يدعو إلى العجب أنّهم استطاعوا أن يحتفظوا بلغتهم طوال هذه الأجيال، ولم يدخل عليها إلّا تغيّرات قليلة، فبُدِّلَتْ كلمات عربيّة بغيرها من ألفاظ الأمم المجاورة، وخضع نحوهم لقواعد اللغة الأوزبكيّة، فصار الخبر في آخر الجملة، واستبدلوا في بعض الكلمات صوتًا بآخر فيقولون: ميه بدل مئة، وجاع بدل جاء، واحطى بدل أعطى، وحتّ بدل حطّ... إلخ.
وهؤلاء العرب لا يأمنون جانب الغريب، وأظنّ أنّ هذا لما ذاقوه في عهد أمراء بُخارى من الظلم والجور. فكانت تأخذهم الريبة في أمري، ويتشكّكون في أنّي عربيّة مثلهم، وكانوا يسألونني أنْ أسمّي لهم بعض الأشياء بالعربيّة، ثمّ يأتون بالقرآن لأتلوه على مسامعهم. ومع هذا لا يثقون بي ويقولون لي لم لا تضفرين صقرغان أو كسائب (جدائل تضفر على الصدغ)، ولماذا لا تلبسين أزمامًا في نعلك كهذا الّذي كانت تلبسه هاجر عندما حزقت سارة أنفها؟ فيجب على المرأة العربيّة أن تلبس ما لبست هاجر! ثمّ يقولون أليس من العيب والحرام أن تظهري على الرجال عارية الرأس والساقين؟ فاضطررت برغم هذا الحرّ الّذي يغلي الدم ويصهر العظم أن أغطّي رأسي وساقيّ، أمّا الجدائل فلا حيلة لي فيها، لأنّ شعري معقود فوق رأسي كالعادة الأوروبّيّة. وأحاول أن أُفْهِمَهُم أنّ «الإزمام» لم يتّخذه العرب إلّا في جاهليّتهم وهمجيّتهم، وقد نبذوا اليوم هذه العادة السخيفة كما هو شأن النساء الأوزبكيّات، ولكنّهم مع هذا يرتابون في أمري ويظنّون أنّ الحكومة بعثتني لفرض ضريبة جديدة عليهم. وأحاول دون جدوى أن أُفْهِمَهُم أنّي جئت أدْرُسُ شؤونهم وأتعرّفُ أحوالهم، وأنّ الحكومة إذا وجدت عدد المتعلّمين منهم كافيًا ألّفت لهم الكتب باللغة الّتي يعرفونها. ولكنّهم أبوا أن يذكروا لي شيئًا من تقاليدهم أو يدلّوني على شيء من لغتهم إلّا بعد أنْ آتي لهم بفتوى من خطيبهم! فماذا أفعل؟ جئت بكثير من الطعام والحلوى والشاي، ودعوت طائفة من الرجال المسنّين، وأخذت أحدّثهم عن تاريخ العرب وعاداتهم، ثمّ أنشدت لهم بعض الأغاني بالعربيّة، فراحوا هم كذلك يحدّثونني عن تقاليدهم وعاداتهم، كما سمح لي كبير منهم أن أكتب طائفة من ألفاظهم.
وهم لا يذكرون شيئًا من الأغاني والأهازيح العربيّة، ولم يحتفظوا من العادات العربيّة إلّا بالقليل منها كما هو الشأن في الأعراس، فتنتقل العروس إلى بيت زوجها على فرس، وهناك توقد النار ويجتمع الناس حولها يغنّون، فإذا جاءت العروس أخذ أخوها أو خالها بزمام الفرس وطاف حول النار ثلاثًا، ثمّ يتقدّم إليها الزوج ويُنزلها عن الفرس ويدخل بها البيت حيث يحتجبان فيه ثلاثة أيّام لا يراهما فيه سوى أمّها أو أمّه.
ليننغراد.
============
كلثوم عودة - المتحف الفلسطينيّ
العنوان الأصليّ: 27000 عربيّ في جوار بلاد الصين- رحلة في آسيا الوُسْطى بقلم السيّدة كلثوم عودة
المصدر: «مجلّة الهلال».
زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1937.
كلثوم عودة فاسيليفيا (1892-1965)؛ كاتبة ومترجمة وباحثة فلسطينيّة عاشت في الاتّحاد السوفييتيّ، وكانت لها مكانة بارزة بين مؤسّسي «مدرسة الاستعراب الروسيّة». انتقلت من فلسطين إلى روسيا بعد زواجها بطبيب روسيّ عام 1913، وعاشت هناك فترة الحرب العالميّة الأولى والثورة البلشفيّة، وسُجِنَت عام 1948 لبعض الوقت عقب رسالة وجّهتها إلى ستالين تحتجّ فيها على اعترافه بإسرائيل. من مساهماتها ترجمة كتاب «حياة الشيخ عياد الطنطاوي» للمستعرب الروسيّ كراتشوفسكي.
***