لو لم يعرف العالم أنغام الموسيقى ونزول المطر وضحكات الصبيان وحنو الأمهات، هل كنت سأفكر في تعريف الرقة ؟
لا أدري، لكنني سأستند إلى العبارة المضادة لها، حتى أتبين خصائصها، وهي القسوة.
فما معنى القسوة ؟
إنها الشعور بأن شخصا أو كائنا ما منفصل تماما عمن هم حوله، عاجز عن التواصل معهم إلا من منطق السيطرة.
فإذا ما علمنا معنى القسوة، أدركنا أن الرقة هي مغامرة الانخراط في التواصل الوجداني والحسي مع شخص آخر.
هي إذا، التخاطب الحسي والعاطفي المتبادل من حس إلى حس ومن إحساس إلى إحساس ومن عاطفة إلى عاطفة، بأن يصبح الجسد في حل من كل لغة، ناطق باسمه وبنفسه، عارف بما يحمله من طاقة شعورية حتى يتواصل مع غيره.
ولأننا غالبا ما نجهل سريان الحس فينا وكيفية نشأته ونموه وتحوله إلى إحساس نابع منا بكل مسالكه وعوالمه والسنن التي تسيره وما ظهر منها وما خفي ، فللرقة شروط لا بد من توفرها حتى تبرز وتتألق وهي أن نسلك سبيل اللين في علاقتنا مع شخص آخر ، نصغي الإصغاء العميق إلى كينونته ، نسعى إلى النفاذ لروحه بواسطة الحس .
أما سبيلنا إلى ذلك المبتغى ، فهو التشبه تارة بالماء وطورا بنسيم الريح في لطفه بالاقتداء بكليهما ، إلى أن نبلغ مرحلة قصوى من الشفافية والصفاء تكسبنا البصيرة الكافية كي نرى عالم الشخص الآخر بجميع خفاياه وانعراجاته ومواقعه كأنه خريطة تفتح لنا أفق السفر داخل ذاته .
كذلك نحيي نبض الحياة فيه، لنذكره بسنواته الأولى كيف خبر العالم من خلال لمسات أمه تلك التي لقنته اللغة الحسية قبل نطقه بأولى الحروف الأبجدية ,حين كان التواصل مباشرا تنظمه الأحاسيس بعمقها وحقيقتها ، كالمياه المتسربة إلى جذور الأشجار لتسقيها وتنعشها .
فالأحاسيس حبال تصل بعضنا ببعض سواء امتطت اللغة أو الحس أو الوجد كوسيلة لتحقيق ذلك المبتغى، فهي التي تحررنا من سجن أنفسنا حين نكون السجان والسجين معا ،ننتظر النور من غيرنا من الناس لإرضاء غرورنا ونرجسيتنا ، حتى إذا ما أدركنا أنهم ليسوا معنيين بما فعلناه بأنفسنا أصابتنا الخيبة والغضب .
الإحساس إذا هو جزء منا من تاريخنا وذاكرتنا العميقة ، نهبه لمن هم حولنا لنخبرهم عن أحوالنا ونقاسمهم ما يعيشونه في لحظة ما من مشاعر ، لذلك قيل لنا أنه من قبيل الوهن والضعف ، حتى نتعلم كيف نخفي دموعنا فلا نبكي بكاء الأطفال إذا ما ظلمنا ولا أن نظهر تبعيتنا لكل من أحببنا لنحمي أنفسنا من كل استعباد.
كذلك نسينا أصول الرقة وسننها ولغتها وقوتها وقدرتها على النفاذ إلى كل نفس وروح وجسد ، كي نتبنى مفهوما جديدا للقوة على أنها فقدان لكل شعور لكل رأفة لكل تواصل ، تشبها بالمحاربين باعتبارهم النموذج الأمثل للإنسان، فاشتققنا من الرقة اسما للاستعباد ألا وهو الرق ، واعتبرناها صفة أنثوية لا تليق بالرجال ولا بمكانتهم المميزة وقدرتهم على التحكم في العالم والسيطرة عليه .
فاكتسبت الرقة معاني الضعف والخضوع والهوان وتحولت إلى صفة تلازم المرأة باعتبارها كائنا عاجزا عن التفكير والفعل ، سجين مشاعره ، ثم تشكل معنى أنوثتها أي جانب من هويتها الشخصية حول هذا المفهوم على أساس أنها ليست قادرة على الاختيار، فاقدة لكل استقلالية أو قرار لتكون في خدمة غيرها ، مستعدة دائما للعطاء .
أما الرجل فسيمنع في سن مبكرة عن البكاء ثم عن التعبير عن مشاعره منشغلا بالفعل والانجاز والتحكم في الكائنات والأشياء المحيطة به ، لا سبيل له للتعبير عن ذاته سوى الفن أو الانهماك في الملذات حتى يعوض ما يشعر به من نقص وحرمان لانغلاق ذاته على نفسها وهوسها بالرغبة في الامتلاك والاختراق.
ومع ذلك فقد أخبرتنا المتصوفة أن الوجد هو سبيل من سبل المعرفة في أعلى مراتبها يسمي بالعرفان فحين تبلغ النفس درجة معينة من الصفاء خاليا من كل رغبة أو انتظار تجاه أي كان ،زاهدة في الدنيا بما فيها حينئذ تكتسب القدرة على تجاوز رغباتها وما يشغلها ليلا نهارا فتتخلص من أوهامها .
كذلك ينشأ لديها الإحساس بالمحبة تجاه جميع الكائنات فتتواصل معها وكلما ازدادت صفاء ومحبة كلما ارتقت في درجات المعرفة الى حد الاتحاد بالله عز وجل .
فالرقة ليست سبيلا من سبل المعرفة فحسب بل هي أيضا هي وجه من وجوه القوة، لذلك استعملها المقاتلون اليابنيون في إحدى فنون القتال الخالية من أي سلاح ومن بينها "الجيدو" و"الكارتي" وغيرها من فنون القتال الأخرى ،التي تستمد قوتها من اللين والقدرة على استعمال طاقة الغريم ضده .
أما عن النور، فمثله مثل الريح والماء فهو لا يخلو أيضا من الرقة وكذلك الشأن في كل ما هو بديع وجميل كل ما ينبع حياة يكتنز شيئا من الرقة بما في ذلك الموسيقى ، بل وحتى الأفكار التي نتداولها باعتبارها تصورات خالية من كل مادة، قادرة على النفاذ في أي فضاء بحكم طبيعتها المرنة اللينة القابلة للتفكك والتنقل والتشكل من جديد ، فإنها تمتلك بعض صفات الرقة .
فعلى سبيل المثال يرشدنا التأمل العميق في الحجر، بما لا يدع مجالا للشك ، أن القوة الخالية من كل لين هي فاقدة للحياة التي تبدو لنا في شكل مادة تخترقها حركية مستمرة فتجعلها قابلة للمرونة حتى تنمو وتتكون فتتشكل وتتغير.
الرقة إذا وجه من أوجه الحياة ، فيها من الأسرار ما لم ندركه بعد ،لارتباط معنى الضعف بالقوة وتلازمهما وانسجامهما أحيانا ، لان الفكر الإنساني لم يخلص بعد إلى ذلك ، فلم يبدع من الأشياء والأدوات والمعدات والآلات إلا ما هو فاقد تماما للهشاشة والليونة والنمو والتغير والتحول أي فاقد للحياة.
كاهنة عباس
لا أدري، لكنني سأستند إلى العبارة المضادة لها، حتى أتبين خصائصها، وهي القسوة.
فما معنى القسوة ؟
إنها الشعور بأن شخصا أو كائنا ما منفصل تماما عمن هم حوله، عاجز عن التواصل معهم إلا من منطق السيطرة.
فإذا ما علمنا معنى القسوة، أدركنا أن الرقة هي مغامرة الانخراط في التواصل الوجداني والحسي مع شخص آخر.
هي إذا، التخاطب الحسي والعاطفي المتبادل من حس إلى حس ومن إحساس إلى إحساس ومن عاطفة إلى عاطفة، بأن يصبح الجسد في حل من كل لغة، ناطق باسمه وبنفسه، عارف بما يحمله من طاقة شعورية حتى يتواصل مع غيره.
ولأننا غالبا ما نجهل سريان الحس فينا وكيفية نشأته ونموه وتحوله إلى إحساس نابع منا بكل مسالكه وعوالمه والسنن التي تسيره وما ظهر منها وما خفي ، فللرقة شروط لا بد من توفرها حتى تبرز وتتألق وهي أن نسلك سبيل اللين في علاقتنا مع شخص آخر ، نصغي الإصغاء العميق إلى كينونته ، نسعى إلى النفاذ لروحه بواسطة الحس .
أما سبيلنا إلى ذلك المبتغى ، فهو التشبه تارة بالماء وطورا بنسيم الريح في لطفه بالاقتداء بكليهما ، إلى أن نبلغ مرحلة قصوى من الشفافية والصفاء تكسبنا البصيرة الكافية كي نرى عالم الشخص الآخر بجميع خفاياه وانعراجاته ومواقعه كأنه خريطة تفتح لنا أفق السفر داخل ذاته .
كذلك نحيي نبض الحياة فيه، لنذكره بسنواته الأولى كيف خبر العالم من خلال لمسات أمه تلك التي لقنته اللغة الحسية قبل نطقه بأولى الحروف الأبجدية ,حين كان التواصل مباشرا تنظمه الأحاسيس بعمقها وحقيقتها ، كالمياه المتسربة إلى جذور الأشجار لتسقيها وتنعشها .
فالأحاسيس حبال تصل بعضنا ببعض سواء امتطت اللغة أو الحس أو الوجد كوسيلة لتحقيق ذلك المبتغى، فهي التي تحررنا من سجن أنفسنا حين نكون السجان والسجين معا ،ننتظر النور من غيرنا من الناس لإرضاء غرورنا ونرجسيتنا ، حتى إذا ما أدركنا أنهم ليسوا معنيين بما فعلناه بأنفسنا أصابتنا الخيبة والغضب .
الإحساس إذا هو جزء منا من تاريخنا وذاكرتنا العميقة ، نهبه لمن هم حولنا لنخبرهم عن أحوالنا ونقاسمهم ما يعيشونه في لحظة ما من مشاعر ، لذلك قيل لنا أنه من قبيل الوهن والضعف ، حتى نتعلم كيف نخفي دموعنا فلا نبكي بكاء الأطفال إذا ما ظلمنا ولا أن نظهر تبعيتنا لكل من أحببنا لنحمي أنفسنا من كل استعباد.
كذلك نسينا أصول الرقة وسننها ولغتها وقوتها وقدرتها على النفاذ إلى كل نفس وروح وجسد ، كي نتبنى مفهوما جديدا للقوة على أنها فقدان لكل شعور لكل رأفة لكل تواصل ، تشبها بالمحاربين باعتبارهم النموذج الأمثل للإنسان، فاشتققنا من الرقة اسما للاستعباد ألا وهو الرق ، واعتبرناها صفة أنثوية لا تليق بالرجال ولا بمكانتهم المميزة وقدرتهم على التحكم في العالم والسيطرة عليه .
فاكتسبت الرقة معاني الضعف والخضوع والهوان وتحولت إلى صفة تلازم المرأة باعتبارها كائنا عاجزا عن التفكير والفعل ، سجين مشاعره ، ثم تشكل معنى أنوثتها أي جانب من هويتها الشخصية حول هذا المفهوم على أساس أنها ليست قادرة على الاختيار، فاقدة لكل استقلالية أو قرار لتكون في خدمة غيرها ، مستعدة دائما للعطاء .
أما الرجل فسيمنع في سن مبكرة عن البكاء ثم عن التعبير عن مشاعره منشغلا بالفعل والانجاز والتحكم في الكائنات والأشياء المحيطة به ، لا سبيل له للتعبير عن ذاته سوى الفن أو الانهماك في الملذات حتى يعوض ما يشعر به من نقص وحرمان لانغلاق ذاته على نفسها وهوسها بالرغبة في الامتلاك والاختراق.
ومع ذلك فقد أخبرتنا المتصوفة أن الوجد هو سبيل من سبل المعرفة في أعلى مراتبها يسمي بالعرفان فحين تبلغ النفس درجة معينة من الصفاء خاليا من كل رغبة أو انتظار تجاه أي كان ،زاهدة في الدنيا بما فيها حينئذ تكتسب القدرة على تجاوز رغباتها وما يشغلها ليلا نهارا فتتخلص من أوهامها .
كذلك ينشأ لديها الإحساس بالمحبة تجاه جميع الكائنات فتتواصل معها وكلما ازدادت صفاء ومحبة كلما ارتقت في درجات المعرفة الى حد الاتحاد بالله عز وجل .
فالرقة ليست سبيلا من سبل المعرفة فحسب بل هي أيضا هي وجه من وجوه القوة، لذلك استعملها المقاتلون اليابنيون في إحدى فنون القتال الخالية من أي سلاح ومن بينها "الجيدو" و"الكارتي" وغيرها من فنون القتال الأخرى ،التي تستمد قوتها من اللين والقدرة على استعمال طاقة الغريم ضده .
أما عن النور، فمثله مثل الريح والماء فهو لا يخلو أيضا من الرقة وكذلك الشأن في كل ما هو بديع وجميل كل ما ينبع حياة يكتنز شيئا من الرقة بما في ذلك الموسيقى ، بل وحتى الأفكار التي نتداولها باعتبارها تصورات خالية من كل مادة، قادرة على النفاذ في أي فضاء بحكم طبيعتها المرنة اللينة القابلة للتفكك والتنقل والتشكل من جديد ، فإنها تمتلك بعض صفات الرقة .
فعلى سبيل المثال يرشدنا التأمل العميق في الحجر، بما لا يدع مجالا للشك ، أن القوة الخالية من كل لين هي فاقدة للحياة التي تبدو لنا في شكل مادة تخترقها حركية مستمرة فتجعلها قابلة للمرونة حتى تنمو وتتكون فتتشكل وتتغير.
الرقة إذا وجه من أوجه الحياة ، فيها من الأسرار ما لم ندركه بعد ،لارتباط معنى الضعف بالقوة وتلازمهما وانسجامهما أحيانا ، لان الفكر الإنساني لم يخلص بعد إلى ذلك ، فلم يبدع من الأشياء والأدوات والمعدات والآلات إلا ما هو فاقد تماما للهشاشة والليونة والنمو والتغير والتحول أي فاقد للحياة.
كاهنة عباس