هذا المقال، أحد المقالات المنشورة فى مجموعة « دراسات فى المذاهب الأدبية والاجتماعية »، وهو مقال يصعب على غير الأستاذ العقاد أن يضطلع به، فهو يتناول شعراء المهجر الجنوبى فى كل مكان، فى أمريكا الجنوبية، وفى الأندلس، كما يتناول المهاجر العربى إلى الجنوب، مما اقتضاه أن يكون ملمًّا بأشعار هؤلاء وأولاء، عارفًا بتضاعفيها ومواطن الجمال أو الضعف فيها .
المهاجر بطبيعته ــ فيما يقول ــ إنسان طليق مقدام، لا يطيق البقاء حيث يضيق به المكان، ولا يخاف الإقدام على المجهول .
والمهاجرون إلى الجنوب فى أمريكا الجنوبية ــ فيما يقول ــ أحوج إلى هذه الخصلة من إخوانهم الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية، لأن المهاجر إلى الشمال بالعالم الجديد ــ ينزل بأرض ممهدة، ويقدم على خطط مرسومة معينة، ويكاد يعرف كل ما سوف يقابله فى هجرته إلى الشمال قبل مفارقته لموطنه، وعلى خلاف ذلك مهاجر الجنوب .
ومهاجر الجنوب أحوج من سائر المهاجرين إلى العلاقة الروحية بكل ما فارقة فى دار مولده أو نشأته .
ويكاد يتعلق ذلك فى اللغة وتراثها وكل ما تحفظه اللغة بمبناها ومعناها، ذلك أن المهاجر لم يفارق من أجواء بلاده الروحية ما يتعلق بالعقيدة الدينية، لأن أكثر المهاجرين من المؤمنين بالدين المسيحى يتبعون الكنائس التى يتبعها أبناء القارة الجنوبية . كما لم يفارق أجواء الطبيعة ومناظرها.
ولكن المهاجر العربى إلى الجنوب، يفارق جوًّا واحدًا من أجواء بلاده الروحية ينقطع عنه حين يتصل به المقام فى وطنه الجديد .
ومن يفارق اللغة، ليس أعز عنده منها، ولا أحق لديه بالحنين والتذكار .
ولا جرم تصبح هذه العلاقة عنده « عصبية » متوهجة تطوى فى ثناياها كل ما عداها من عصبيات وعلاقات .
وأوشكت هذه العصبية أن تكون أسلوبًا مشتركًا بين جميع المهاجرين، لا يعرفون من أساليب اللغة أسلوبًا غيره، فكلهم مظهر « لغوى » واحد من مظاهر تلك العصبية الشاملة، وكلهم متكلم عربى قبل كل شىء .
ولقد أطلق أدباء المهجر الجنوبى على أنفسهم ـ فيما يقول : « العصبية الأندلسية »، لأن الأندلس القديمة هى النسخة الوحيدة التى سبقت نسخة العصبية الأندلسية الجديدة فى تاريخ اللغة العربية، على هذا الطراز .
وقد عرفنا فى الأندلس وحدها ـ قبل الآن ـ أفذاذًا من كبار الشعراء كابن هانئ وابن زيدون وابن خفاجة وابن حمديس، وعرفنا غيرهم عشرات من هذه الطبقة، ولكننا على فحولتهم لم نعرف بينهم ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ فارقًا فى أسلوب التعبير ولا فى جرس اللغة يتيسر للقارئ أن يلمحه من النظرة الأولى .
وليس بينهم الفارق الذى تلمحه فى عصر واحد بين أساليب أبى تمام والبحترى وابن الرومى، أو بين أساليب بشار وأبى العتاهية وأبى نواس،أو بين البارودى وصبرى وشوقى وحافظ ومطران فى العصر الحديث، بينما ليس بين ألسنة شعراء المهجر الجنوبى ألسنة أفراد يختلفون .
وتميز ابن زيدون وابن حمديس وابن خفاجة ـ فيما يرى ـ بالشىء الكثير من خصائص الفكر والذوق والإلهام، وتميز شعراء المهجر الجنوبيون بجملة من مزايا الفن والذوق والبصيرة تحيط بآفاق من الشعر الجيد الأصيل، لا تقل عما سبح فيه أسلافهم الأولون.
ففى ديوان الشاعر القروى ملامح من صور الطبيعة تغلب على صور البيت و المجتمع.
وفى دواوين إلياس فرحات يظهر آدم من وراء الفردوس، ولكنه آدم الذى عرف إبليس، وتعلم السخرية الضاحكة، وجردها من أشواك الكيد والخبث، ومن عواقب الندم والحسرة .
وفى شفيق معلوف « عبقر » تمتد الهجرة من عالم الإنس إلى وادى الجن، ومن جوف الواقع إلى أطراف الخيال، وتقترب العُدْوة ( شاطئ الوادى ) بين هذه البحور المتباعدة حتى لينسى نزيل « عبقر » أين هو من رحلات البر والبحر … ويُخيَّل إليه فى لحظة بعد لحظة أنه لم يبرح زحلة بلبنان أو سان باولو بالبرازيل … ويوشك المعلوفون أن يكونوا جميعا إخوة فى لُحمة الأدب كأخوتهم فى لحمة النسب، بين يدى سليمان هو يحبس الجن فى القماقم أن ينطلق على بساط الريح.
وتقرأ « جورج صيدح » فلا تفوتك فيه أشواق الطبيعة التى تعهدها فى دواوين زملائه، ولكنك لا تتمثله فى صورة من الصور إلا رأيت فى ظهر أو خلفية الصورة أبراج المدينة ومداخن المصانع ومعالم الأسوار.
ومعظم الشعراء من المهجريين آباء وأزواج، ولكنك لا تتمثل ـ إلياس وزكى ـ إلا تمثلت زوجًا يمشى مع زوجة، ووالدًا يحنو على طفل فى يمينه أو بين ذراعيه.
وتتراءى ألوان من هذه الملامح فى كثير من شعراء العصبة الأندلسية لا يحصيهم الأستاذ العقاد هنا، ولا تتيسر مراجعتهم فى هذا المقام، ولكنهم جميعا يتلاقون فى تمثال واحد شامخ الهامة مكين القدمين، نسميه تمثال « العصبية اللغوية » أو القومية التى تلخصت فى كلمة واحدة هى كلمة « العربية »، ونهضت برسالة فى تاريخ الأدب العربى لا تشبهها رسالة أخرى فى جميع أدوار هذا التاريخ .
ويحسب الأستاذ العقاد أن مدرسة العصبية الأندلسية تنفرد بهذه الخاصة التى تُعد من النقائض للوهلة الأولى، ثم ينحسر عنها كل وصف من أوصاف التناقض إذا ما رجعتا إلى القوة الخارقة التى اجتمعت فى حنين المهجريين الجنوبيين إلى اللغة، فصنعت ما تصنعه القوة الخارقة من المعجزات.
تلك الخاصة التى انفردت بها العصبة الأندلسية هى فيما يرى الأستاذ العقاد ـ فرط المحافظة وفرط التجديد فى وقت واحد .
فالمهجريون الجنوبيون لم يقبلوا قط دعوة من دعوات الهدم باسم التجديد فى قواعد اللغة أو قواعد العروض أو قواعد الآداب السلفية فى جملتها.
وأخيرًا يختم الأستاذ العقاد بأنه بهذه الخاصة « المنفردة » فى تاريخ الآداب العربية،
يتميز الأدب المهجرى فى الجنوب، وينفرد المحافظون من شعرائهم بهذه « الشخصية » الشاملة التى انطوت فيها جميع « الشخصيات » بين أطواء العبقرية العربية، والتى برزت من ورائها ألوان من ملامح الروح والسليقة يعتز بها طلاب الثروة الأدبية فى كل عهد من العهود.
رجائى عطية
المهاجر بطبيعته ــ فيما يقول ــ إنسان طليق مقدام، لا يطيق البقاء حيث يضيق به المكان، ولا يخاف الإقدام على المجهول .
والمهاجرون إلى الجنوب فى أمريكا الجنوبية ــ فيما يقول ــ أحوج إلى هذه الخصلة من إخوانهم الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية، لأن المهاجر إلى الشمال بالعالم الجديد ــ ينزل بأرض ممهدة، ويقدم على خطط مرسومة معينة، ويكاد يعرف كل ما سوف يقابله فى هجرته إلى الشمال قبل مفارقته لموطنه، وعلى خلاف ذلك مهاجر الجنوب .
ومهاجر الجنوب أحوج من سائر المهاجرين إلى العلاقة الروحية بكل ما فارقة فى دار مولده أو نشأته .
ويكاد يتعلق ذلك فى اللغة وتراثها وكل ما تحفظه اللغة بمبناها ومعناها، ذلك أن المهاجر لم يفارق من أجواء بلاده الروحية ما يتعلق بالعقيدة الدينية، لأن أكثر المهاجرين من المؤمنين بالدين المسيحى يتبعون الكنائس التى يتبعها أبناء القارة الجنوبية . كما لم يفارق أجواء الطبيعة ومناظرها.
ولكن المهاجر العربى إلى الجنوب، يفارق جوًّا واحدًا من أجواء بلاده الروحية ينقطع عنه حين يتصل به المقام فى وطنه الجديد .
ومن يفارق اللغة، ليس أعز عنده منها، ولا أحق لديه بالحنين والتذكار .
ولا جرم تصبح هذه العلاقة عنده « عصبية » متوهجة تطوى فى ثناياها كل ما عداها من عصبيات وعلاقات .
وأوشكت هذه العصبية أن تكون أسلوبًا مشتركًا بين جميع المهاجرين، لا يعرفون من أساليب اللغة أسلوبًا غيره، فكلهم مظهر « لغوى » واحد من مظاهر تلك العصبية الشاملة، وكلهم متكلم عربى قبل كل شىء .
ولقد أطلق أدباء المهجر الجنوبى على أنفسهم ـ فيما يقول : « العصبية الأندلسية »، لأن الأندلس القديمة هى النسخة الوحيدة التى سبقت نسخة العصبية الأندلسية الجديدة فى تاريخ اللغة العربية، على هذا الطراز .
وقد عرفنا فى الأندلس وحدها ـ قبل الآن ـ أفذاذًا من كبار الشعراء كابن هانئ وابن زيدون وابن خفاجة وابن حمديس، وعرفنا غيرهم عشرات من هذه الطبقة، ولكننا على فحولتهم لم نعرف بينهم ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ فارقًا فى أسلوب التعبير ولا فى جرس اللغة يتيسر للقارئ أن يلمحه من النظرة الأولى .
وليس بينهم الفارق الذى تلمحه فى عصر واحد بين أساليب أبى تمام والبحترى وابن الرومى، أو بين أساليب بشار وأبى العتاهية وأبى نواس،أو بين البارودى وصبرى وشوقى وحافظ ومطران فى العصر الحديث، بينما ليس بين ألسنة شعراء المهجر الجنوبى ألسنة أفراد يختلفون .
وتميز ابن زيدون وابن حمديس وابن خفاجة ـ فيما يرى ـ بالشىء الكثير من خصائص الفكر والذوق والإلهام، وتميز شعراء المهجر الجنوبيون بجملة من مزايا الفن والذوق والبصيرة تحيط بآفاق من الشعر الجيد الأصيل، لا تقل عما سبح فيه أسلافهم الأولون.
ففى ديوان الشاعر القروى ملامح من صور الطبيعة تغلب على صور البيت و المجتمع.
وفى دواوين إلياس فرحات يظهر آدم من وراء الفردوس، ولكنه آدم الذى عرف إبليس، وتعلم السخرية الضاحكة، وجردها من أشواك الكيد والخبث، ومن عواقب الندم والحسرة .
وفى شفيق معلوف « عبقر » تمتد الهجرة من عالم الإنس إلى وادى الجن، ومن جوف الواقع إلى أطراف الخيال، وتقترب العُدْوة ( شاطئ الوادى ) بين هذه البحور المتباعدة حتى لينسى نزيل « عبقر » أين هو من رحلات البر والبحر … ويُخيَّل إليه فى لحظة بعد لحظة أنه لم يبرح زحلة بلبنان أو سان باولو بالبرازيل … ويوشك المعلوفون أن يكونوا جميعا إخوة فى لُحمة الأدب كأخوتهم فى لحمة النسب، بين يدى سليمان هو يحبس الجن فى القماقم أن ينطلق على بساط الريح.
وتقرأ « جورج صيدح » فلا تفوتك فيه أشواق الطبيعة التى تعهدها فى دواوين زملائه، ولكنك لا تتمثله فى صورة من الصور إلا رأيت فى ظهر أو خلفية الصورة أبراج المدينة ومداخن المصانع ومعالم الأسوار.
ومعظم الشعراء من المهجريين آباء وأزواج، ولكنك لا تتمثل ـ إلياس وزكى ـ إلا تمثلت زوجًا يمشى مع زوجة، ووالدًا يحنو على طفل فى يمينه أو بين ذراعيه.
وتتراءى ألوان من هذه الملامح فى كثير من شعراء العصبة الأندلسية لا يحصيهم الأستاذ العقاد هنا، ولا تتيسر مراجعتهم فى هذا المقام، ولكنهم جميعا يتلاقون فى تمثال واحد شامخ الهامة مكين القدمين، نسميه تمثال « العصبية اللغوية » أو القومية التى تلخصت فى كلمة واحدة هى كلمة « العربية »، ونهضت برسالة فى تاريخ الأدب العربى لا تشبهها رسالة أخرى فى جميع أدوار هذا التاريخ .
ويحسب الأستاذ العقاد أن مدرسة العصبية الأندلسية تنفرد بهذه الخاصة التى تُعد من النقائض للوهلة الأولى، ثم ينحسر عنها كل وصف من أوصاف التناقض إذا ما رجعتا إلى القوة الخارقة التى اجتمعت فى حنين المهجريين الجنوبيين إلى اللغة، فصنعت ما تصنعه القوة الخارقة من المعجزات.
تلك الخاصة التى انفردت بها العصبة الأندلسية هى فيما يرى الأستاذ العقاد ـ فرط المحافظة وفرط التجديد فى وقت واحد .
فالمهجريون الجنوبيون لم يقبلوا قط دعوة من دعوات الهدم باسم التجديد فى قواعد اللغة أو قواعد العروض أو قواعد الآداب السلفية فى جملتها.
وأخيرًا يختم الأستاذ العقاد بأنه بهذه الخاصة « المنفردة » فى تاريخ الآداب العربية،
يتميز الأدب المهجرى فى الجنوب، وينفرد المحافظون من شعرائهم بهذه « الشخصية » الشاملة التى انطوت فيها جميع « الشخصيات » بين أطواء العبقرية العربية، والتى برزت من ورائها ألوان من ملامح الروح والسليقة يعتز بها طلاب الثروة الأدبية فى كل عهد من العهود.
رجائى عطية