عبدالرحيم التدلاوي - الحكاية والسرد في مجموعة "البيت الرمادي" لعبداللطيف النيلة

يعد عبداللطيف النيلة، من المبدعين الشباب، الذين نحتوا اسمهم بقوة في المشهد الثقافي، يظهر ذلك من خلال مجموعتيه المتوهجتين: وهما: "قبض الريح" و "البيت الرمادي" وسنهتم بالمجموعة الأخيرة، كمرحلة أولى، معتمدين القراءة التفاعلية، وهي بعيدة عن القراءة النقدية من جهة أولى، وعن القراءة العاشقة من جهة ثانية، إنها قراءة تعتمد على طرح الارتسامات التي ولدها الاتصال المباشر بالنصوص، ولهذا الغرض، سيكون اهتمامنا هو إبراز بعض التقنيات الموظفة في المجموعة
كلما كانت الكتابة صعبة جاءت نتائجها طيبة.
تعد القصة القصيرة فنا يحتاج إلى موهبة خاصة وقدرة فائقة فإذا كان يستعصي على غير الموهوبين فليس الأمر كذلك بالنسبة للمتمكنين من أدواتهم الفنية الذين يدركون أهميته ويحسنون توظيف آلياته وتقنياته توظيفا يحقق الإبداع والإمتاع معا.
وبفضل هؤلاء، يقول الناقد أحمد المصري: نجحت القصة القصيرة في فرض نفسها على المشهد الثقافي بالرغم من قصر عمرها ومحدودية تراكمها ولم تعد لها حدود تكبل حريتها فهي إبداع جميل يتقوى يوما بعد يوم وينفتح على مختلف التجارب الأدبية إنها تتعايش مع جميع الأجناس الأدبية مكسرة النظرية الإجناسية وتعمل جاهدة على تحصين نفسها من كل أشكال الإقصاء والتسييج، مما جعلها تجتذب عددا كبيرا من الكتاب الذين وجدوا فيها ضالتهم المنشودة للتعبير عن أفكارهم وإبراز إبداعاتهم.
* http://www.book-juice.com/%D8%AA%D9%82%D9%86%D9%8A%D8%A7.../
ومن بين الكتاب الموهوبين الذين دخلوا غمارها، المبدع عبداللطيف النيلة، في مجموعته"البيت الرمادي"، حيث حضر الاهتمام بطرائق الكتابة ، وتقنياتها. كما أن نصوصها تميزت بتنوع مضامينها، وأشكال صوغها، فالقاص اعتمد مداخل مغايرة في كل نص من نصوصه القصصية، مما خول المجموعة الاغتناء بالتنوع والاختلاف وهو ما يجعلنا نقف عند بعض هذه التقنيات الموظفة. ونشير في البداية أنه ليس بدعا أن يكون النص الأول"كابوس" معبرا عن الرغبة في التميز والانفصال عن الجماعة القاتلة للتفرد، فإذا كان القاص يبحث عن أشكال تعبيرية جديدة، للقبض على الواقع الزئبقي في تشظيه وتشرذمه، فهذا معناه رغبته في عدم الركون للسائد والمألوف، بيد أن تحقق ذلك لا يمكن أن يكون في بلد يعيش ديمقراطية صورية، عمقها الإخضاع والإلحاق، وتكريس التبعية والقطيعة.، كما هو واضح في النص ما قبل الأخير "ديمقراطية".
تقنية المشهد أو اللقطة السينمائية
في نص"ديمقراطية"
ومن مميزات القصة الحديثة الاعتماد على الصورة اعتماداً كبيراً، فنراه يقدم لنا عمله القصصي من خلال لقطة أو لقطات، مستعيناً بما يشبه المحاكاة للوسائل التقنية الحديثة التي تُستخدم في عرض الأحداث للمشاهدين.. ثم تجسيدها وتضخيمها، ونعني بذلك الصورة السينمائية والتلفزيونية.. ومن مميزات هذه التقنية التجسيد، أي تجسيد الموصوف أمامنا وتمتاز أيضاً القصة الحديثة باللقطة الوامضة.. تستعير من أساليب التقنية السينمائية والتلفزيونية ما يسمى «بالمزج» أي امتزاج صورة إحدى الكاميرات بصورة كاميرا أخرى... وأيضاً هنالك اللقطة الوامضة Cutting وهو انتقال الصورة من إحدى آلات التصوير إلى آلة أخرى انتقالاً مفاجئاً بغية الإحاطة بجوانب الحدث.
http://www.sudaress.com/alintibaha/3506
فنص"ديمقراطية" ص60 يشير إلى أن أهم مشكلة تواجه المنطقة العربية بأسرها، في الوقت الحاضر، كما يقول الروائي الكبير: عبدالرحمن منيف، هي مشكلة الديمقراطية وحقوق الإنسان. مادامت هذه الحقوق غائبة، غير معترف بها، سيبقى الإنسان العربي مكبلا، عاجزا، مهدور الكرامة. وسيبقى الوطن، بالتالي، مجرد مساحات جغرافية خاوية، والبشر فيه مجرد أرقام تماثل الأشباح.* لوعة الغياب، ص 265
هكذا، نتابع محاكمة صورية لرجل أعلن تمرده على السلطة، فقامت بإعدامه لإخراس أي صوت احتجاج محتمل، مثلما وقع للسارد في نص"كابوس" حيث تم دفنه لمجرد أنه أراد أن يعرف، فالمعرفة في بلدان القهر بمثابة زندقة تستوجب القتل.
ففي مشهد احتفالي، يتم اقتياد السجين الهرم، وقد حافظ على قامته فارعة، في وقت ظهيرة لاهبة، إلى منصة الإعدام، محاطا بجنديين، وقد خلص من الأغلال، كتعبير عن حسن نية من طرف العسكر، أو للظهور بمظهر العادل أمام الأنظار المتلهفة والمتابعة للمشهد، والمتشوقة للمعرفة. كان يسير بثبات، ويرسم شارة النص بإصبعيه كدليل على شجاعته، ورباطة جأشه.
ومن خلال مكبر الصوت، تم الإعلان عن التهمة الموجهة للرجل، إلا وهي الإرهاب، وأن محاكمته، وعقابه قد تما بناء على هذا الاتهام. ثم تتابع أحداث المشهد تدريجيا لتبلغ ذروتها حين ينتفض الجمع وقد ظل محافظا على هدوئه، مطالبا بالصوت. لقد لاحظ المتتبعون، ان الصوت قد تم إخراسه عنوة حتى لا يعرف المشاهدون حقيقة ما يجري، وتتم تعرية المشهد، بإظهار عورته، فالفضح ممنوع، والديمقراطية المشهدية ليست سوى احتفال وبهرجة، تخفي حقيقة الوضع. وينتهي المشهد بالفضح، رغم وضد الموسيقى العسكرية، إذ أن تمطيط الكلمة، وحذف نهايتها يعبر عن انتقاد حاد للمشهد السوريالي.: وا الميكرووووو !
لم يكن التمطيط، بالنداء وحرف الواو المنتهى به إلا تعبيرا عن النقد والفضح، فما سعى العسكر إلى إخفائه، سارع السارد إلى فضحه، وبذلك، أعلن بشكل صريح عن انتصاره للحق، وانحيازه للعدل، ونقده للمارسات الديكتاتورية التعسفية.
تعاضد المبنى والمعنى، وتقنية الشكل الدائري:
يتعاضد المبنى والمعنى في نص:"كلها !" ص9 بحيث لا يمكن للقارئ أن يفصل بينهما، فالشكل الدائري الذي تم اعتماده ما كان ليحضر لولا المعنى الذي ظل في نقطة ثابتة لا يحيد عنها، بحيث إن نقطة الانطلاق هي نقطة العودة، في حركة تشبه العود الأبدي، فالتعليم ظل سجين إصلاحات متتابعة من دون نتيجة، والدائرة الفنية جاءت لتعبر عن الفشل، مما يستوجب البحث عن مخرج من هذه الدائرة الجهنمية.
لعبة تحويل الكاتب شخصية تخييلية في النص:
كما في نص"مجرد حبة قمح" ص64 تحضر تقنية تحويل الكاتب شخصية تخييلة، لذا ينتقل الكاتب من الخارج إلى الداخل، فيفقد كينونته من لحم ودم ليصير شخصية ورقية من حبر، وبعد أن يكون متحكما في السرد بواسطة السارد الذات الثانية له، يتحول إلى شخصية تحت نفوذها، إنه شخصية ملتبسة، تعيش وضعين مختلفين، من الداخل والخارج، فهي داخلة وخارجة في الآن نفسه، والكاتب وقد صار شخصية تخييلية، يحمل معه بعضا من هويته الخارجية، ولعل أبرزها مسألة الكتابة.
الكاتب يلعب دورين، من الخارج إذ يراقب شخصياته، ومنها ذاته الثانية، ومن الداخل حيث لا يكون سوى فرد ضمن كورال الشخصيات المكونة للمحفل السردي، بيد أن ما يمكن ملاحظته، هو أن الكاتب الخارجي يدرك نيات وخلجات شخصيته التي تحمل بذرة منه، لكن الشخصية التخييلية تبقى عاجزة عن مثل هذا الفهم، لكنها تحمل بعضا من سر كاتبها، تعمل على إبرازه، إن لم نقل فضحه، رغم محاولات الكاتب التستر عنها، بمعنى آخر، وكأننا بالشخصية التخييلية تقوم بدور الستريبتيز، تعري كاتبها بتجلية قليل من دواخله، لكنها تعرية كشف لا تشهير.
تقنية الدوائر المتداخلة
يعتمد نص "وردية" ص 54 على ثلاث نصيصات، النصيصان الأولان، إما أن ساردهما جاء راويا لسرد تم من طرف ساردة صارت ثاوية في الأسطر، أو أنه جاء بلسان تلك الشخصية الثاوية، ونقصد بها الجدة وقد صارت شخصية من شخصيات النصيص الثالث، اعتمادا على أن النصيصين معا كانا يحملان صراعا بين الخير والشر، وأن الانتصار كان للخير على حساب الشر، إنها ثنائية مثنوية واضحة، لا يمكن أن يسردها ويؤمن بها سوى السراد العاديون، الذين همهم الأول هو تبسيط الرسالة، وتقديم المضمون الواضح، وعليه، فأغلب الظن، أن الساردة هي الجدة تحكي النصين لأحفادها بغاية تحقيق تواصل ستشتكي من انقطاعه في النص الثالث، وهو نص جاء به سارد أكثر عمقا ومعرفة.
ما يلفت الانتباه كون الساردة، أي الجدة، تتحول من فاعل إلى شخصية داخل قصة، إنها تنتقل من المحفل السردي إلى الكون التخييلي، وبذا تصير شخصية تعاني في علاقتها بباقي الشخصيات، وأهم عنصر في هذه المعاناة، زوجة الابن، وهي تشبه في هذا المقام، شخصية الممرضة، إن الألم ناتج عن غياب التواصل، لقد قطع حبله السري.
بناء عليه، نجد القصة تعتمد على مقابلة ضدية بين التواصل واللاتواصل، فالتواصل إجراء إنساني يحمل في طياته الدفء، ويؤكد معاني المحبة والتقارب، وفي حين، يعني اللاتواصل الانقطاع البارد ويؤكد غياب الحرارة الإنسانية، ويرسخ معاني العنف والقسوة، إنه نتاج العصر الحاضر.
تقنية تداخل السرد والحوار:
بالنسبة لنص"الجرح"ص 13 تم الاعتماد على تقنيتين متعاضدتين، وهما: السرد والحوار، والملاحظ أنهما متعالقتين ومتعانقتين، لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى، فتكاملهما يرفض ذلك، فالسرد وظف تقنية المشهد، باعتماد كاميرا تنقل أدق تفاصيل الشخصيات، من لحظة نزولهم من السيارة إلى لحظة دخولهم الملهى وسقوط المرأة في غيبوبة، لقد كان النقل حياديا، بمعنى، أن السارد كان من الخارج، والسارد لا يعرف عن الشخصيات إلا القليل، أي ما أظهرته من خلال حركاتها وأفعالها، فهو يعرف أقل منهم، ولو ظل على حياده لما أدرك القارئ العلاقة في ما بينهم، ومن هنا دور الحوار، فهو يكمل ما تركه السرد فارغا، ويقدم للقارئ بعض الإضاءات، من مثل، العلاقة الجامعة بين الأطراف. السارد لا يعرفها، لذا ظل يشير إلى الشخصيات بحسب جنسها وسنها، فهناك: الرجل والمرأة، والفتى، والشابة، أما الحوار، فيقدم إشارات تجعلنا ندرك الرابط بينها، فالفتى يحب المرأة، وينظر بنقد للرجل، ولا يحب تصرفات الشابة، وبناء عليه، ندرك أن الشخصيات تكون أسرة بين بعض أفرادها صراع بفعل غياب تفاهمات، وبالأخص بين الفتى والرجل، هذا الأخير ينكب على أعماله غير مدرك لأثر أفعاله، فهو، بحسب الفتى، قد أفرط في إرضاء الشابة، وأفسد أخلاقها، وهذه الأخيرة، تظهر لنا مقبلة على الحياة منفتحة على ملذاتها، غير عابئة بما حولها، نصب عينيها إشباع رغباتها، أما الرجل، فهو مقبل على الحياة، السيجار والخمرة تظهران ذلك، لكن من دون إفراط، فهو يتابع أعمالها حتى في الملهى، أما الفتى، فيظهر من البداية إلى النهاية متوترا، غير محب لتصرفات الرجل، مما يحفزنا على القول: إنه زوج الأم، لا غير، يقوم بإدارة أعمالها بتهور، بحسب الفتى، وقد يجهز على ثروتهم، أما المرأة، فتظهر خاضعة وسلبية، تستجيب لما يطلب منها، وهي تعاني من مرض، سيكون مهددا لحياتها. إن التقنيتان معا ظلتا محافظتان على فجوة يتسلل منها سؤال: ما سبب توتر الفتى وعدم قبوله لتصرفاته تجاه المرأة، وتجاهه، وتجاه الشابة، ماذا جرى؟ وأسئلة أخرى، تدفع إلى افتراضات، أما السارد، فيظل محايدا، يقدم لنا المشهد ببرودة، ويسمح للشخصيات بالإفصاح عن مواقفها من دون تدخل منه.
هناك تناسب وزني بين كمية السرد وكمية الحوار، فسرد الأحداث يتوقف ليفسح للحوار المشهدي بالظهور ، بهدف تحقيق قليل من التنوير، وبمتابعة القصة تتجلى بعض خيوط الحبكة، وعناصر الصدام، مع التذكير، أن النص لا علاقة له، من وجهة نظرنا، بالحدث، إنها قصة اللاحدث، فلا يهتم السارد بمعالجة القضايا، كبر شأنها أو صغر، بل يهتم برصد التفاصيل الصغير مأخوذة من لحظة حياة أسرة، ليفسح للقارئ فعل إعادة كتابة النص، بالبحث عن العلاقات القائمة بين الشخصيات، ووجهات نظرها، وتفاعلاتها، واكتشاف خباياها، وإدراك المحرك لأفعالها.
الرؤية الكابوسية، أو الرعب ثلاثي الأبعاد، في "القاتلة".
تبتدئ النصوص الثلاثة بشكل مفرح، يفتح شهية الإقبال على الحياة، وسرعان ما يتقلب جو القصص ويتلبد جو الحكي بغيوم الاضطراب، وتكفهر ملامح السرد، لنجد أنفسنا أمام مناخ عامر بالرعب، انقلاب صادم، ومثير للقلق، فالسعادة التي حققتها الوسائل التكنولوجية الحديثة سرعان ما تكشف عن وجهها البشع، وتظهر حقيقتها المرة. فالنغمات المثيرة لسماء البهجة تنقلب وبشكل مفاجئ إلى رعب مزعج، وهو الشأن نفسه مع الإنتيرنيت، حيث يستيقظ السارد على فضيحة مدوية تربك حساباته، وتخلط أوراقه، فهل كان هو من كتب ما كتب أم أنه بريء مما اتهم به؟ نلاحظ حضور فعل الاستسلام، كفعل دال على إزاحة الإرادة، وإحلال التبعية مكانها. ويتعمق فعل الرعب مع النص الثالث، إذ انطلق السارد في متابعة أحداث الفيلم الحركي، المثير للأعصاب نتيجة تواتر تلك الأحداث وانتقالها إلى الذروة ليجد نفسه المتهم بالإجرام، في نقلة من الخيالي إلى الواقعي، وبذلك تختلط الحدود، وتتضبب الرؤية، ويصير الكل واحدا، فالواقع خيال، والخيال أس الواقع. وهكذا، تسفر الرؤية كن كابوس يضاد الاحتفالية، فالفرح يخلي مكانه للرعب، ويقوي فعل اللاتواصل، مما يفقد الشخصيات توازنها، كونها تعيش في عالم خرب، ميزته التمزق، والكابوسية المرعبة، فهل يعبر هذا عن إخفاق في الواقع وفي الذات معا؟* ثمة خيبة تواجه الإنسان العربي وبالأخص المثقف في الواقع وفي القصص، وثمة إحباط من مؤسسات الشأن العام، وكل ذلك يولد رؤية كارثية كتشظية لا تعد بشيء. وتكاد تتعين أحيانا فيما يشبه وقفة الأطلال البكائية، تأخذ منها حنينها لزمن ماض بعيد وانقضى ولن يستعاد، كما تأخذ منها جوهرها البكائي المحزن، وتعبيرها البليغ عن الخيبة من البشر والزمان والمكان.
**/ جماليات القصة القصيرة في الأردن/ محمد عبيد الله ص 52/ مجلة علامات ع 20 س 2003.
وتتأكد الرؤية الكابوسية في نص "الكابوس"، والعنوان دال على هذا البعد، فغياب التواصل، والإحساس بالغربة، وما ينتاب النفس من رعب، كلها عناصر تدل على الانفصام، والشرخ القائم بين الشخصيات والعالم الواقعي، فالسارد في النص يوجد داخل الأحداث وخارجها في الآن نفسه، فهو بداخلها من غير إرادته، ألقي في اليم البشري ولا يعرف أسباب الحركة، وهو خارجها لكونه لا علاقة له بأي أحد من الناس، مما ولد لديه شعورا ممضا بالعذاب؛ يقول السارد: وجدت نفسي في خضم من القامات..بقوة تدفعني القامات من الخلف..عبثا أحاول أن أتمالك زمام جسدي..شعارات مدوية، لا أتبين كلماتها، تصم أذني{...} أما أن اكتفي بسماعها صاخبة مملاة، دون أن أميز معناها ودون أن أملك القدرة على ترديدها، فذلك ما كان يعذبني" ص 5 إن السارد يشعر في قرارة نفسه أنه غريب عن الجميع وعن شعاراته، فلا يمكن أن يشعر بالانتساب إكراها. ولا شك أن هذا الانفصال نابع من كون الذات المتكلمة لا تعرف مصيرها ومسارها، فهي تدفع دفعا إلى جهة لم تخترها ولا تدرك أبعادها، ثم إن تلك الشعارات غير نابعة من داخل الشخصية ولا تعبر عن قناعاتها.، لدرجة أن رغبة الانفصال والتموقع في مكان عال قد داهمته. بيد أن قوة التيار لم تسمح له بإشباعها، لأنه امتلأ بشعور العجز: "وعذبني شعور فادح بالعجز" ص 6
وفي غمرة هذا الشعور سيحس بضرورة الارتباط بالجموع وترديد شعاراتها لحد شعر معه بلذة الانتماء. ص 6 إلا أن هذا الشعور كان عابرا وزائفا في الوقت نفسه. فبعد صراع واسترجاع لصفاء الوعي سيدرك أنه قد تخلص من الخوف والحماس، من الانتماء إلى المتقدمين أو المتراجعين، وسيضطر نتيجة ذلك إلى اتخاذ مكان الوسط، لا يتحرك، مما أشعره بلذة الحيادية، كأنه يتفرج على لعبة لا يتبين خيوطها. ثم إن الحركة لجهة ما ينبغي أن تكون مسنودة بالمعرفة، وهو ما لم يكن يتوفر عليها ترك لنفسه، بفعل هذا الإحساس أن تتمايل إلى الجهة الأقوى في الدفع، رغم أنه كان مهددا بالسقوط.. وقد أكد السارد عزمه على ألا يتحرك إلا بعد أن يفهم، وفي النهاية وجد نفسه غير قادرة على مقاومة تيار المتقدمين، وإذا لم يسمح للتيار بجرفه فإنه مكنه من إسقاطه، والنتيجة، سحق الأقدام له، إلى درجة أحس فيها أنه يدفن: عميقا أحس بالألم في وجهي وبطني وحجري .. عميقا أحس أني أغور في التراب الذي تحتي .. ص 8 وتلك، لعمري، ذروة الانسحاق والكابوسية والانفصال.
جل النصوص تنتفي فيها الشخصيات الممثلة للأدوار..و يحل في معظمها سارد يتحمل عبء الأحداث من البداية إلى النهاية..زيادة على الارتباط الكلي بالواقع الاجتماعي، والذي عاش الكاتب بعضا منه.
من الملامح الأخرى التي تتجلى في هذا النص وفي نصوص مماثلة، تذويت الواقع:
والمقصود بالتذويت هو التحول من الموضوعي إلى الذاتي"وسواء أكانت الذات للكاتب أم للشخصية فإن القصة تنحو باتجاه التركيز على الوجداني والداخلي، بلغة ذات سمات عاطفية وتأثيرية، أي بلغة قلبية تركز على منابع العاطفة وتهدف إلى تثويرها"* فشخصية نص"كابوس" لا تبئر إلا ذاتها، وتنظر من خلاله إلى الواقع، مبرزة تأثرها بما يجري في الخارج ووقعه على الداخل، وما يحدثه من زلزلة . فالذات تعاني من ضغط الجماعة، وتسعى إلى تلافي انسحاق تفردها، لكونها لا تريد أن تكون نسخة كربونية للجموع، أي لا تريد أن تكون ضمن القطيع؛ لأن ذلك سيفقدها تميزها، وبصمتها الخاصة، بيد أن الجموع الهائجة لا تسمح إلا بالنسخ المتشابهة، تعيد وتكرر ذاتها بشكل نمطي قاتل لأي خصوصية. ومادام أن ساردنا حاول أن يظل محايدا حفاظا على تفرده، فإن الجموع ستقوم بسحقه ، ومن هنا منبع معاناة الإنسان في واقعنا العربي، واقع يسحق كل خصوصية، ويدمر كل تفرد، ولا يطيق التغيير.
توظيف الحلم
الحلم وسيلة يتخلص بها الإنسان من الفضاءات الضيقة، لينطلق نحو الفضاء الشاسع الحر، كما يسمح للإنسان بالانفلات والتحرر من الوضعية الراهنة الخانقة، فاعتماد الذات على الحلم. يكون بهدف نشدان العزاء والنجاة،
إن موضوعة الحلم تهيمن على الكثير من أجزاء نص"بم تحلم؟"، ذلك أن الواقع القاهر والمؤلم هو الذي يدفع بالشخصيات إلى الحلم. و يفرض عليهم الارتماء في أحضانه، فلا يمكن للإنسان أن يعيش من دون حلم.
إن الحلم انتقاد للواقع، ودعوة إلى جعل الحياة أكثر إنسانية، وأكثر حرية من القيود
يعد الحلم في النص أسا، كما أن الواقع يشكل الأس الثاني، ويقفان في وجه بعضها بعضا يشكلان قطبي المعارضة بينهما، فكل واحد يعد نقيض الآخر، كما يتولد عن هذا التعارض تعارض ثان، يتمثل في البعد الزمني، فالحلم يستشرف المستقبل، ويرفض اللحظة الراهنة، والواقع يرتبط بالراهن، ويسعى إلى قمع الحلم ذي الطموح التجاوزي، علما، أن الواقع هو المولد للحلم، فبسبب المرارة نتج الحلم كتعويض من جهة، وبديل من جهة أخرى. والناظر إلى الأحلام المعبر عنها، سيدرك أنها صغيرة جدا، لكنها حميمة، كتعبير عن برودة الواقع، وسخافته، وما يورثه للنفس من أثقال، فالذي لا يحلم يشبه الميت، لأن أعباء الحياة أتلفت رغبته في العيش الكريم، لكثرة القروض والمشاكل المترتبة عن ضيق اليد. ويواصل النص، من خلال الثنائية الأساس، من توليد مقابلات أخر، من مثل، الداخل والخارج، والجالس والواقف، بينهما بوابة تغرس في النفوس المحتجة الإحساس بالصغار، فهي لكبرها لا تسمح للمحتجين بتجاوزها للتعبير عن مطالبهم، كونها تتميز بالضخامة، والقوة، والبرودة، تقف حاجزا ضد أي سلوك احتجاجي.
تقنية السرد المحايد وتقنية التغريب أو التباعد البريختي:
يلاحظ أن السارد في قصة"انعكاس" ص23، قد اتخذ موقف الراصد المحايد، بغض النظر عن موقفه، رغم أنه شخصية مشاركة في أحداث القصة، فهو واحد من ركاب سيارة الأجرة، ومن موقعه يرصد تصرفات الأستاذة، ويسعى إلى فهم أفعالها وأقوالها، معتمدا قاموسا يدل على ذلك الحياد، من قبيل: لم أستطع تحديد سنها بدقة، بدت لي، لم أتمكن من متابعة كلامها...وإذا كانت الشخصية المبأرة تعتمد استراتيجية الإظهار والإخفاء، فإن السارد قد اعتمد استراتيجية الكشف والفضح، فها هو يحدد لون شعرها رغم أصباغه، ويسعى إلى تحديد سنها بمقارنتها بصديقها، ويكشف وضعها الاجتماعي الهش، رغم ادعائها أنها من أسرة ميسورة، إذ لا يعقل أن تدرس في مكان بعيد عن الأسرة، تحيط به المخاطر من كل الجهات، وتعيش في حجرتها، صحبة زميلاتها، وهي في خوف مستمر من الذئاب البشرية.
أما عن تقنية التباعد، فالظاهر أنها تقنية تطلبها النص، إذ جعلنا نتابع شخصية السارد وقد أمست شخصيتين، تتبادلان الحوار، لتقديم صورة عن الأستاذة الثرثارة، وهو يروم من وراء ذلك جعلها تظهر من خلال كلامها، اعتمادا على القولة المشهورة: تحدث لأراك، فثرثرتها كانت بهدف إضفاء هالة من التقدير تخفي هشاشة حاضرة. تقنية التباعد المسرحية تهدف إلى جعل المتفرج غير مندمج في أحداث العرض، حتى يظل متيقظا وقادرا على الحكم، وهو الأمر نفسه في النص، يدفعنا السارد من خلال تثنية شخصيته إلى اتخاذ مراقي الحذر من المظاهر، مع حثنا على النفاذ إلى الجوهر لكشف حقيقة الإنسان.
تقنية المتاهة والضياع
وتتجلى بشكل قوي، في نص "البيت الرمادي" ص36، نص مثير ومشوق، يحث الحارس كما الشخصية على الانخراط في أحداث القصة، والتورط في أحداثها، بفعل مجموعة من المغريات، منها التحذير، والمفاتيح المتروكة قصدا، والصناديق المحمولة إلى داخل المنزل، وغيرها، كل ذلك بهدف دفع الحارس إلى الخروج من حياديته، والسير وراء فضوله المثار، وهو ما تحقق رغم حذره الشديد، وحين يدخل، يجد أنه قد وقع في فخ شديد الإحكام، والقارئ صحبته، فالمنزل لا يفتح إلا من الخارج، فكيف السبيل إلى النجاة؟ لا مخرج سوى السقوط في ما هو أفظع، ونقصد بذلك تهمة السوداوية والجنون. فعملية الدخول ينبغي أن تكون مصحوبة بالحذر، لأن الكشف يتطلب أدوات، والتهور لن يقود إلى ضعف في الموقف، فما وصل إليه لن يصل إليه غيره، رغم الحجج التي سيسوقها، فلا أحد يمكن تصديق مجنون. وكأن السارد أراد قصدا جعلنا نكتشف دواخلنا وما يعتريها من ضعف وهشاشة، فبداخلنا كهوف مظلمة إذا ما رمنا إضاءتها أعمت أبصارنا، وطوحت بنا في ربوع الضياع.
وإذ احتفى النص بالحكاية، على غرار باقي النصوص الأخرى، فقد انضبطت للترسيمة التالية: منع، فخرق للمنع، فعقاب.
وهي خطاطة جهنمية ما كانت لتنجح لولا حضور مجموعة من المحفزات والمغريات قادت إلى الخرق، فككل منع يكون خرقه ضروريا، هذا ما جبلت عليه النفس البشرية، صحيح أن الحارس قاوم فضوله، رغم الرسائل العديدة التي قرأها، والتي كان بإمكانها حثه على الكشف، بيد أنه لم يفعل لقوة كوابحه الأخلاقية، وبحضور أصحاب السيارات، وإدخالهم الصناديق، وتركهم المفاتيح عنوة، تم تدمر إرادة القوة، وعزيمة الإصرار على الحياد، فالتقمته الكماشة. ولذا، يتساوق العنوان والنتيجة، كما يتساوق وبقية الألوان الأخرى الواردة في النص، وبالأخص اللونين: الأحمر، والأسود. فالأسود هو المادة الخام التي تطلب الاحتراق، والأحمر يدل على الاشتعال والتوهج، والرمادي على ما تبقى ودال على النار. وليس غريبا أن يقدم أصحاب السيارات وبأذرعهم الشارات الحمر، فكانت بمثابة المحفز على الفعل، كما تحفز الراية الحمراء الثور الأسود.
خلاصة:
واضح أن القاص، السي عبداللطيف، قد تخلى عن القضايا الكبرى ليركز على القضايا الصغرى ذات الحيوية، من مثل الديمقراطية، والكرامة الإنسانية، والتعبير عن الخصوصية، وغيرها، بتقنيات مختلفة تمنح لنصوصه تفردها وتميزها، محققة للقارئ المتعة، والإدهاش.
من بين المراجع المعتمدة غير تلك الواردة ضمن المتن:
جماليات القصة القصيرة في الأردن، شعرية السرد ومبدأ التذويت، محمد عبيد الله.
مجلة علامات، العدد 20، سنة 2003، ص 49.

ع. الرحيم التدلاوي
مكناس في: 26/01/2016

الحكاية والسرد في مجموعة"البيت الرمادي" لعبد اللطيف النيلة ط1 2008 مطبعة دار وليلي للطباعة والنشر_ مراكش.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى