د. زياد العوف - في الأَلسُنيّة العامّة... لغةُ النَّحل ولغةُ الإنسان

يرتبط جوهر الإنسان ووجوده باللغة؛ آية ذلك الفعل اللغويّ المتمثِّل بالكلام، بوصفه أصواتاً منطوقةً يمارس الإنسان من خلالها كينونته الإنسانية بوصفه ( حيواناً ناطقاً ) ، ثُمَّ ألفاظاً دالّة وعباراتٍ مكتملة يُفصِحُ بها عن هُويّته النفسيّة والفكريّة والاجتماعيّة، ويتواصل بواسطتها مع أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه، ثمَّ ، من خلال تعلّمِ واكتساب لغاتٍ أخرى ، مع أفراد مجتمعاتٍ إنسانية أخرى . *
هذا في المجتمع الإنسانيّ...فكيف هو الحال في عالَم الحيوان ؟
من المعلوم أنّ النّحل يعيش حياة اجتماعية منظّمة تقوم على العمل الدؤوب وتوزيع الأدوار بين جماعة النحّل التي تتّخذ من الخليّة( القفير ) مأوى لها تمارس فيه كلّ أنشطتها الحيوية، بما فيها انتاج العسل.
إنّ هذه الحياة الاجتماعية المنظّمة تفترض وجود وسيلة، أو لغة، للتواصل بين جماعة النحل؛ من هنا كان البحث في " لغة النّحل" .
إنّ ملاحظة وتتبّع واستقراء خصائص الحياة الاجتماعية لدى النّحل يمكّننا من التعرّف- من بين أمور أخرى تهمّ علماء الحيوان، والحشرات بخاصّة- على آلية التواصل لدى أفراد هذا المجتمع، ومن ثَمَّ تحديد الخصائص المميّزة للغة البشر بالمقارنة مع غيرها.
لقد لفتَ عالَمُ النحل بتنظيمه الدقيق للخلايا، وبنشاطه الدؤوب وردود أفعاله المختلفة، وبقدرته على التفاعل الجمعيّ مع الأوضاع المتباينة، أنظارَ العلماء فتساءلوا عن الكيفية والآلية التي يتواصل بها النّحل للقيام بكلّ تلك النشاطات؛ فتوجّهت جهود المختصّين منهم إلى البحث في الطريقة التي تقوم النحلة بواسطتها بتنبيه النّحل إلى مصدر الغذاء الذي تعرّفتْ عليه.
يعود الفضل الأول في ذلك إلى البروفيسور الألماني ( كارل فون فريش )** أستاذ علم الحيوان في جامعة ميونيخ الذي عكف لسنوات طويلة منذ الثلث الأول من القرن العشرين على دراسة خصائص الحياة والنشاط الاجتماعيّ لمجتمع النّحل . لقد لاحظ هذا العالِم بعدَ القيام بعدد كبير جدّاً من الاختبارات معتمداً في ذلك على عدد من الخلايا الشّفافة التي أعدّها خصيصاً للملاحظة والاختبار والاستنتاج أنّ النّحلة التي تطير للبحث عن الرَّحيق وغبار الطّلع تعود إلى القفير، محمّلةً بالفائض عن حاجتها من الغذاء، ومحدِّدةً مكان وجوده ، فما تلبث أسراب من نحل هذه الخلية أنْ تتوجه إلى مصدر هذا الغذاء دون النحلة التي ذهبت قبلها. فكيف إذاً تمكّنتْ هذه الأسراب من الاستدلال على" مصدر التموين" ذاته دون مرافقة النّحلة السابقة؟ الجواب المنطقيّ الوحيد هو أن النّحلة/ الدليل قد تواصلت مع أفراد القفير وأبلغتهم بالمعلومات التي لديها.
لقد لاحظ البروفيسور فريش أنّه ما أنْ تعود النّحلة من مصدر الغذاء حتى تقوم بحركات محدّدة ومنظّمة أشبه بالرقص، فيتحلّق حولَها النّحل بحماس شديد، فتنطلق جماعات منه إلى المصدر ذاته للتزوّد بالغذاء، فتقوم بإبلاغ الرسالة من جديد، ثُمّ تعقبها أسراب أخرى، وهكذا دواليك.
لقد لاحظ العلماء أنّ النّحلة العائدة من مصدر الغذاء تقوم بأداء حركتين راقصتين تتمثّل الأولى منهما بالقيام بحركة شبه دائرية، بينما تشبه الرقصة الثانية خطوط العَدَد (
😎
،
وتبيّن لهم بعد اختباراتٍ تجاوزَ عددها (4000) اختبار أنّ الحركة الدائرية تشير إلى قرب مصدر الغذاء بحيث لا يبعد أكثر من(100) متر عن القفير، في حين تدل الرقصة الأخرى ( 8 ) على أنّ المسافة قد تصل إلى حدود (6) كم، كما لاحظوا أنّ بطء حركة الرقصة يدلّ على بُعد المسافة. أمّا فيما يخصّ اتّجاه مصدر الغذاء فإنّ مَيَلان محور العدد (
😎
بالنسبة للشمس يميناً أو شمالاً هو الذي يشير إلى الزاوية التي يشكّلها مكان المصدر مع الشمس.
لقد سمحتْ لنا هذه النتائج المهمّة بالتّعرّف على آلية التواصل في مجتمع النّحل، فهل تنطبق على هذه الآلية أو الوسيلة الشروط الموضوعية الضروريّة التي يجب أن تتوفّر عليها اللغة؟
هذا هو السؤال الكبير والمتشعِّب الذي تلقّفه علماء اللغة وعكفوا على دراسته وتحليله للإجابة عليه.
فكان أن خَلُصتْ دراستُهم إلى تحديد العناصر التالية:
- إنّ النَّحل قادر على انتاج وفهم رسالة رمزيّة من خلال حركة جسدية،تتضمّن عدة معطيات تتعلّق بموقع ومسافة مصدر الغذاء.
- ثَمَّة علاقة اصطلاحية بين سلوك النَّحل وبين المعطيات المرمَّزة.
- تُدرك جماعة النحل مدلول هذه العلاقة، فتستجيب لها عمليّاً.
توفّر العناصر السابقة عدداً من الشروط الضرورية للّغة، وهي:
- يتمتّع النَّحل بالقدرة على انتاج وتفسير علامة( حركة رمزيّة ) ذات صلة بالواقع الخارجيّ .
- للنحل القدرة على اختزان ذاكرة التجربة التي مرَّ بها.
- يمتلك النحل الكفاءة اللازمة لتفكيك عناصر الرسالة المستلَمة التي تتضمّن ثلاثة معطيات: وجود مصدر غذائي، بُعدُ هذا المصدر، موقِعهُ واتّجاهُه .
إنّ نظام التواصل المشار إليه صالح للاستخدام ضمن جماعة محدَّدة؛ بحيث يستطيع كلّ فرد من إفرادها استخدامه وتفسيره.
لكنّ هذا النظام يختلف عن لغة البشر في النواحي التالية:
١- إنّ التواصل في مجتمع النحل يكون بالحركة الراقصة للنحلة، دون استخدام الصوت؛ والحال أنّه ما مِن لغة، بالمعنى الدقيق للكلمة، دون أصوات دالّة.
٢-يحدث التواصل بين النحل في ضوء النهار وحده؛ فهو ذو طبيعة بصريّة، بخلاف التواصل بين البشرالذي يتمُّ في كل الأوقات.
٣- إنّ مضمون رسالة النحلة لا يستدعي ردّاً ما؛ بل يكون بالذهاب إلى مصدر للغذاء. هذا يعني انعدام الحوار في لغة النحل، وهو من مقتضيات لغة الإنسان.
٤- يُحيل التواصل بين النحل إلى معطيات موضوعية فحسب، أي ليس ثمّةَ تواصل لغوي بحت؛ إذ إنّه ليس هناك من ردّ فعل لغوي يتمثّل بالجواب، وبناءً عليه لا تستطيع النحلة التي لم تشاهد الرسالة إنتاج مضمونها مرّة أخرى، أي أنّ النحلة لا يمكنها صياغة رسالة انطلاقاً من رسالة أخرى. في حين يمكن للإنسان الناطق توليد عدد غير محدود من الرسائل انطلاقاً من رسالة ما. وهذا ناشئ عن عدم وجود علاقة ضرورية تجمع بين المرجع الخارجيّ ( المضمون ) والشكل اللغويّ الدّالّ.
٥- لا يمكن تحليل رسالة النحل إلى عناصرها المكوّنة لها، إنّها كتلة موضوعية واحدة؛ إذ إنّ الاختلاف الوحيد الممكن إنّما يكمنُ في تحديد مصدر الغذاء. بينما تتميّز لغة الإنسان بقابليّة ملفوظاتها للتحليل إلى عناصرها الأولية، ما يتيح للناطق التأليف بين هذه العناصر بحرية كبيرة طِبقاً لقواعد محدَّدة...من هنا يتأتّى هذا التّنوّع الهائل في لغة الإنسان وقدرتها الفائقة على أنْ تقول وتعبّر عن كلّ الأشياء والأفكار.
٦- إنّ الأصوات في لغة الإنسان بمثابة عناصر أوليّة لا دلالة لها، ويتمّ تنظيمها في منظومات لغوية تكوّنُ قاعدة كلّ لغة. وهذا غير ممكن عند النحل.
نخلُصُ من ذلك إلى أنّ نمط التواصل بين النحل لا يرقى إلى مرتبة اللغة، إنّه مجرّد رسالة مرمّزة " شِفرة " من العلامات تتّصف بثبات المضمون المعتمِد على البثّ من جانب واحد، مع عدم قابليّته للتفكيك والتحليل .
إنّ نظام التواصل هذا يتّصل بصنف من الحشرات تعيش في مجتمع، والمجتمع هو الشرط الأساسي والضروريّ لوجود اللغة.

*- د. زياد العوف، "اللسانيات والتنمية البشرية" ، مؤتمر (دَور العلوم الإنسانية في التنمية البشرية)
جامعة سبها، ليبيا، ٢٠٠٨م.
**- E.BENVENISTE, Problemes de linguistique generale,v.1,Gallimard, tel, Paris,1996, p.p 56-62.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى