د. أحمد الحطاب - عندما يغيبُ الضمير، يموت الحق وينتصر الباطل

من الناحية النفسية، عندما نتحدَّث عن الضمير، فالأمرُ يتعلَّق بالوعي الذي يجعل الإنسانَ مُدركا لوجودِه ولوجودِ العالم المحيط به. من الناحية الأخلاقية، عندما نتحدَّثُ عن الضمير، فالأمرُ يتعلَّق بقدرة العقل البشري على التَّمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وبصفة عامة، بين الطيب والخبيث من السلوكات والأعمال والتَّصرُّفات، وكذلك القدرة على التَّفريق بينها، وفي نهاية المطاف، الميول إلى ما يتطابق مع الطيب والابتعاد عن ما هو قبيح. و عندما نتحذَّث عن الضمير المهني، فالأمرُ يتعلَّق باحترام المسئولية التي تفرضها المهنةُ وأدائها بإخلاصٍ واستقامة وعناية وبكل ما يتطلَّبُه الواجبُ المهني من حِرصٍ ودقة.

وعندما نقول إن فلاناً يتحلَّى بضمير حيٍّ، فهذا يعني أنه صادقٌ في أفكاره وأفعاله ويمكن الإئتمان له في التَّعامل مع الغير. والضميرُ لا يخصُّ فقط الأفرادَ. بل يمكن أن ينطبقَ على الجماعات البشرية كالأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات المدنية والمهنية... حينها، يصبح ضميرا جماعيا خيطُه الناظم هي القيم الأخلاقية من نزاهة وشفافية وصِدق واستقامة وعدل وإنصاف وأمانة… بل إن الضميرَ يمكن أن ينطبقَ على البشرية جمعاء، فيصبح ضميرا إنسانيا أساسُه الأول والأخير هو الميولُ إلى فعلِ الخير دون قيدٍ أو شرطٍ، أي دون اعتبارات اجتماعية، عِرقية، دينية، اقتصادية، ثقافية…

وكل فردٍ زاغ عن ما يفرضُه الضميرُ من أخلاقٍ وقيمٍ إنسانيةٍ، إن كان ضميرُه فعلا حيا، فمن الضروري أن يشعرَ بتأنيب الضمير. بمعنى أن الزائغَ عن ما يفرضُه الضمير، يشعر بالنَّدم وبالألم لما ارتكبه من أغلاطٍ في حق نفسه أو في حق غيره. وهنا، لا بدَّ من التَّفريق بين تأنيب الضمير وفُقدان هذا الضمير. فاقد الضمير لا يُحِسُّ لا بالنَّدم ولا بالألم لأنه يعي تمامَ الوعي ما يقولُه وما يفعلُه. وبعبارة أخرى، إنه فضَّل، عن وعيٍ، الانحيازَ إلى ما لا يُرضي الضميرَ.

وفاقدو الضمير، أفرادا وجماعات، الذين لا يشعرون بأي تأنيب، يؤثثون الحياةَ اليومية بغزارة. وهذا شيءٌ مؤسِفٌ ومقلِقٌ في آن واحد. وما هو مقلق ومؤسف هو أن فاقدي الضمير من أفراد وجماعات، إذا اختاروا أن يسيئوا لأنفسهم، فلا حق لهم أن يسيئوا للمجتمع. وهذه هي الطامة الكبرى. إنهم، فعلا، بفُقدانهم للضمير، يساهمون في نشر الفساد والظلم والطّغيان. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة علما أن المجتمعَ هو ضحيتُها الأولى.

فهناك مَن يشهدون شهادةَ الزور، في المحاكم وخارجَ المحاكم، فيُغلِّبون الظالمَ على المظلوم ويكونون سببا في حِرمان الناس من حقوقهم وفي تشريد العائلات وفي وقوع الجرائم… وهناك مَن يبيعون أصواتَهم أثناء الانتخابات بثمنٍ بخسٍ غير مُكثرتين أن تصرُّفَهم هذا يُمهِّد الطريق للفاسدين للوصول إلى السلطة فيعيثون فسادا في البلاد. وهناك مَن لا يُخلصون في عملهم ويعتبرون وظائفَتَهم فقط مصدرا لراتبٍ شهري لا يستحقونه. وهناك مَن يُزوِّر الفواتير. وهناك مَن يغشُّ في البيع والشراء وفي الامتحانات وفي الوزن… وهناك مَن يتهرَّب من الضرائب. وهناك مَن يستعمل شبكات التَّواصل الاجتماعى للنَّصب على الناس. وهناك مَن يستولي على الإنتاج الفكري للآخرين… واللائحة طويلة.

أما فُقدان الضمير البالغ الخطورة، فإنه يوجد في عالم السياسة. وقد لا أبالغُ إذا قلتُ إن السياسةَ، كما هي ممارسَةٌ اليوم في هذا البلد السعيد، جلُّ أطوارها نابعةٌ من فُقدان الضمير. وهنا، لا تفوتني الفُرصةُ لأذكِّرَ بأننا، عندما نتحدَّثُ عن الضمير، ما يخطر ببالنا في أول وهلةٍ، هو نظافة هذا الضمير وطهارتُه. والسياسة، منذ القِدم وكأسلوبٍ لتسيير وتدبير شؤون الناس، كانت دائما مقترِنةً بنظافة الضمير وطهارتِه. وبعبارة أخرى، نظافة الضمير والسياسة بمعناها النبيل توأمان نابعان من صُلبٍ واحدٍ يُدعى الإنسان. ولهذا، فالسياسة النبيلة، عندما تقترن بنظافة الضمير، لا يمكن أن ينتُجُ عنها إلا الخير و لا شيءٌ آخر غير الخير.

لكن ما نشاهده على أرض الواقع وفي الحياة اليومية، مُخالفٌ تمامَ الاختلاف عن ما تفرضانِه نظافةُ الضمير والسياسة بمعناها النبيل. ما نشاهدُه يمثٍّل أبهى صورة لفُقدان الضمير وأبهى صورة للفساد السياسي. ولا أحدَ يبالغ عندما نسمع هنا وهناك أن مفردةَ "السياسة" أصبحت مرادِفةً لمفردة "فساد". لماذا؟ لأن فقدانَ الضمير أصبح هو المحرك الأساسي للسياسة. بل فٌقدانُ الضمير أصبح مترسِّخا ومتجدِّرا في المشهد السياسي، إن لم نقل، هو خيطه الناظم. والدليل على ذلك، أن كلَّ مَن يقوم بتحليلٍ لخُطب أعلى سلطة في البلاد، يُلاحظ أن هده الخُطب كلها تسير في اتجاه مفهوم "السياسة النبيلة". بينما عددٌ كبير من السياسيين الموجودين تحت قبة البرلمان أو في الحكومة، أقوالُهم وتصرُّفاتُهم، تسير في الاتجاه المعاكس. وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن فُقدانَ الضمير في مشهدنا السياسي أصبح بِنيويا يصعُبُ التَّصدي له فقط عن طريق الكلام والنصائح. فقدان الضمير لن يستأصِلَه من المجتمع إلا القانونُ و تطبيقُه بكيفية صارمة.

دلُّوني على سياسي واحدٍ أنَّبه ضميرُه و اعترف بأخطائه وما صدر عنه من سوءٍ للناس وللمجتمع واعتذر للمواطنين علانيةً و استقالَ من منصبِه وتنكَّر لحزبِه السياسي… دلُّوني على جزبٍ سياسي واحدٍ عاقبَ أحدَ قيادييه أو شخصياتِه على فقدان الضمير وطرده من الحزب. بل إن الأحزابَ السياسةَ، مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة، هي التي تحثُّ أو تدفع أو تشجِّع أعضاءَها على فقدان الضمير. بل إنه، بالنسبة لهذه الأحزاب، ربحُ الكراسي في البرلمان و في الحكومة أولى وأشرف و أجذر من نظافة الضمائر.

وما يجب الانتباهُ إليه وما هو، في نفس الوقت خطير، هو أن فاقدي الضمير، سواءً كانوا أفرادا أو جماعات أو سياسيين، وَاعُون كل الوعي بتصرُّفاتهم ويعرفون تمامَ المعرفة أنهم يسيئون للمجتمع. لكنهم يتمادون في القيام بهذه التَّصرُّفات مستسلمين لغريزة الجشع و نزعة الشر وتحقيق مصالح غير مشروعة. وتصرُّفاتُهم هذه قد تصبح مُعديةً وبالتالي، تزيد من انتشار الفساد الذي نخَرَ وينخُر وسينخُر مجتمعَنا و يجرِّده من قيمه الأخلاقية والإنسانية. بل إن كلَّ سلوك وتصرُّف وراءه فقدانُ الضميرِ، فهو ضياعٌ للمجتمع. ضياعٌ يُخصَمُ من التنمية بجميع تجلِّياتِها بشريا، اقتضاديا و ثقافسا. بشريا لأن نظافةَ الضمير هي أساسُ المعاملات بين الناس. اقتصاديا لأن الكثيرَ من التَّصرُّفات يكون وراءها الجشعُ و الجشع يقود إلى الريع و الريع لا يستفيد منه اقتصادُ البلاد. ثقافيا لأن تقدُّمَ البلاد لا يتحقَّق فقط بالنمو الاقتصادي. التَّقدم له جانبٌ حضاري أساسُه القيم الإنسانية والقيم الإنسانية لا يمكن فصلُها عن نقاوة الضمير. وعندما يغيبُ الضميرُ، يموتُ الحق وينتصر الباطلُ. فلنَنْظرْ من حولنا لنرى (و سنرى) ما أفرزه فقدانُ الضمير من باطلٍ ومن فسادٍ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى