يظن كثير من الشعراء الشبان- وبعض الظن إثم- أن معيار الشاعرية يكمن في استحداث أكبر عدد من الصور المجازية وحشدها حشدًا داخل النص، مُغْفِلين مدى تلاؤم تلك الصور وتعانقها داخل النص، فصارت قصائدهم أشبه ما يكون بسيارة رمضان السُّكّري المفككة التي عبّر عنها سعيد صالح بجملة هزليّة في مسرحية (العِيال كِبْرِت) حين سأله والده عن سيارته التي استقلها دون علمه فوقع لها حادث مروري، فرد قائلا: (الحمد لله، كل حاجة فيها سليمة.. بسّ لوحدها). لقد أغرى أولئك الشعراءَ التجريبُ، وفتَنَهم المجاز، فراحوا يحشدون المجازات المتنافرة المتباعدة التي يقال فيها على غرار جملة سعيد صالح: (كل صورة جميلة.. بس لوحدها).
إنّ اللُّهاث خلف كل طيف يعِنّ للشاعر دون إعمال الفكر والشعور وتوظيفه في إحكام البنية الكلية للنص، (لُهَاثٌ ينقطع به النَّفَس ولا تُدرك به الغاية) على حد تعبير شيخنا الدكتور سعد مصلوح. فصارت الصور والأخيلة مفرقة متناثرة لا يربطها رابط شعوري واحد، وصارت القصيدة مفككة متنافرة الأجزاء.
إن أكثر ما يعيب القصيدة المعاصرة افتقادها لذلك الترابط الفني الشعوري، فتأتي القصيدة كالثوب المرقّع، يصدق عليها قول حافظ إبراهيم: (فجاءت كثوبٍ ضمّ سبعين رُقعةً / مُشَكّلةَ الألوانِ مُختلِفاتِ)، وقد تنبه المبدع القديم إلى ذلك الضرب من الشعر فوصفه بأنه يشبه (بَعْر الكَبْش)، حيث قال أبو البيداء الرّياحي:
وشِعْرٍ كَبَعْر الكَبْشِ فرّقَ بينه لسانُ دَعِيٍّ في القريض دَخِيلِ
وتشبيه ذلك الشعر ببعر الكبش تشبيه في غاية الطرافة والدقة؛ إذ إن بعر الكبش (والبعر: روث الأغنام) يكون أكثر تفرقًا وتناثرًا من بعر الشاة، وفي ذلكم التشبيه إشارة خفية إلى أن الذوق العربي ينفر من ذلكم الشعر المفكك نفوره من رائحة بعر الكبش.
وفي هذا الإطار يورد الجاحظ في (البيان والتبيين) قول عمر بن لُجَأ لبعض الشعراء: «أنا أشعر منك، قال: وبم ذلك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه». ويفسر الجاحظ تلك المؤاخاة - في موضع آخر من كتابه- بقوله: «وجعْل البيت أخا البيت إذا أشبهه وكان حقه أن يوضع إلى جنبه».
إن حشد تلكم الصور المجازية المتنافرة أشبه بعمل الحُوَاة الذين يسحرون الأعين بباطلهم، فتعشى أعينُ المتلقين عما وراء تلك الصور من فقر فني على مستويَي الدوائر النصية، والدوائر فوق النصية؛ نحو: (التعانق المعجمي التركيبي lexico-grammatical)، (الأبنية الصرفية)، (المعاني البلاغية)، (السياقات الاتصالية communicative contexts)، (المعلومات فوق اللغوية Extra-linguistic)، (التناص Intertextuality) ...إلى غير ذلك.
وسأضرب هنا مثالاً واحدًا للتوضيح، على أن أعود في مقالات لاحقة إلى ضرب الأمثلة لكل مستوى من تلكم المستويات. فعلى مستوى الاستعارة metaphor وغيرها من أنواع التصوير المجازي other kinds of figurative utterances تشيع لدى أولئك الشعراء صور مجازية بعضها ساذج سطحي مبتذل وإن ادّعى مبدعوها العمق والشاعرية، وبعضها متناقض الأجزاء، وبعضها محاولة لإلباس المعنى السطحي مسوح الغموض، وبعضها أشبه بالمحال الذي لا تتكلم به العرب، والذي عرّفه سيبويه بقوله: "أن تَنقض أوَّلَ كلامك بآخِره"، ومثّل له بهذه الجمل الهرائية: (أتيتك غداً وسآتيك أمس)، و(سوف أشربُ ماءَ البحرِ أمسِ).
فعلى سبيل المثال تقول الشاعرة عائشة السيفي الفائزة بجائزة أمير الشعراء:
ما ضرّ لو أنك السرّ الذي انشطرَت منه النبوءاتُ، هَجْسُ اللهِ في الكُتُفِ
ولا أرى معنى لقولها (هَجْسُ اللهِ في الكُتُفِ) سوى أن يكون من كلام الجن، بل إن للجن كلامًا مفهومًا! ولأننا مضطرون آسفين إلى فك تلك الطلاسم فسأذهب لأستفتي ابن منظور ورفاقه من المعجميين الكبار، إذ الإضافة هنا إلى رب العزة، ولابد أن هناك معنى يخفى علينا إذن؛ يقول ابن منظور: "الهَجْسُ: ما وقع في خَلَدك، تقول: هجَسَ في قلبي هَمٌّ وأمرٌ، وهجَس في صدري شيء أي حدَسَ، والهَجْسُ: النَّبْأة تسمعها ولا تفهمها"، ويقول الفيروزآبادي: " هَجَسَ الشيءُ في صَدْرِهِ يَهْجِسُ: خَطَرَ بِبالِه، أو هو أن يُحَدِّثَ نفسَه في صَدْرِهِ مِثْلَ الوَسْواسِ". وفي المعجم الوسيط: "الهَجْس: الصوتُ الخفيُّ يُسمَع ولا يُفْهَم. والهَجْس: كلُّ ما يدور في النَّفس من الأَحاديث والأَفكار".
فلا يخفى على القارئ الأريب إذن أن معنى الهجس يدور بين أمرين؛ إما الصوت الخفي الذي نسمعه ولا نفهمه، وإما ما يدور في الصدر والنفس من هواجس وأحاديث وأفكار. فهل يليق إذن أن يضاف أي من المعنيين إلى رب العزة عز وجل؟! لا شك أن الشاعرة لا تدرك –للأسف الشديد- تلك المعاني المعجمية التي هي أدنى درجات المعرفة، ثم إذا افترضنا جدلا أن لتلك الإضافة معنى، فما معنى أن يكون هجس الله (في الكُتُف)؟!!
ويبدو أننا سندق باب ابن منظور ورفاقه للمرة الثانية في شطر واحد؛ يقول المعجميون: "كُتُف: جمع كَتِيف، والكتيف: صَفِيحَةٌ من حَدِيد ونَحْوِهِ تَكونُ في الإنَاء أو الباب"، وقد تجمع كتيف على (كِتاف)، و"الكِتاف: ما شُدَّ به من حَبْلٍ ونحوِه" أما (الكَتِف) بمعنى "العظم العريض خلف المَنْكِب" فلا تجمع على (كُتُف) بل على (أكتاف)، وإن سلمنا جدلا بجمعها على (كُتُف) فقد بدا لنا مدى الصنعة والتكلف واضطراب الصورة فضلا عن الجهل بما في الصورة من تجسيم للذات الإلهية؛ إذ إن محصلة تلك الصورة هي أن الله – عز وجل – يهجس بصوت خفي نسمعه ولا نفهمه، ثم إنه يهجس بذلك في عظام الكتف، وهذا يقتضي الكتابة على العظام لا الهجس الصوتي!!
ولا أدري هل تدري تلك الشاعرة ومن لفّ لفها من الشعراء أن البلاغيين يقولون إن من تعريفات البلاغة (معرفة الفصل من الوصل)، وأن تلك الجملة (هجس الله في الكتف) – التي أستغفر الله منها- كان حقها الوصل لا الفصل، لكنها أتت بها على تلكم الصورة عجزًا وقلة حيلة لأن الوزن قد ألجأها إلى ذلك، فلم تستطع أن تقول (وهجس الله في الكتف)؟! وهل يدري المتلقي أن الشاعرة قد ذهبت إلى المعاجم لتأتي بكلمة تنتهي بالفاء كي تستقيم لها القافية فوقعت على كلمة (الكُتُف) فراح خيالها القاصر يبحث عما يلائم تلك (الكتف) فلم تجد سوى (الهجس) في محاولة منها لصنع الإبهار المجازي، فأتت لنا بصورة في غاية القبح.
مثل تلكم المجازات يغلب عليها الصنعة والتكلف والاعتساف، وإن رحت تبحث عن الأثر الشعوري والنفسي الذي تتركه تلك المجازات فلن تحصل على أي أثر في نفسك، ولن تتمثل لك تلك الصور في معنى واضح المعالم.
ولأن النقاد باتوا منشغلين عن الشعر إلى نقد الرواية أوغَلَ أمثال هؤلاء الشعراء في التجريب والإغراب والاضطراب، فصِرْتَ تقع على صورة أو صورتين جيدتين في نص يعج بالصور الرديئة الغامضة، ولم تعد قصائدهم تشبه سيارة رمضان السكري التي فيها (كل حاجة سليمة) وإن كانت لا تترابط مع بقية أجزاء السيارة، بل صارت تشبه سيارة السُّكري بعد أن انفجرت الإطارات، واحترقت المقاعد، وانبعج الهيكل الخارجي، وتناثر الزجاج شظايا.
د. محروس بريك
إنّ اللُّهاث خلف كل طيف يعِنّ للشاعر دون إعمال الفكر والشعور وتوظيفه في إحكام البنية الكلية للنص، (لُهَاثٌ ينقطع به النَّفَس ولا تُدرك به الغاية) على حد تعبير شيخنا الدكتور سعد مصلوح. فصارت الصور والأخيلة مفرقة متناثرة لا يربطها رابط شعوري واحد، وصارت القصيدة مفككة متنافرة الأجزاء.
إن أكثر ما يعيب القصيدة المعاصرة افتقادها لذلك الترابط الفني الشعوري، فتأتي القصيدة كالثوب المرقّع، يصدق عليها قول حافظ إبراهيم: (فجاءت كثوبٍ ضمّ سبعين رُقعةً / مُشَكّلةَ الألوانِ مُختلِفاتِ)، وقد تنبه المبدع القديم إلى ذلك الضرب من الشعر فوصفه بأنه يشبه (بَعْر الكَبْش)، حيث قال أبو البيداء الرّياحي:
وشِعْرٍ كَبَعْر الكَبْشِ فرّقَ بينه لسانُ دَعِيٍّ في القريض دَخِيلِ
وتشبيه ذلك الشعر ببعر الكبش تشبيه في غاية الطرافة والدقة؛ إذ إن بعر الكبش (والبعر: روث الأغنام) يكون أكثر تفرقًا وتناثرًا من بعر الشاة، وفي ذلكم التشبيه إشارة خفية إلى أن الذوق العربي ينفر من ذلكم الشعر المفكك نفوره من رائحة بعر الكبش.
وفي هذا الإطار يورد الجاحظ في (البيان والتبيين) قول عمر بن لُجَأ لبعض الشعراء: «أنا أشعر منك، قال: وبم ذلك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه». ويفسر الجاحظ تلك المؤاخاة - في موضع آخر من كتابه- بقوله: «وجعْل البيت أخا البيت إذا أشبهه وكان حقه أن يوضع إلى جنبه».
إن حشد تلكم الصور المجازية المتنافرة أشبه بعمل الحُوَاة الذين يسحرون الأعين بباطلهم، فتعشى أعينُ المتلقين عما وراء تلك الصور من فقر فني على مستويَي الدوائر النصية، والدوائر فوق النصية؛ نحو: (التعانق المعجمي التركيبي lexico-grammatical)، (الأبنية الصرفية)، (المعاني البلاغية)، (السياقات الاتصالية communicative contexts)، (المعلومات فوق اللغوية Extra-linguistic)، (التناص Intertextuality) ...إلى غير ذلك.
وسأضرب هنا مثالاً واحدًا للتوضيح، على أن أعود في مقالات لاحقة إلى ضرب الأمثلة لكل مستوى من تلكم المستويات. فعلى مستوى الاستعارة metaphor وغيرها من أنواع التصوير المجازي other kinds of figurative utterances تشيع لدى أولئك الشعراء صور مجازية بعضها ساذج سطحي مبتذل وإن ادّعى مبدعوها العمق والشاعرية، وبعضها متناقض الأجزاء، وبعضها محاولة لإلباس المعنى السطحي مسوح الغموض، وبعضها أشبه بالمحال الذي لا تتكلم به العرب، والذي عرّفه سيبويه بقوله: "أن تَنقض أوَّلَ كلامك بآخِره"، ومثّل له بهذه الجمل الهرائية: (أتيتك غداً وسآتيك أمس)، و(سوف أشربُ ماءَ البحرِ أمسِ).
فعلى سبيل المثال تقول الشاعرة عائشة السيفي الفائزة بجائزة أمير الشعراء:
ما ضرّ لو أنك السرّ الذي انشطرَت منه النبوءاتُ، هَجْسُ اللهِ في الكُتُفِ
ولا أرى معنى لقولها (هَجْسُ اللهِ في الكُتُفِ) سوى أن يكون من كلام الجن، بل إن للجن كلامًا مفهومًا! ولأننا مضطرون آسفين إلى فك تلك الطلاسم فسأذهب لأستفتي ابن منظور ورفاقه من المعجميين الكبار، إذ الإضافة هنا إلى رب العزة، ولابد أن هناك معنى يخفى علينا إذن؛ يقول ابن منظور: "الهَجْسُ: ما وقع في خَلَدك، تقول: هجَسَ في قلبي هَمٌّ وأمرٌ، وهجَس في صدري شيء أي حدَسَ، والهَجْسُ: النَّبْأة تسمعها ولا تفهمها"، ويقول الفيروزآبادي: " هَجَسَ الشيءُ في صَدْرِهِ يَهْجِسُ: خَطَرَ بِبالِه، أو هو أن يُحَدِّثَ نفسَه في صَدْرِهِ مِثْلَ الوَسْواسِ". وفي المعجم الوسيط: "الهَجْس: الصوتُ الخفيُّ يُسمَع ولا يُفْهَم. والهَجْس: كلُّ ما يدور في النَّفس من الأَحاديث والأَفكار".
فلا يخفى على القارئ الأريب إذن أن معنى الهجس يدور بين أمرين؛ إما الصوت الخفي الذي نسمعه ولا نفهمه، وإما ما يدور في الصدر والنفس من هواجس وأحاديث وأفكار. فهل يليق إذن أن يضاف أي من المعنيين إلى رب العزة عز وجل؟! لا شك أن الشاعرة لا تدرك –للأسف الشديد- تلك المعاني المعجمية التي هي أدنى درجات المعرفة، ثم إذا افترضنا جدلا أن لتلك الإضافة معنى، فما معنى أن يكون هجس الله (في الكُتُف)؟!!
ويبدو أننا سندق باب ابن منظور ورفاقه للمرة الثانية في شطر واحد؛ يقول المعجميون: "كُتُف: جمع كَتِيف، والكتيف: صَفِيحَةٌ من حَدِيد ونَحْوِهِ تَكونُ في الإنَاء أو الباب"، وقد تجمع كتيف على (كِتاف)، و"الكِتاف: ما شُدَّ به من حَبْلٍ ونحوِه" أما (الكَتِف) بمعنى "العظم العريض خلف المَنْكِب" فلا تجمع على (كُتُف) بل على (أكتاف)، وإن سلمنا جدلا بجمعها على (كُتُف) فقد بدا لنا مدى الصنعة والتكلف واضطراب الصورة فضلا عن الجهل بما في الصورة من تجسيم للذات الإلهية؛ إذ إن محصلة تلك الصورة هي أن الله – عز وجل – يهجس بصوت خفي نسمعه ولا نفهمه، ثم إنه يهجس بذلك في عظام الكتف، وهذا يقتضي الكتابة على العظام لا الهجس الصوتي!!
ولا أدري هل تدري تلك الشاعرة ومن لفّ لفها من الشعراء أن البلاغيين يقولون إن من تعريفات البلاغة (معرفة الفصل من الوصل)، وأن تلك الجملة (هجس الله في الكتف) – التي أستغفر الله منها- كان حقها الوصل لا الفصل، لكنها أتت بها على تلكم الصورة عجزًا وقلة حيلة لأن الوزن قد ألجأها إلى ذلك، فلم تستطع أن تقول (وهجس الله في الكتف)؟! وهل يدري المتلقي أن الشاعرة قد ذهبت إلى المعاجم لتأتي بكلمة تنتهي بالفاء كي تستقيم لها القافية فوقعت على كلمة (الكُتُف) فراح خيالها القاصر يبحث عما يلائم تلك (الكتف) فلم تجد سوى (الهجس) في محاولة منها لصنع الإبهار المجازي، فأتت لنا بصورة في غاية القبح.
مثل تلكم المجازات يغلب عليها الصنعة والتكلف والاعتساف، وإن رحت تبحث عن الأثر الشعوري والنفسي الذي تتركه تلك المجازات فلن تحصل على أي أثر في نفسك، ولن تتمثل لك تلك الصور في معنى واضح المعالم.
ولأن النقاد باتوا منشغلين عن الشعر إلى نقد الرواية أوغَلَ أمثال هؤلاء الشعراء في التجريب والإغراب والاضطراب، فصِرْتَ تقع على صورة أو صورتين جيدتين في نص يعج بالصور الرديئة الغامضة، ولم تعد قصائدهم تشبه سيارة رمضان السكري التي فيها (كل حاجة سليمة) وإن كانت لا تترابط مع بقية أجزاء السيارة، بل صارت تشبه سيارة السُّكري بعد أن انفجرت الإطارات، واحترقت المقاعد، وانبعج الهيكل الخارجي، وتناثر الزجاج شظايا.
د. محروس بريك