محمد عبدالله الخولي - تجليات الروح وسيميائية الشعائر.. قراءة صوفية في ديوان "قمر" للشاعر/ عمرو فرج لطيف بقلم/ محمد عبدالله الخولي

إن القضية التي تشغل شاعرنا في جل أعماله- والتي طالعتها منذ أمد بعيد- هي قضية الحب الإلهي وما تشظّى عنها من تجليات تعتري قلب المريد؛ فيتبدل حاله ويسكن في عوالم الروح مرتقيا معاريج الجمال، محاولا الوصول، حيث لا وصول إلى هناك؛ ولذا تتجاذب الشاعر أحوال ورؤى، ويظل مشدوها تائها، يناظر قَمَرَه وتتراءى له صور التجلي على بحيرة الشعر المقدسة.
ولما كان القمر عند السادة الصوفية مظهرًا من مظاهر التجلي؛ تصدر عنوان الديوان "قمر" وأتت المفردة نكرةً لتتخافى في دهاليز التأويل الصوفي لتلك المفردة، التي تُوُسِّعَ في استخدامها، وأضحت رمزا صوفيا خالصًا متعاليا، يتجاوز بصوفيته معجميته وتاريخيته. ولم يكتفِ الشاعر بتنكير المفردة "قمر" والتي استلبها من مكمنها، وغرسها في فضاء عنواني غائم، تتراءى فيه المفردة العنوانية على محور الاستبدال دون محور التركيب.
وتلك المفردة "قمر" والتي احتلت مساحة العنوان كاملة- هي أول تقنية شعرية يتلقفها القارئ من أول مطالعة له للديوان، فالجنس الأدبي الأوحد الذي يسمح بهذه التقنية هو الشعر القائم في أساسه على عملية التهشيم سواء كان على محور الاستبدال أو محور التركيب، فالشعر يعطي المبدع مساحة من الحرية من خلالها، يسمح له بانتهاك اللغة، وإعادة بنائها مرة أخرى في أفق الشعرية. فالمفردة "قمر" والتي استطاعت بجدارة الشعرية أن تهيمن على العنوان وتحتله كاملا، وهي تؤدي دورها الوظيفي في التواصل بين الشاعر والمتلقي، وفي سياق آخر، وجنس أدبي مغاير لم تكن لتقدر تلك المفردة أن تؤدي دورها المنوط بها في عملية التواصل الأدبي، فانسحاب المفردة "قمر" بكينونتها الحالية هو تمام الشاعرية مع ما يعتريها من نقص تركيبي واضح، ونستطيع القول: أن هذا النقصان التركيبي هو تمام شعرية العنوان ويرى كمال أبو ديب " أن الشعرية تجسد في النص لشبكة من العلاقات تنمو بين مكونات أولية سمتها الأساسية أن كلا منها يمكن أن يقع في سياق آخر دون أن يكون شعريا، ولكنه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات وفي حركيته المتواشجة مع مكونات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها يتحول إلى فاعلية خلق للشعر ومؤشر على وجودها." فالعنوان الذي تجلى على صفحة الغلاف "قمر" هو أول مكون شعري تنبني تحته شبكة من العلاقات الشعرية، وهو أول اتصال شعري بين المبدع والمتلقي، وكأن العنوان بهذا الشكل يؤكد شعريته، ويحدد أفق اتصاله، ويعلن عن جنسه الأدبي متماهيا معه ومنتميا إليه.
ومثل هذه العنوانات الشعرية تتطلب متلقيًا حاذقا، يمتلك القدرة التي تمكنه من فهم النص وتفكيكه، وإعادة بنائه مرة أخرى؛ ليلتقي مع المبدع في أفق اتصالي واحد، ومن ثَمَّ تتجلى خوابي العنوان، ويستنطقه القارئ في فضاء شعري خالص، حيث يلتقي إدراك الشاعر مع وعي المتلقي في كون ثقافي مشترك يجمع بين وعيين: الأول، يعيد بناء العالم في فضاء النص وفق رؤيته للعالم. والثاني، يفكك بناء النص ليكتشف العالم من خلال الرؤية الذاتية للمبدع؛ ولذا ننبه دائما وأبدا على أن الشعر يتمايز على سائر الأجناس الأدبية بخصوصية البناء وفرادة التركيب، ولذا يتطلب متلقيا نوعيا يستطيع أن يخوض غمار النص؛ ليستكشف عوالمه، وهذا ما أشار إليه "الجرجاني" مشترطًا " أن يكون المتلقي حاذقًا حتى تكون له القدرة على كشف وتحديد الجهة التي تنبثق منها المزية وتعليلها وفقا لأسرار النظم في النص، لأن المتلقين ليسوا على درجة واحدة من المعرفة والإحساس لإدراك مواطن المحاسن والمزايا في النصوص." فديوان "قمر" للشاعر عمرو لطيف ابتدر أفق شاعرية نصه من الوهلة الأولى من خلال مطالعة العنوان الذي ينتمي بالكلية إلى أفق شعري خالص، ينجذب إليه المتلقي، ويصبح الرمز الشعري أول سمة يتمايز بها هذا الديوان، وهذا ما يكتشفه القارئ بنفسه عند مطالعة العنوان.
يبتدر " عمرو لطيف" ديوانه، ببيتين أظنهما ينطويان على ما يصبو إليه الشاعر في كل أعماله الشعرية، وإن كانا في الحقيقة ينطويان على خلاصة الشعر الصوفي و ما يرنوا إليه شعراء الحب الإلهي قديمًا وحديثًا. فيقول:
نحن العرايا، والذنوب لنا ثياب
الكاف نون، والحضور هو الغياب!
لغزٌ بماء الوصلِ بات مشفرا
ما فكَّ طلسمَ سره إلَّا الترابُ.
ينبني العرفان الصوفي على الحدس، ودائما ما يجنح الصوفية إلى المطلق المتربع على عرش الوجود، فلطائف العرفان الصوفي ورقائق التجربة الصوفية يتمايزان بالرمزية الموغلة في الإبهام والغموض، وهذا الغموض الذي ينتاب الرمز الشعري، ليس انتهاكًا للغة وحسب؛ لتتحقق مآرب الشعرية، بل عجز المريد عن التعبير عن تلك الرقائق والمشاهدات التي تعجز اللغة والوعي البشري عن التعبير عنها، أو إدراكها إدراكًا يمكن اللغة ذاتها من خوض تلك التجربة، إلا عن طريق الرمز الصوفي الخالص، الذي يتسامى عن مكنون الشعرية ذاتها، ليصبح بذلك الرمز الصوفي متعاليا بتجربة الذات ومشاهداتها عن الرمز الشعري، وهذا ما يضع الناقد أمام ثلاثة أنواع من الرموز يجب التعرف عليها قبل الخوض في عملية التأويل الصوفي لنص شعري كهذا، فاللغة بكل مستوياتها رموز يعبر بها عن العالم، ولذا أول مستوى رمزي ونعده المستوى الأول، هو الرمز اللغوي الخالص، الذي يحاول أن ينقل العالم الواقعي أو الموضوعي من خلال اللغة، واستنطاق الواقع من خلالها، والذي يسمح بهذا هو العرف الثقافي الذي يشترك فيه كل أطياف المجتمع. والثاني هو الرمز الشعري الخالص، والذي يقوم في أساسه على عملية الانتهاك اللغوي؛ لينتقل الرمز من لغويته الخالصة إلى أفق الشعرية، أما الثالث وهو محك الحديث هنا، هو الرمز الصوفي، الذي يبتعد فيه الدال/ الرمز عن مرموزه لدرجة الصفر أو ما يقرب منها، والسبب في ذلك هو رقي التجربة الصوفية عن سائر التجارب الأخرى، لأن التجربة الصوفية تتماهى تماهيا كليا مع المعاني الخالصة، والتي لا تنتمي بأي شكل من الأشكال مع المحسوسات الأرضية، وهنا تتجلى خصوصية الرمز الصوفي عن العلامة السيميائية بشكل عام، " فالعلامة إشارة حسية إلى واقعة أو موضوع مادي، بينما يبدو الرمز تعبيرا يومئ إلى معنى عام يعرف بالحدس... والرموز بمعناها الاصطلاحي الدقيق يتعذر ردها إلى علامات خالصة، إذ العلامات والرموز كما يقول " Cassirer" ينتميان لعالمين مختلفين "فالعلامة جزء من العالم الفيزيائي، والرمز بضعة من العالم الإنساني الخاص بالمعنى" وهذا ما ألمح إليه الدكتور/ عاطف جودة نصر في كتابه " الرمز الشعري عند الصوفية" وقد مهدت بما سبق عن الرمز الصوفي قبل الخوض في عملية التحليل السيميائي لهذين البيتين الرائعين اللذين استهل بهما الشاعر عمرو لطيف ديوانه" قمر" ليتعرف القارئ على نوعية الرمز الذي نحن بصدد تحليله.
" نحن العرايا" نحن تدل على العالم البشري برمته، فالضمير "نحن" استدخل الجنس البشري بكل طيوفه وأطيافه في المعنى المراد، وهو، العجز والضعف الذي نراه – نحن البشر- صفة ملازمة للإنسان؛ ليقابل هذا الضعف، القدرة الإلهية المطلقة، تلك القدرة التي تحمل الإنسان بضعفه وعجزه على أجنحة الرحمة الإلهية، فمخلوق بهذا الضعف يحتاج إلى قوة ربانية وقدرة إلهية، تحمله من غياهب ضعفه وجهله إلى مراقي الحنان الإلهي ومستودع الأمان الرباني، ولكي يرتقي الضعيف/ الإنسان هذه المراقي الحسان؛ يجب عليه أن يتعرَّى من كل حول له وقوة، ويقف أمام عتبات عز الذات الإلهية عاريا من كل شيء، ودائما ما يضع الصوفي نفسه موضع المساءلة والمحاسبة على قسطاس تجربته، فلا يجد لنفسه في هذا الكون شيئا يستتر به، سوى الذنوب، فيتخلى عن كل ما يتوهم أنه يمتلكه في هذا الكون، ويتعرَّى منه، ويقف على أبواب الحضرة وهو يرتدى عباءة الذنب، التي يستر بها نفسه، فهو في حالة تخلِّ كاملٍ إلا عن ذنوبه التي أتى بها ربه بعد رحلة خلافته في الأرض.
وبهذا التخلي والتجرد عن الذات والتماهي في تجربة الخلاص الروحي، يضع المريد نفسه في أرض التسليم للقدرة الإلهية المطلقة، يغيب عن ذاته، ينسلخ منها، يذوب في رعشة الخوف يتماهى في النور الساطع في أفق محراب التذلل، ليكون غياب الذات هو حضور فعلي للروح والسر الإلهي الساري في الكينونة الإنسانية، فكل غياب حضور، وكل حضور للذات غياب.
يعد البيت الثاني " لغز بماء الوصل بات مشفرا ..." ترجمة روحية متعالية للبيت الأول، وإن شئت فقل: هو زيادة تفصيل عما أجمل نوعا ما في البيت الأول، فاللغز المحير في التجربة الصوفية، هو طريقة الوصول، والتي تعددت في الكون بعدد أنفاس الخلائق، فلكل طريقته التي من خلالها يحاول التقرب من محاريب الجمال النوراني، وكل طريقة من هذه الطرائق تعتبر لغزا محيرا، لا تفك شفرته إلا " بماء الحب" ولا يتعرف المريد على مشربه الذي يمكنه من الوصول، إلا بفك شفرة ذاته، وهي التراب، والتراب بوصفه رمزا صوفيا يرمز إلى كثير من المعاني التي مهما تباينت، إلا أنها في النهاية تدور في فلك واحد، وهو التبصر والتعرف، الذي يشير إليه رب العزة في قوله : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون" فالمريد العارف لنفسه عارف لربه، فحقيقته الترابية التي تحمل في طياتها معاني متعددة كالرجوع والعودة والتذلل والخشوع والخضوع، هذه المعاني تفتح أمام الذات أفاقا أخرى متعالية تحمل في مكنونها معنى العودة والرجوع إلى خالق الأكوان ومبدعها، وتحمل معاني العزة والقدرة والإرادة الإلهية المطلقة في الكون، فلا وصول لشفرة الماء إلا بفك طلسم تراب ذاتك يا مريد.
البيتان السابقان واللذان استهل بهما عمرو لطيف ديوانه" قمر" يتمركز حولهما الديوان من بدايته حتى النهاية، فقد انقسمت قصائد الديوان إلى ثلاثة أقسام كما سنعرض لهذا التقسيم لا حقا- وكل قسم من أقسام الديوان يؤدي دوره الوظيفي الذي يخدم مركزية الديوان المتمثلة في البيتين اللذين ابتدر بهما عمرو لطيف ديوانه. وتوزعت قصائد الديوان على ثلاثة محاور رئيسة وهي:
- قصائد اتخذت من المناسك والشعائر الدينية مرتكزا وموضوعا لها.
- قصائد يقف بها الشاعر على عتبات الحضرة المحمدية وآل البيت عليهم السلام.
- قصائد يفضي الشاعر من خلالها عن مكنون تجربته الصوفية.
ونعرض أولا، لشعرية المناسك وتجلياتها الروحية، محاولين أن نستدخل تلك الشعائر/ المناسك في أفق التحليل السيميائي، لنتعرف على تلك المناسك من خلال تجربة صوفية صادقة. ويمثل هذا المحور مجموعة من القصائد وهي: " شعبان أقبل- رمضان شهر صومي- ليلة القدر1- ليلة القدر 2- رمضان ولَّى- للكعبة نور يهديني- البيت الحرام- لبيك قد لبيت لك- هنيئا لمن حجَّ بيت السلام- من نفحات الحج- يوم التروية- يوم عرفة- الروضة الشريفة- المدينة المنورة- الهجرة النبوية- القدس" لكل منسكٍ وشعيرةٍ دينيةٍ مستوياتٌ متعددة في تلقي فيضها الروحي، وتلقف معانيها، واستنطاق رقائقها، وفقه مراميها، واستنزال معانيها على مرآة مبانيها.
إن التجربة الصوفية تدخل الذات في عوالم إدراكها، فيتنبه المريد إلى معان لم تكن يوما تدور بخلده، إلا من خلال تلك التجربة التي تطلع الذات على الخوافي الروحية المستبطنة في الشعائر والمناسك الدينية، وهذا ما نلمحه في قول عمرو لطيف في قصيدته " شعبان أقبل":
وتقلَّبّ الوجه المعظمُ في السما
الله أكبر ما أجلَّ وأطهرا !
متبتلًا لله يدعو راجيا
نادى فلبَّاه الكريم بـ " قد نرى"
أن ولِّ وجهك شطره أي حيثما
كنتم فولوا نحوها أم القرى.
تقلُّبُ الوجه المعظم/ حضرة الجناب العالي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- في السما، معراجٌ روحي، فلكل وجه تقلبه حتى يهتدي بأمر ربه، كما اهتدى أعظم وجه في الوجود صلى الله عليه وسلم- فالتقلب الذي يدل دلالة قاطعة عن البحث بغية الوصول- يقابله النداءالإلهي " قد نرى" حالة من التواصل الروحي بين المنادِي والمنادَى، وقد رأينا كثيرا من الشعراء تعرضوا لهذا الشأن، ولكن تجربة عمرو لطيف الصوفية، غيرت نوعية المعالجة الشعرية، وسمت بها إلى أفاق بعيدة، تتجلى معها روحانية ليلة النصف من شعبان كشعيرة دينية، يتوجب علينا، ألا نقف عند حدها الظاهري، بل نتخطى هذا الشكل والغلاف الظاهري، إلى حقيقة التقلب في السماء، والبحث عن المحبوب، حتى يتجلى معراج قرب المريد في " قد نرى تقلب وجهك" وهذا ما نريد التنبيه عليه هنا، أن المنسك الديني يتحول في تجربة الشاعر الصوفي إلى رمز مغاير يعبر عن حقيقة مطلقة تحس ولا تمس، يتذوقها المريد ولكنه لا يعرف كنه حقيقتها، وهذا ما نلمحه أيضا في قصيدته "ليلة القدر"
بقدومها طاب الزمان وأشرقت
شمس الحقيقة في سماء سناها
يا ليلة الفيض المعظم قدرها
ببدائع الذكر الحكيم شذاها
يا ليلة نشر الإله فيوضها
وأحاط كل الكائنات رضاها.
ليلة القدر بوصفها موضوعا تمت معالجته شعريا قديما وحديثا، ويتمايز كل شاعر بطريقة تمثيله شعريا لتلك الليلة المعظمة، ولاسيما الشاعر الصوفي الذي تتجلى ليلة قدره عليه بتجليات لا يدركها شاعر سواه، فالتجربة الصوفية سلطة عليا تنطاع لها اللغة وينصاع لها الشعر. ولعلنا نلمح طريقة التمثيل الشعري لتلك الليلة في هذه القصيدة، التي تختلف أيما اختلاف عن طرائق التمثيل التي عالجت ليلة القدر باعتبارها موضوعا ومنسكا دينيا، ولكن عمرو لطيف أحدث خرقا متعمدا للغة، لتتجلى قيمة ليلة القدر الروحية، ويتمثل هذا الخرق في بزوغ الشمس ليلا وهذا مناف للحقيقة والعرف، وكأن شمس الحقيقة هنا صورة من صور التجلي على مرايا قلب الشعر، كما كان "قمر" تجليا شعريا آخرا على بحيرة قرب الذات، وجعل الليلة القدرية مصدرا ومحلا للفيض الإلهي الذي يحيط الكون بعظيم سناه.
• ويمثل المحور الثاني( عتبات الحضرة المحمدية وآل البيت عليهم السلام) مجموعة من القصائد منها " يا عترتي- يا رسول الله- أبو الحسن الشاذلي- الحسين- على باب الرسول- نفيسة العلوم- مسبحة الوداد" تمثل هذه القصائد المحور الثاني الذي يرتكز في مجمله على مناجاة الحضرة المحمدية والتعشق في العترة النبوية الشريفة المطهرة. في نص " مسبحة الوداد" والذي أراه نصا شعريا صوفيا بامتياز تجاوز فيه الشاعر حدود المحبة الظاهرية، وتماهى مع محبوبه تماهيا روحيا، سمح للشاعر أن يناظر مرائي الحضرة الأحمدية، ويغيب عنه فيها، ويدخل في حالة من السكر، شفعت له أن يستخدم الرمز الصوفي الغامض كتقنية شعرية روحية، يستطيع الشاعر من خلالها أن يعبر عن سكرته تلك، ومدرات روحه حول فلك الحضرة المحمدية، فيقول:
دخلت البيت منتعلا غيابي
وألثم حضرة الألق التثاما
أصلي ركعة التذكار وحدي
فيغدو الشعر مأموما إماما
وبي من قهوة الأفكار نزغ
يمزقني ويتركني حطاما
فأدنو للخيال على مجازي
فيلمع في رؤى علقي كلاما
وأفرك جلد مسبحتي بهمس
يؤجج في الحشى وجدا ضراما
وتلك مناقب المختار أحيت
بحور الشعر فانتشرت خزامى."
تتراءى الحضرة المحمدية ببهائها وجلالها بيتا، لتتجلى للمريد معاني السكنى والسكينة والأمان، تلك التجليات تغيب ذات المريد فتنمحي بالكلية، فيتحقق حضوره الروحي، حيث أمست نفس المريد نعالا تخلع على أعتاب حضرة الكمال المحمدي الأنور، فيلثم ألق النور، ويدخل في حان سكر القرب فلا يعرف كونه إماما أم مأموما، فغياب الذات يعني انمحاء الفكرة، وتشتت العقل، وتشرذم النفس، فيتلاشى كل ما يتعلق بالجوهر، وتبقى الروح جوهرة الله ونفسه الساري في الكون. فلا يبقى للتعبير عن الحقيقة سوى الخيال، الخيال الذي به ندرك الحقيقة، كما قال سيدي ابن عربي" لولا الخيال ما أدركنا الحقيقة" فلا يسعف الشاعر والمتلقي هنا إلا " اللا وعي المدرك" والأنا العليا الفرد التي تلامس حقيقة الكون عن طريق الحدس والشعور.
• أما المحور الثالث( التجرية الروحية وتجلياتها) هذا المحور احتل أكثر من نصف قصائد الديوان ومنها على سبيل المثال لا الحصر " عجلت إليك يا ربي- كتابة- في حضرة المحبوب- دموع العين- حقيقة- حديثك- ماء العشق- الله- أنا ظلها" إنَّ التجربةَ الصوفيةَ وتشكُّلها الإبدَاعِيُّ يضعُنَا في مأزقٍ حقيقيٍّ، فالإبداعُ بصورةٍ عامةٍ ينبوعٌ تفجِّره التجربةُ، ولكل تجربةٍ خصوصيةٌ، ولكل ذاتٍ وعيُهَا الذي ينبني عليه النصُّ الإبداعيُّ، ودخولُ القارئِ إلى عمقِ التجربةِ من خلالِ النصِّ مرتهنٌ بأيديولوجيا الواقع الذي تتقاسمه الذات المبدعةُ مع ذات المتلقي، فالقارئُ بوصفه ذاتًا فاعلةً في إنتاجِ النصِّ إبداعًا وتأويلًا؛ إذ يتمُّ استدعاء القارئِ الضمني حال إنتاج النصِّ من قِبَلِ المؤلفِ ليكونَ شريكًا له في تلك العمليةِ الإبداعيةِ، فالذات التي تخطُّ نفسَها ووعيَها، تخاطبُ ذواتًا أخرى، ولذا يستدعي المبدعُ القارئَ الضمنيَّ مُمَثِّلاً عامًا عن هذه الذواتِ؛ ولعل السببَ في ذلكَ يرجعُ إلى المبدعِ نفسِه، والذي يريد أن يضعَ القارئَ في صُلْبِ التجربةِ، ولذا يستخدمُ المبدعُ اللغةَ برمزيتِهَا والتي يستطيعُ القارئُ أنْ يفكَّ شفرتها من خلال المرجعيات الثقافيةِ والفكريةِ التي يتقاسمها مع الذوات الأخرى.
ولكنَّ التجربةَ الصوفيةَ ذاتَ خصوصيةٍ ومرجعية فكريةٍ خاصةٍ، لا يتعرَّفُ عليها إلّا مَنْ خاضَ تلكَ التجربةَ، وهنا تكمنُ الإشكاليةُ الكبرى في تأويلِ هذه النصوصِ التي تنتمي إلى الحقلِ الصوفيِّ. فالتصوفُ مبنيٌّ على الذوقِ واستشعار الحالِ التي تنتاب "المريد" ولا يعاني هذه الحالَ غيرُه، فهو وحده الذي يمتلكُ القدرةَ على التعبير عنها، وعن طريق الإشارةِ يكونُ التعبير؛ فالسادة الصوفيةُ اعتمدوا الرمزَ في جميع خطاباتِهم؛ نظراً لخصوصية التجربةِ وانبنائِها على الذوق الذي ينبثق عنه العرفان الصوفي، ومن هنا يجب النظرُ إلى "الدَّال" في النصِّ الصوفيِّ من بابِ التوسيع، إذ المفردة تحتمل دلالاتٍ ومعانيَ متعددةً، ولذا تتعدد تأويلاتُ النص أو المفردةِ الصوفيةِ.
اللغةُ الصوفيةُ لغةٌ متعاليةٌ تقتضي الحذرَ حالَ الولوجِ إليها، إذ تعدُّ اللغةُ الصوفيةُ بُعْدَاً ثالثًا للغة، يضعك هذا البُعدُ في عالمٍ خاصٍ متحررٍ من رِبْقَةِ المكان والزمان، عالم ميتافيزيقي له قانونه الخاص، يحتجبُ هذا العالمُ خلفَ برزخ تلك اللغة المتعالية التي يقول عنها "ياسبرز" في تحليله لها "أنها في نهاية الأمر تنتهي إلى تصورٍ خاص بتجلي المطلق في مظاهر متنوعة يكشف عنها الوعي الإنساني في إحالاته الخصبَةِ" فخصوصية التجربة الصوفية استدعت وبالضرورة- لغة متعاليةً لا تسلِّم نفسها للمتلقي إلا بمزيدٍ من الجهدِ والتأويل، وفي النهاية يكون تصورُ المتلقي للنص الصوفي تصوراً خاصا، وهذا ما نراه جليا في النص المدهش للشاعر عمرو لطيف " في حضرة المحبوب" والذي يقول فيه:
وأشرب كأسكم والروح راحي
وأفنى في محبتكم غراما
وأعرف أن قلبي يحتويكم
كنجم الليل يبدو مستهاما
جنى عشقي عليَّ ولست أنفي
ولا أخشى الكلام ولا الملاما
وأسجد في يقين القرب أحيا
وحظي مثل من صلى وصاما."

عنوان القصيدة/ في حضرة المحبوب، يشي بمكنونها، حال من الأنس يعتري المريد، يتجلى جوهر روحه على مرآة الحقيقة فلا يرى ذاتا ولا نفسا ولا وجودا له إلا في وجود محبوبه، فتحول حضرة القرب حاناً للمريد، وتحول روحه راحًا، ويتجلى النور على عرش القلب " وأعرف أن قلبي يحتويكم"، ينسلخ المريد من العالم الجسداني، ليحظى بقرب محبوبه، ويتجلى روحا وقلبا، كي يستطيع السجود في حضرة اللاهوت، متسام على ناسوته البشري، وهذا ما يطلق عليه السادة الصوفية " سجود العيان والقرب والمكاشفة." ويتجلى حديث المحبوب في حضرة قربه، فيسري مسرى الدم في العروق – وجل الله عن ذلك- فيقول عمرو لطيف في قصيدة " حديثك":
حديثك في دمي حسن صحيح
وقافيتي حديث ذو شجون
وروح الروح أنت وقلب قلبي
ولم يكن سواك ربى عيوني
تسكن موجة التحريك حتى
تحرك ما تبدى من سكوني
أحبك والغرام يطوف حولي
يردد باكيا صدق المتون
ولو أني جننت لما كفاني
فوجهك قبلتي، ورضاك ديني."
حالة من الترقي المستمر، مادام المريد/ الشاعر يواصل رحتله عبر معاريج تجربته الروحية، وخلوته التي تتجلى شعرا، ومتنا سرديا يحاول الشاعر من خلاله أن يومئ ولو من بعيد عن تلك الرقائق والمكاشفات الروحية، حتى يسري حديث الحضرة في دمه فيغيب بالكلية عن العالم، ولا يشعر بوجوده الناسوتي، ويبقى هناك معلقا كمصباح نوراني يتهادى بنسائم حضرة القرب الإلهي، ويرى روحه كعبة تطواف يدور الغرام حولها، مرتلا شعره، وساردا متن تجربته على عالم العشاق.
بعد رحلة التطواف في ديوان "قمر" للشاعر المبدع الصوفي عمرو لطيف، نستطيع القول أن الشعر الصوفي سيظل علامة مميزة بارزة في جبهة الأدب العالمي والعربي على حد سواء، وسيظل الشعراء ولاسيما الصوفيون منهم يتبارون في مضمار هذه الغنائية المقدسة، ولعل هذا ما يتميز به شعر المبدع عمرو لطيف، الغنائية المفرطة، والتي اعتبرها نتاج تجربته الروحية والشعرية، وهذا ما أباح لكثير من المنشدين التغني بشعر هذا الشاعر الراقي وعلى رأس هؤلاء الشيخ ياسين التهامي، وغيره من المنشدين ومبتهلي الإذاعة والتلفزيون، فليس كل شعر يصلح للإنشاد والغناء، إلا الشعر الذي يتربع على عرشية الغنائية المقدسة الروحية، وليس كل ما ينشد يلقى قبول الجمهور إلا شعرا كهذا، وأعني به الشعر الذي يجمع مبدعه ومتلقيه في عوالم حضرة الجمال، ولا يكون هذا إلا عبر تجربة صوفية صادقة، ولغة شعرية تتعالى ببهائها، بعد أن استوت على نار القرب، فأنضجت لوز المحبة، وخزامى الوصال، وياسمين الوصل، وقرنفل العشق السماوي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى