يعود اهتمامي بموضوع الأدب الشعبي والموروث الثقافي إلى نشأتي في بيئة شعبية، وبالدرجة الأولى إلى ما سمعته من حكايات تعد جزءا من موروثنا الشعبي الثقافي وخلاصة لتفاعلات الإنسان مع ظروف الحياة التي عاشها، والحقيقة أن الميثولوجيا المغربية والأمازيغية على حد السواء غنيتان بالحكايات التي تعكس ثقافتنا الضاربة في القدم، فالقصص التي عَلِقت بمخيلتي أصبحت خلفية أرى منها الأشياء وأتعامل مع الحياة انطلاقا منها، ولها الفضل في اهتمامي بهذا الجانب من الأدب والاشتغال عليه اليوم، إنّ ما روي على مسامعي من حكايات مثل: "سالف هاينة"، "حديدان والغول"، "رمانة وبرطال"، "وريقة الحنا"، "بغلة القبور"... إضافة إلى حكايات أمازيغية من تراثنا الشفهي الأمازيغي كحكاية "بابا إينوبا وابنته غريبة"، "حمو اونامير" الأسطورة التي عززت أن السماء في المخيال الأمازيغي القديم تأوي كائنات سامية كالآلهة والأرواح والحوريات... وعدة قصص أخرى، جعلتني أكرس وقتي وجُهدي للبحث والتنقيب بهذا الاتجاه .
وليست القصص وحدها ما يُشكل حائط الأدب الشعبي ويَبنيه، بل يُعتبر المسرح جزءا منه أيضا ومن الفنون التي توارثناها عن أجدادنا منذ عصور خلت كممارستهم لإحياء حفل "سلطان الطلبة" وهو نوع من فن البساط الذي أسس لظهور المسرح بالمغرب، أو كمزاولتهم للحلقة في الساحات والشوارع وهو نوع آخر من المسارح المغربية المفتوحة إلى يومنا هذا، ناهيك عن فن الشعر الذي توارثه الدكاليون والعبديون عن أجدادهم أو ما يسمى بفن "العيطة"، حتى داع صيت هذا الفن بالقبائل المجاورة لها كالشاوية والحوز، زعير والسهول وإلى وسط الساحل الأطلسي بالخصوص، كما وضح الكاتب حسن نجمي في كتابه غناء العيطة(1) . أما ما يجعل هذا الحائط متماسكا ويربط بين لبناته في نظري، هما الحِكَم والأمثال الشعبية التي نُضمّنها لكلامنا حتى نزيد من مصداقيته ولنضيف عليه طابع الحكمة، فيبقى السؤال المتأرجح بأذهاننا ما هي هذه الأمثال وما مصدرها؟
إن المثل الشعبي هو تعبير عن نتاج تجربة شعبية طويلة الأمد، أدت إلى عبرة وحكمة تُؤسس بناءً على هذه الخبرة، للحض على سلوك معين أو التحذير منه(2) . فالأمثال أمست لونًا أدبياً يلخص تجارب إنسانية تقص قصة موجزة، فتسهم في تكوين وجدان الناس وتتردد على ألسنتهم بشكل من المسؤولية التي تعتريهم تجاه هذا الفن للحفاظ عليه وحمايته من الاندثار، ويعد هذا المقال شكلا من أشكال حماية موروثنا الثقافي والمساهمة في نشره على أوسع نطاق ليتعرف شباب اليوم عن وعي شعبه وثقافته سابقًا.
ولست الأولى التي تتخذ من الأمثال الشعبية مادة للدراسة، ولا الأولى التي اتخذت سيدي عبدالرحمان المجذوب نموذجا، لكن اختياره لم يكن تلقائيا بل لكونه رائد الرباعيات(3) الشعرية بالمغرب والعالم العربي، وقد تحقق هذا الانتشار لسهولة رباعياته ولمعالجتها أهم الموضوعات الحياتية التي من بينها: التمييزُ العنصري بين الامازيغ والعرب، دورُ النساء بالمجتمع وعلاقته بهن، حياة اليُتم الصعبة ومواجهة تحديات الحياة، تَطرقُه لمواضيع سياسية كالفساد السلطوي وقمع حرية التعبير وانتشار الجوع والفقر وعدة مظالم اجتماعية أخرى ما جعل من رباعياته صالحة لكل زمان.
هو أبو زيد أبو محمد عبد الرحمن بن عياد بن يعقوب بن سلامة بن خشان الصنهاجي الأول ثم الفرج الدكالي، ومن هنا يتضح لنا بأنه لم يكن لديه نسب شريف لا من آل البيت ولا من نسله لكنه كان يحسب نفسه من الشرفاء وربما كان له نسب إلى الشرفاء التونسيين إذ يقول:
أصلي من تونس الخضراء
واللي عنده نسب يدور عليه
انا ولد فاطمة الزهراء
والكاذب لعنه الله عليه(4)
ولا نجد هذه الرباعية في كتاب قول المأثور من كلام الشيخ عبد الرحمن المجذوب، وهو كتاب أَرخ لحياته، كما لم نجد هذا الأمر مثبتاً من قبل العالمين بالأنساب المعروفة حتى إنني وجدت في احدى المواقع(5) رباعيةً لسيدي عبد الرحمن المجذوب صبّ خلالها غضبا صوب تونس مما يؤكد أن لا علاقة لأصله بها، فهجا قبيلة الفرافيش(6) وهي مجموعة عرقية شمال تونس، إذ قال وهو يهجو:
بر الفرافيش
الشيش بن شيش
كلامو اتنهتيش
وعمالوا تفرتيش(7)
وأضاف يهجو تونس في هذه السداسية بغليظ القول:
نوصي لمن باع داره
ودار دراهمه في مكتوبة
في البحر ركّب صغاره
السكندرية قريبة
ولا قعادك في تونس
كل يوم تسمع غريبة(8)
ولا ندري ما سبب هذا الغضب الذي يحمله المجذوب تجاه تونس، حتى إن هذه الرباعيات لم أجدها من مصادر موثوقة ككتب أحمد بن عجيبة(9) تلميذ المجذوب غير المباشر، أو عند عبد القادر التليدي أو غيرهم بل وجدتها وأنا أطّلع على بحثٍ بيبليوغرافي(10) تحت عنوان "الحكمة في الشعر الشعبي عند عبدالرحمن المجذوب نموذجا"(11)، إذ أحالتا صاحبتا البحث هذه الرباعية على أنهما أخذتاها من كتاب "الرباعيات المستوية إلى الشاعر الشعبي المغربي عبدالرحمن المجذوب" وهذا عنوان خاطئ، إذ لا يوجد كتاب بهذا الاسم بعد البحث المتواضع الذي أجريته، بل وجدت كتابًا بعنوان "قال المجذوب: الرباعيات المنسوبة إلى الشاعر الشعبي المغربي الولي الصالح الشيخ سيدي عبدالرحمن المجذوب" لصاحبه عبد الرحمن الرباحي لكنه لا يحتوي على هذه الرباعيات التي قدمتها الطالبتان أعلاه، وبالتالي لا يمكن تأكيد أي صفة على المجذوب خصوصاً قيمة الكره تجاه تونس، فيبقى دائما احتمال كبير أن تكون هذه الرباعيات نسبت إليه وليست له .(12)
إن التيه الذي نشعر به خلال تصفح رباعيات سيدي المجذوب تيه لا مخرج له إلا مخطوطات أو وثائق قديمة تُثبت نسبة الرباعيات له. إذ أن ما واجَهَنا كما لاحظتم غياب الملكية الفكرية أنذاك، إذ نسبت أشعار ذاك إلى هذا والعكس صحيح.
ويبقى السؤال المطروح متأرجحا في الوسط، إذا لم تكن الرباعيات للمجذوب، فلمن هي بالأساس؟ ولم تنسب له؟ وهل صاحبها حقيقي ينافس المجذوب؟ أم مجرد شخصية أسطورية ذاع صيتها؟
قد يكون قول "ابن عروس"، إذ كان يتكلم بكلام موزون عندما يعتريه الجذب ولكن بِلُغَة الأعوام وهو أشبه ما يكون برباعيات المجذوب، وتبعاً للرواية التونسية فالشيخ أحمد بن عبد الله بن عروس الهواري ولد بالقُطر التونسي وتجول بالجزائر والمغرب فوصل إلى فاس ومراكش ودخل مدينة سبتة وهي في يد النصارى، ثم رجع إلى تونس فمات بها سنة 886 هجرية(13) الموافقة لسنة 1463 ، وكما ذُكر في كتاب "رباعيات سيدي عبدالرحمن المجذوب" لميلود الشريف أن تاريخ وفاة ابن عروس كان حسب اجتهاد الشيخ عبد الكريم البرموني، فقال عنه، أنه مات بعد أن بلغ من العمر 115 سنة، أي أنه ازداد سنة 1780 كما يقول الباحثون.
أما عن أصله، يُقال إن ابن عروس هذا ليس بتونسي بل هو مصري مئة بالمئة، وأنه ازداد زمن حكم المماليك، ويرى الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي(14) شخصية ابن عروس أصلا أسطورية وليس لها وجود في الواقع، بل ابتكرها الناس وأنشدوا على لسانها ما رغبوا في إنشاده، كشخصية جحا التي لا نعرف أصلها، ويضيف الأبنودي أنه سمع عن ابن عروس هو أيضا في تونس أثناء جمعه للسيرة الهلالية.(15)
ثم ما يهمنا نحن من ابن عروس هذا هو علاقته بالمجذوب، فإذا كان هذا الرجل مجرد أسطورة ولم يكن شاعرا ولا مصريا فكيف انتشر هذا الفن الشعري المربع أو الرباعي في مصر خاصة في صعيدها؟
بَحَثَ عبدالرحمان الأبنودي عن شخصية ابن عروس طويلا، إذ وَجَدْتُ في إحدى مقالاته "يقول: سألت صديقي حسن ذنقل، ابن عم شاعرنا أمل ذنقل، هل سمعت برجلٍ شاعر مربعات اسمه أحمد بن عروس؟ أجاب بالنفي، ثم استطرد قائلا: سمعت اسمه أثناء شجارك مع بعضهم، ولكن لن تجد في صعيد مصر رجلا سمع بهذا الاسم، أو ورد ذكره في أمور المربع على الإطلاق"(16)، فأضاف كاتب المقال: "ثم يتوقف الأبنودي طويلًا عند اسم “عبدالرحمن المجذوب” فيقول : ينسب الرباعي في شمال إفريقيا ـ قاطبة ـ إلى الشيخ الزاهر ذي الكرامات والولي الصالح والشاعر الشعبي العظيم سيدي عبدالرحمن المجذوب، الاسم الأشهر بل ربما الوحيد في شمال افريقيا الذي يُنسب إليه (الرباعي) أو «المربع» كما نطلق عليه. لقد انتشرت مربعاته في الجزائر وتونس وليبيا بعد «المغرب» طبعا، بل راح البعض ينسج على منوال مربعاته، فنُسب إليه ما لم يقله حتى صار كل مربع يُذكر في تلك الأنحاء ينسب بصورة تلقائية إلى شيخنا وشاعرنا العظيم (المجذوب)"(17). وبالتالي نستنتج من خلال هذين النصين أن سيدي عبدالرحمان المجذوب هو صاحب فن الرباعيات، فتلقفه الصعيدي ووَجد في هذا القالب الشعري متنفسا للتعبير عن همومه، وما إن وصلتنا أشعارٌ على نفس الوزن الذي ينظم به المجذوب نسبناها إليه دونما بحث عمن أشعرها حتى اختلطت رباعياته برباعيات غيره.
الإحالات:
1- حسن نجمي، غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب 2007
2- غادة محمد سعيد، أزاهير من بستان الأمثال الشعبية، ط1 /2021 ص 5
3- الرباعيات هي مقطعات شعرية من صيغة الجمع للكلمة العربية رباعية، والتي تشير إلى قالب من قوالب الشعر الفارسي. يتألف كل منها من أربعة أبيات، تمتاز بوحدة الشكل والمضمون والعنوان تدور حول موضوع معين، وتكوّن فكرة تامة. وفيها إما أن تتفق قافية الشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تتفق جميع الشطور الأربعة في القافية.
4 ميلود الشريف، رباعيات سيدي عبد الرحمان المجذوب، دار الكتب العلمية ط1/ 2011
5- عبد الرحيم حزل ، سيدي عبد الرحمان المجذوب ، نشر/ 04-03-2010 (مقال إلكتروني)
6- هي قبيلة تونسية أمازيغية الأصل لعبت دورا هاما في منطقة السباسب.
7- المقال نفسه.
8- نفسه.
9- أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثاني عشر الهجري في المغرب له كتب كثيرة تزيد عن الأربعين مؤلفاً، منها: إيقاظ الهمم في شرح الحكم، الفتوحات الإلهية، وهو شرح على المباحث الأصلية.
10- المركز الجامعي العقيد آكلي محند أبو الحاج / البويرة، معهد اللغات و الأدب العربي قسم اللغة العربية و آدابها مذكرة تخرج لنيل شهادة الليسانس تحت إشراف الأستاذ بحري باشير 2010/2011
11- لطالبتان جزائريتان عكوش حياة و بوعلي فاطمة ص(31).
12- مصطفى وزاغ ، الكلام المكمول لسيدي امحمد البهلول (ديوان عزري العلوة) تد: سعيد يقطين ، منشورات الزمن / 2008 ص 83
13- نفس الصفحة.
14- عبد الرحمان الأبنودي شاعر مصري ويعد من أشهر شعراء الشعر العامي في العالم العربي شهدت معه وعلى يده القصيدة العامية مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها ولد عام 1938 كتب عدة أغاني للعديد من المطربين و الفنانين الكبار.
15- ميلود الشريف، رباعيات سيدي عبد الرحمان المجذوب، دار الكتب العلمية ط1/ 2011 ص28
16- حمدي عبد الرحيم ، إبن عروس قنبلة الأبنودي التي لم تنفجر/دار الكتب/2018 ، تناولته يوم 29 أبريل 2021 (مقال إلكتروني)
17- نفسه.
وليست القصص وحدها ما يُشكل حائط الأدب الشعبي ويَبنيه، بل يُعتبر المسرح جزءا منه أيضا ومن الفنون التي توارثناها عن أجدادنا منذ عصور خلت كممارستهم لإحياء حفل "سلطان الطلبة" وهو نوع من فن البساط الذي أسس لظهور المسرح بالمغرب، أو كمزاولتهم للحلقة في الساحات والشوارع وهو نوع آخر من المسارح المغربية المفتوحة إلى يومنا هذا، ناهيك عن فن الشعر الذي توارثه الدكاليون والعبديون عن أجدادهم أو ما يسمى بفن "العيطة"، حتى داع صيت هذا الفن بالقبائل المجاورة لها كالشاوية والحوز، زعير والسهول وإلى وسط الساحل الأطلسي بالخصوص، كما وضح الكاتب حسن نجمي في كتابه غناء العيطة(1) . أما ما يجعل هذا الحائط متماسكا ويربط بين لبناته في نظري، هما الحِكَم والأمثال الشعبية التي نُضمّنها لكلامنا حتى نزيد من مصداقيته ولنضيف عليه طابع الحكمة، فيبقى السؤال المتأرجح بأذهاننا ما هي هذه الأمثال وما مصدرها؟
إن المثل الشعبي هو تعبير عن نتاج تجربة شعبية طويلة الأمد، أدت إلى عبرة وحكمة تُؤسس بناءً على هذه الخبرة، للحض على سلوك معين أو التحذير منه(2) . فالأمثال أمست لونًا أدبياً يلخص تجارب إنسانية تقص قصة موجزة، فتسهم في تكوين وجدان الناس وتتردد على ألسنتهم بشكل من المسؤولية التي تعتريهم تجاه هذا الفن للحفاظ عليه وحمايته من الاندثار، ويعد هذا المقال شكلا من أشكال حماية موروثنا الثقافي والمساهمة في نشره على أوسع نطاق ليتعرف شباب اليوم عن وعي شعبه وثقافته سابقًا.
ولست الأولى التي تتخذ من الأمثال الشعبية مادة للدراسة، ولا الأولى التي اتخذت سيدي عبدالرحمان المجذوب نموذجا، لكن اختياره لم يكن تلقائيا بل لكونه رائد الرباعيات(3) الشعرية بالمغرب والعالم العربي، وقد تحقق هذا الانتشار لسهولة رباعياته ولمعالجتها أهم الموضوعات الحياتية التي من بينها: التمييزُ العنصري بين الامازيغ والعرب، دورُ النساء بالمجتمع وعلاقته بهن، حياة اليُتم الصعبة ومواجهة تحديات الحياة، تَطرقُه لمواضيع سياسية كالفساد السلطوي وقمع حرية التعبير وانتشار الجوع والفقر وعدة مظالم اجتماعية أخرى ما جعل من رباعياته صالحة لكل زمان.
هو أبو زيد أبو محمد عبد الرحمن بن عياد بن يعقوب بن سلامة بن خشان الصنهاجي الأول ثم الفرج الدكالي، ومن هنا يتضح لنا بأنه لم يكن لديه نسب شريف لا من آل البيت ولا من نسله لكنه كان يحسب نفسه من الشرفاء وربما كان له نسب إلى الشرفاء التونسيين إذ يقول:
أصلي من تونس الخضراء
واللي عنده نسب يدور عليه
انا ولد فاطمة الزهراء
والكاذب لعنه الله عليه(4)
ولا نجد هذه الرباعية في كتاب قول المأثور من كلام الشيخ عبد الرحمن المجذوب، وهو كتاب أَرخ لحياته، كما لم نجد هذا الأمر مثبتاً من قبل العالمين بالأنساب المعروفة حتى إنني وجدت في احدى المواقع(5) رباعيةً لسيدي عبد الرحمن المجذوب صبّ خلالها غضبا صوب تونس مما يؤكد أن لا علاقة لأصله بها، فهجا قبيلة الفرافيش(6) وهي مجموعة عرقية شمال تونس، إذ قال وهو يهجو:
بر الفرافيش
الشيش بن شيش
كلامو اتنهتيش
وعمالوا تفرتيش(7)
وأضاف يهجو تونس في هذه السداسية بغليظ القول:
نوصي لمن باع داره
ودار دراهمه في مكتوبة
في البحر ركّب صغاره
السكندرية قريبة
ولا قعادك في تونس
كل يوم تسمع غريبة(8)
ولا ندري ما سبب هذا الغضب الذي يحمله المجذوب تجاه تونس، حتى إن هذه الرباعيات لم أجدها من مصادر موثوقة ككتب أحمد بن عجيبة(9) تلميذ المجذوب غير المباشر، أو عند عبد القادر التليدي أو غيرهم بل وجدتها وأنا أطّلع على بحثٍ بيبليوغرافي(10) تحت عنوان "الحكمة في الشعر الشعبي عند عبدالرحمن المجذوب نموذجا"(11)، إذ أحالتا صاحبتا البحث هذه الرباعية على أنهما أخذتاها من كتاب "الرباعيات المستوية إلى الشاعر الشعبي المغربي عبدالرحمن المجذوب" وهذا عنوان خاطئ، إذ لا يوجد كتاب بهذا الاسم بعد البحث المتواضع الذي أجريته، بل وجدت كتابًا بعنوان "قال المجذوب: الرباعيات المنسوبة إلى الشاعر الشعبي المغربي الولي الصالح الشيخ سيدي عبدالرحمن المجذوب" لصاحبه عبد الرحمن الرباحي لكنه لا يحتوي على هذه الرباعيات التي قدمتها الطالبتان أعلاه، وبالتالي لا يمكن تأكيد أي صفة على المجذوب خصوصاً قيمة الكره تجاه تونس، فيبقى دائما احتمال كبير أن تكون هذه الرباعيات نسبت إليه وليست له .(12)
إن التيه الذي نشعر به خلال تصفح رباعيات سيدي المجذوب تيه لا مخرج له إلا مخطوطات أو وثائق قديمة تُثبت نسبة الرباعيات له. إذ أن ما واجَهَنا كما لاحظتم غياب الملكية الفكرية أنذاك، إذ نسبت أشعار ذاك إلى هذا والعكس صحيح.
ويبقى السؤال المطروح متأرجحا في الوسط، إذا لم تكن الرباعيات للمجذوب، فلمن هي بالأساس؟ ولم تنسب له؟ وهل صاحبها حقيقي ينافس المجذوب؟ أم مجرد شخصية أسطورية ذاع صيتها؟
قد يكون قول "ابن عروس"، إذ كان يتكلم بكلام موزون عندما يعتريه الجذب ولكن بِلُغَة الأعوام وهو أشبه ما يكون برباعيات المجذوب، وتبعاً للرواية التونسية فالشيخ أحمد بن عبد الله بن عروس الهواري ولد بالقُطر التونسي وتجول بالجزائر والمغرب فوصل إلى فاس ومراكش ودخل مدينة سبتة وهي في يد النصارى، ثم رجع إلى تونس فمات بها سنة 886 هجرية(13) الموافقة لسنة 1463 ، وكما ذُكر في كتاب "رباعيات سيدي عبدالرحمن المجذوب" لميلود الشريف أن تاريخ وفاة ابن عروس كان حسب اجتهاد الشيخ عبد الكريم البرموني، فقال عنه، أنه مات بعد أن بلغ من العمر 115 سنة، أي أنه ازداد سنة 1780 كما يقول الباحثون.
أما عن أصله، يُقال إن ابن عروس هذا ليس بتونسي بل هو مصري مئة بالمئة، وأنه ازداد زمن حكم المماليك، ويرى الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي(14) شخصية ابن عروس أصلا أسطورية وليس لها وجود في الواقع، بل ابتكرها الناس وأنشدوا على لسانها ما رغبوا في إنشاده، كشخصية جحا التي لا نعرف أصلها، ويضيف الأبنودي أنه سمع عن ابن عروس هو أيضا في تونس أثناء جمعه للسيرة الهلالية.(15)
ثم ما يهمنا نحن من ابن عروس هذا هو علاقته بالمجذوب، فإذا كان هذا الرجل مجرد أسطورة ولم يكن شاعرا ولا مصريا فكيف انتشر هذا الفن الشعري المربع أو الرباعي في مصر خاصة في صعيدها؟
بَحَثَ عبدالرحمان الأبنودي عن شخصية ابن عروس طويلا، إذ وَجَدْتُ في إحدى مقالاته "يقول: سألت صديقي حسن ذنقل، ابن عم شاعرنا أمل ذنقل، هل سمعت برجلٍ شاعر مربعات اسمه أحمد بن عروس؟ أجاب بالنفي، ثم استطرد قائلا: سمعت اسمه أثناء شجارك مع بعضهم، ولكن لن تجد في صعيد مصر رجلا سمع بهذا الاسم، أو ورد ذكره في أمور المربع على الإطلاق"(16)، فأضاف كاتب المقال: "ثم يتوقف الأبنودي طويلًا عند اسم “عبدالرحمن المجذوب” فيقول : ينسب الرباعي في شمال إفريقيا ـ قاطبة ـ إلى الشيخ الزاهر ذي الكرامات والولي الصالح والشاعر الشعبي العظيم سيدي عبدالرحمن المجذوب، الاسم الأشهر بل ربما الوحيد في شمال افريقيا الذي يُنسب إليه (الرباعي) أو «المربع» كما نطلق عليه. لقد انتشرت مربعاته في الجزائر وتونس وليبيا بعد «المغرب» طبعا، بل راح البعض ينسج على منوال مربعاته، فنُسب إليه ما لم يقله حتى صار كل مربع يُذكر في تلك الأنحاء ينسب بصورة تلقائية إلى شيخنا وشاعرنا العظيم (المجذوب)"(17). وبالتالي نستنتج من خلال هذين النصين أن سيدي عبدالرحمان المجذوب هو صاحب فن الرباعيات، فتلقفه الصعيدي ووَجد في هذا القالب الشعري متنفسا للتعبير عن همومه، وما إن وصلتنا أشعارٌ على نفس الوزن الذي ينظم به المجذوب نسبناها إليه دونما بحث عمن أشعرها حتى اختلطت رباعياته برباعيات غيره.
الإحالات:
1- حسن نجمي، غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب 2007
2- غادة محمد سعيد، أزاهير من بستان الأمثال الشعبية، ط1 /2021 ص 5
3- الرباعيات هي مقطعات شعرية من صيغة الجمع للكلمة العربية رباعية، والتي تشير إلى قالب من قوالب الشعر الفارسي. يتألف كل منها من أربعة أبيات، تمتاز بوحدة الشكل والمضمون والعنوان تدور حول موضوع معين، وتكوّن فكرة تامة. وفيها إما أن تتفق قافية الشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تتفق جميع الشطور الأربعة في القافية.
4 ميلود الشريف، رباعيات سيدي عبد الرحمان المجذوب، دار الكتب العلمية ط1/ 2011
5- عبد الرحيم حزل ، سيدي عبد الرحمان المجذوب ، نشر/ 04-03-2010 (مقال إلكتروني)
6- هي قبيلة تونسية أمازيغية الأصل لعبت دورا هاما في منطقة السباسب.
7- المقال نفسه.
8- نفسه.
9- أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثاني عشر الهجري في المغرب له كتب كثيرة تزيد عن الأربعين مؤلفاً، منها: إيقاظ الهمم في شرح الحكم، الفتوحات الإلهية، وهو شرح على المباحث الأصلية.
10- المركز الجامعي العقيد آكلي محند أبو الحاج / البويرة، معهد اللغات و الأدب العربي قسم اللغة العربية و آدابها مذكرة تخرج لنيل شهادة الليسانس تحت إشراف الأستاذ بحري باشير 2010/2011
11- لطالبتان جزائريتان عكوش حياة و بوعلي فاطمة ص(31).
12- مصطفى وزاغ ، الكلام المكمول لسيدي امحمد البهلول (ديوان عزري العلوة) تد: سعيد يقطين ، منشورات الزمن / 2008 ص 83
13- نفس الصفحة.
14- عبد الرحمان الأبنودي شاعر مصري ويعد من أشهر شعراء الشعر العامي في العالم العربي شهدت معه وعلى يده القصيدة العامية مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها ولد عام 1938 كتب عدة أغاني للعديد من المطربين و الفنانين الكبار.
15- ميلود الشريف، رباعيات سيدي عبد الرحمان المجذوب، دار الكتب العلمية ط1/ 2011 ص28
16- حمدي عبد الرحيم ، إبن عروس قنبلة الأبنودي التي لم تنفجر/دار الكتب/2018 ، تناولته يوم 29 أبريل 2021 (مقال إلكتروني)
ابن عروس .. قنبلة الأبنودي التي لم تنفجر (2 ـ 2 ) - أصوات أونلاين
في الجزء الأول من مقالنا هذا، رأينا كيف نسف الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي أسطورة ابن عروس، فالرجل لم يكن شاعرًا ولم يكن مصريًا، نعم قال بعض الشعر ولكنه لم يقل ما نسبوه إليه على مدار أجيال وأجيال. إذن من أين جاء المربع أو الرباعي، هذا الفن الشعري المنتشر في مصر خاصة صعيدها؟ يقرر الأبنودي …
aswatonline.com