عرفنا أنه ابن ناس من أول وهلة . بنظراته الواثقة ، ووجهه الخمري المستدير الذي لم تلوحه شمس بعد ، وبتلك الابتسامة العريضة التي استقبل بها خبر توزيعه على سلاح المشاة .
كنا على ثقة أنه لا يكذب علينا – في نوبات الراحة – حين يحدثنا عن أعمام له ، وأخوال يحملون رتبة اللواء أو العميد ، ويمكنهم بإشارة إصبع أن يوزعوه على أسلحة الخدمات التي لا مشقة فيها ولا تعب .
تأكدنا أن سراج مصطفى ، والذي سيصبح في الأيام التالية محامي المعسكر له مخ مختلف . لقد أراد أن يخدم بجد ، ورغم بكاء الأم ، وتوسلات الأب بالتوسط له عند أصحاب الأمر والنهي كي يتم توزيعه في وحدة مناسبة إلا أنه رفض رفضاً تاماً .
وها هو بيننا ، واحد منا وعلينا ، يضع يده في جيب سترته فتبرز علبة سجائر " الكنت " ، يعزم علينا عزومة مراكبية ، ويشعل سيجارته بكل ترفع وكبرياء .
وسراج مصطفى القرانفلي ، ابن الناس ، أخذ في أول يوم خدمة درساً لن ينساه ، عندما سأله الأومباشى عويضة عن مؤهله ، فرد بثقة بانت في نبرات صوته : ليسانس حقوق . . يا أفندم .
لحظتها ارتبك الأومباشى ، لعلها ثوان قليلة ، وانطلق كالمدفع " المتريوز " مهاجماً العسكري المستجد : عليك أن تدفن شهادتك هذه في أقرب حفرة . وانس الليسانس ، وإلا ستتعب .
وجعله يتحرك خطوة للأمام ، ويقلع طاقية الرأس ، ويختبر صلابته بأن ضربه في كتفه ضربتين قويتين ، وسأله على الفور : بماذا شعرت ؟ ، على الفور رد المحامي سراج : لا شيء يا أفندم .
وقبل أن يكمل جملته جاءته اللكمة في بطنه مفاجئة ، قوية ، ولقد حاول العسكري المستجد امتصاص الصدمة ، لكن تقلصات الوجه فضحت ألمه الذي أخفاه في حشرجة مكتومة .
أمره بالرجوع للصف ، واستمر طابور التدريب الأولي : صفا . . انتباه . . الخطوة المعتادة ، للخلف در ، استرح . والشمس تصب حممها ، اقترب أومباشى آخر لم نكن نعرف اسمه ، لكن قسمات وجهه ، وطريقته في الحديث دلت على أنه متطوع ، استلم الطابور بعد راحة خمس دقائق ، وهمس الأومباشى عويضة في أذنه . وهو – بدوره – لم يكذب خبراً فجأر صوته في الخلاء : سريعاً جري ، مع الوثب لأعلى .
وانطلقنا في جري دائري حول وتد خشبي تم دقه في ساحة التدريب ، والكل يلهث ، وينساب العرق خيوطاً ، تنحدر تجاه العينين ، فنتألم من الملوحة ، ونهمهم : كفى . . يا أفندم .
والأومباشى المتطوع لا يكفيه إلا أن نطب ساكتين ، وقد صعّب الأمر علينا بأن جعلنا نصعد التبة الصناعية ونهبط مرات ومرات ، وعساكر منا تتساقط ، وهو يجذبها بعنف ، ويدفعها للطابور من جديد ، حتى تقطعت أنفاسنا ، وامتقعت وجوهنا .
نظرت للعسكري سراج ، كان يغالب ألمه ، والعرق يصنع دائرتين واسعتين تحت الإبطين . وجاء الأمر صارماً كالسيف : قف . . لليمين حذا . .
لحظات التقاط الأنفاس . انتظرنا الأمر استرح لنمسح بالمناديل الكاكية عرقنا دون جدوى . خبط الأومباشى المتطوع سراجاً في كتفه : ما هذا البلل
لم يرد المحامي المنخرط في الخدمة حديثاً ، فالسكوت في الجيش من ذهب .
ونظر إلى البنطلون الواسع الفضفاض ، كانت هناك خيوط لا تكاد تبين من عرق : هل عملتها على نفسك ي عسكري ؟
تقدم سراج خطوة للأمام ، ونطق بقوة : أنا متظلم . . ما يجري هنا ضد أبسط حقوق الإنسان .
شخر الأومباشى ونخر ، وأطلقها كالقذيفة : نعم ، يا روح أمك .
ثم بدأ الأمر بالزحف الثعباني ، والأرض قطع من حصى ، لها سخونة لا تطاق . ولم يجد سراج مصطفى القرانفلي مفراً من تنفيذ الأوامر بكل دقة
وبعد انتهاء طابور الزحف ، سأله الأومباشى المتطوع : ما شعورك الآن ؟
تأمله العسكري من قدميه إلى أعلى الرأس بنظرة كلها غل وأسى ممتزجين : شعوري أنك جاهل!!
ضج الموقع كله بالضحك ، حتى أن بعضنا ضرب كفاً بكف ، فقد كانت ملاحظته صائبة ، وعرفنا فيما بعد أن الأومباشى الذي يكدر سراج ، ما هو إلا راسب إعدادية .
توقف الهرج والمرج حين جاء الأومباشى عويضة واستلم الطابور ، وشكر الأومباشى المتطوع : شكراً يا أومباشى فؤاد .
كان الأومباشى فؤاد المنصوري – وهذا اسمه الذي عرفناه فيما بعد – يمضي نحو " الكانتين " ساحباً خجله خلفه ، وكانت الهمهمات المكتومة تعلو ، وتنخفض طيلة الربع ساعة المتبقية من طابور التدريب .
وقت الراحة تحلقنا في مرح صاخب حول العسكري سراج ، المحامي الذي يتحدث عن حقوق الإنسان . غمز لطفي فرو بعينه الحولاء ، وهو يسأله : أتدافع عن نفسك أم عنا ؟
بنبرات صادقة ، لا اصطناع فيها : أنا مثلكم .
خبطه توفيق مصيلحي الأهبل في كتفه بمودة : أصيل يا ولد . اعطني سيجارة " كنت " .
في لحظة لم تبق في العلبة إلا ورقة السلوفان المفضضة ، فطوى العلبة ، فركها في يده ، اتجه نحوي : الجيش هذا . فيه من الحياة كثير . لا يمكنك تفصل بين النبيل الرفيع ، وبين الدنيء الوضيع . فيه معاناة وتعب ، لكن له قانونه . عليك أن تفهمه . ستخسر كثيراً إن فرضت عليه شروطك .
شردنا جميعاً ،وصاح فيه العسكري صبري الأرناؤوطي : أهي مرافعة يا أستاذ ؟
عاد الضحك من القلب ، وعمنا صفاء نقي ، غسل أرواحنا المجهدة .
بعد أسبوع واحد ، زارت الكتيبة سيارة جيب ، ارتج لها المعسكر كله ، ونزل منها ضباط كبار ، بشارات أركان حرب الحمراء المثلثة على طرفي الياقة ، ودوىّ صوت البروجي ، وتم جمعنا في غير وقت طوابير التدريب . واهتم الصولات بالزي ، ونظافة الخيام ، ورفع علم جديد على سارية ساحة التدريب الأساسية .
وجاء الضابط أنور عدواً ، وهو يسأل : أين الباشا سراج مصطفى ؟ ضحكنا جميعاً للفظ " الباشا " . تقدم من العسكري ، وهو يسأله في ود كذوب لا يخفى على عاقل : مبسوط يا سراج ؟
هز العسكري سراج رأسه ، فلم يعرف الإجابة بالضبط . إلا أنه أخذه من الصف ، وهمس في أذن الأومباشى عويضة : يبدو أننا ستأخذنا داهية .
وفي خيمة القائد ، جلس سراج مصطفى مع أقاربه ، قدموا له لفائف طعام وحلوى ، وقروصة سجائر " كنت " ، وسأله قريب له عن الحال ، فرد على الفور : هي تجربة .
نظر إليه عمه اللواء ، وهو يختبر عناده : أننقلك إلى السرية الطبية لتكون قريباً منا ؟
تجهم العسكري مصطفى ، ونسي الرتبة التي يتحدث معها : قلت أنني مستريح هنا .
تنفس القائد في راحة ، وجاءت زجاجات المياه الغازية ، ودارت على الرتب ذات الياقات الحمراء . والغريب أن العسكري سراج ظل واقفاً كالألف عند باب الخيمة التي تدور المروحة في سقفها ، والتي يشغل الركن الأيسر جهاز تليفزيون . حتى أنه رفض زجاجة المياه الغازية .
وحين أوشكت الزيارة على الانتهاء ، قال خاله المقدم : أنت تعرف تليفون كل منا ، حدثنا عند أي مشكلة .
قال لهم ، وهو يستدير عائداً إلى الطابور : لا مشاكل لديّ . . المشكلة عندكم في الجيش نفسه .
وقد ركبوا سيارة الجيب الأنيقة ، وهم يتابعون سيره إلى الجمع المصطف ، ولم يدهشهم حديثه ، فقد كانوا يعرفون أنه متمرد بطبعه . لكن لديهم إحساس لا يخيب في أنه سيعرف الكثير من أمور الحياة في هذا المكان الموحش ، المنقوع في الخلاء .
* من مجموعته : شمال .. يمين ـ سلسلة كتاب ( موجة ) ـ القسم الأول
كنا على ثقة أنه لا يكذب علينا – في نوبات الراحة – حين يحدثنا عن أعمام له ، وأخوال يحملون رتبة اللواء أو العميد ، ويمكنهم بإشارة إصبع أن يوزعوه على أسلحة الخدمات التي لا مشقة فيها ولا تعب .
تأكدنا أن سراج مصطفى ، والذي سيصبح في الأيام التالية محامي المعسكر له مخ مختلف . لقد أراد أن يخدم بجد ، ورغم بكاء الأم ، وتوسلات الأب بالتوسط له عند أصحاب الأمر والنهي كي يتم توزيعه في وحدة مناسبة إلا أنه رفض رفضاً تاماً .
وها هو بيننا ، واحد منا وعلينا ، يضع يده في جيب سترته فتبرز علبة سجائر " الكنت " ، يعزم علينا عزومة مراكبية ، ويشعل سيجارته بكل ترفع وكبرياء .
وسراج مصطفى القرانفلي ، ابن الناس ، أخذ في أول يوم خدمة درساً لن ينساه ، عندما سأله الأومباشى عويضة عن مؤهله ، فرد بثقة بانت في نبرات صوته : ليسانس حقوق . . يا أفندم .
لحظتها ارتبك الأومباشى ، لعلها ثوان قليلة ، وانطلق كالمدفع " المتريوز " مهاجماً العسكري المستجد : عليك أن تدفن شهادتك هذه في أقرب حفرة . وانس الليسانس ، وإلا ستتعب .
وجعله يتحرك خطوة للأمام ، ويقلع طاقية الرأس ، ويختبر صلابته بأن ضربه في كتفه ضربتين قويتين ، وسأله على الفور : بماذا شعرت ؟ ، على الفور رد المحامي سراج : لا شيء يا أفندم .
وقبل أن يكمل جملته جاءته اللكمة في بطنه مفاجئة ، قوية ، ولقد حاول العسكري المستجد امتصاص الصدمة ، لكن تقلصات الوجه فضحت ألمه الذي أخفاه في حشرجة مكتومة .
أمره بالرجوع للصف ، واستمر طابور التدريب الأولي : صفا . . انتباه . . الخطوة المعتادة ، للخلف در ، استرح . والشمس تصب حممها ، اقترب أومباشى آخر لم نكن نعرف اسمه ، لكن قسمات وجهه ، وطريقته في الحديث دلت على أنه متطوع ، استلم الطابور بعد راحة خمس دقائق ، وهمس الأومباشى عويضة في أذنه . وهو – بدوره – لم يكذب خبراً فجأر صوته في الخلاء : سريعاً جري ، مع الوثب لأعلى .
وانطلقنا في جري دائري حول وتد خشبي تم دقه في ساحة التدريب ، والكل يلهث ، وينساب العرق خيوطاً ، تنحدر تجاه العينين ، فنتألم من الملوحة ، ونهمهم : كفى . . يا أفندم .
والأومباشى المتطوع لا يكفيه إلا أن نطب ساكتين ، وقد صعّب الأمر علينا بأن جعلنا نصعد التبة الصناعية ونهبط مرات ومرات ، وعساكر منا تتساقط ، وهو يجذبها بعنف ، ويدفعها للطابور من جديد ، حتى تقطعت أنفاسنا ، وامتقعت وجوهنا .
نظرت للعسكري سراج ، كان يغالب ألمه ، والعرق يصنع دائرتين واسعتين تحت الإبطين . وجاء الأمر صارماً كالسيف : قف . . لليمين حذا . .
لحظات التقاط الأنفاس . انتظرنا الأمر استرح لنمسح بالمناديل الكاكية عرقنا دون جدوى . خبط الأومباشى المتطوع سراجاً في كتفه : ما هذا البلل
لم يرد المحامي المنخرط في الخدمة حديثاً ، فالسكوت في الجيش من ذهب .
ونظر إلى البنطلون الواسع الفضفاض ، كانت هناك خيوط لا تكاد تبين من عرق : هل عملتها على نفسك ي عسكري ؟
تقدم سراج خطوة للأمام ، ونطق بقوة : أنا متظلم . . ما يجري هنا ضد أبسط حقوق الإنسان .
شخر الأومباشى ونخر ، وأطلقها كالقذيفة : نعم ، يا روح أمك .
ثم بدأ الأمر بالزحف الثعباني ، والأرض قطع من حصى ، لها سخونة لا تطاق . ولم يجد سراج مصطفى القرانفلي مفراً من تنفيذ الأوامر بكل دقة
وبعد انتهاء طابور الزحف ، سأله الأومباشى المتطوع : ما شعورك الآن ؟
تأمله العسكري من قدميه إلى أعلى الرأس بنظرة كلها غل وأسى ممتزجين : شعوري أنك جاهل!!
ضج الموقع كله بالضحك ، حتى أن بعضنا ضرب كفاً بكف ، فقد كانت ملاحظته صائبة ، وعرفنا فيما بعد أن الأومباشى الذي يكدر سراج ، ما هو إلا راسب إعدادية .
توقف الهرج والمرج حين جاء الأومباشى عويضة واستلم الطابور ، وشكر الأومباشى المتطوع : شكراً يا أومباشى فؤاد .
كان الأومباشى فؤاد المنصوري – وهذا اسمه الذي عرفناه فيما بعد – يمضي نحو " الكانتين " ساحباً خجله خلفه ، وكانت الهمهمات المكتومة تعلو ، وتنخفض طيلة الربع ساعة المتبقية من طابور التدريب .
وقت الراحة تحلقنا في مرح صاخب حول العسكري سراج ، المحامي الذي يتحدث عن حقوق الإنسان . غمز لطفي فرو بعينه الحولاء ، وهو يسأله : أتدافع عن نفسك أم عنا ؟
بنبرات صادقة ، لا اصطناع فيها : أنا مثلكم .
خبطه توفيق مصيلحي الأهبل في كتفه بمودة : أصيل يا ولد . اعطني سيجارة " كنت " .
في لحظة لم تبق في العلبة إلا ورقة السلوفان المفضضة ، فطوى العلبة ، فركها في يده ، اتجه نحوي : الجيش هذا . فيه من الحياة كثير . لا يمكنك تفصل بين النبيل الرفيع ، وبين الدنيء الوضيع . فيه معاناة وتعب ، لكن له قانونه . عليك أن تفهمه . ستخسر كثيراً إن فرضت عليه شروطك .
شردنا جميعاً ،وصاح فيه العسكري صبري الأرناؤوطي : أهي مرافعة يا أستاذ ؟
عاد الضحك من القلب ، وعمنا صفاء نقي ، غسل أرواحنا المجهدة .
بعد أسبوع واحد ، زارت الكتيبة سيارة جيب ، ارتج لها المعسكر كله ، ونزل منها ضباط كبار ، بشارات أركان حرب الحمراء المثلثة على طرفي الياقة ، ودوىّ صوت البروجي ، وتم جمعنا في غير وقت طوابير التدريب . واهتم الصولات بالزي ، ونظافة الخيام ، ورفع علم جديد على سارية ساحة التدريب الأساسية .
وجاء الضابط أنور عدواً ، وهو يسأل : أين الباشا سراج مصطفى ؟ ضحكنا جميعاً للفظ " الباشا " . تقدم من العسكري ، وهو يسأله في ود كذوب لا يخفى على عاقل : مبسوط يا سراج ؟
هز العسكري سراج رأسه ، فلم يعرف الإجابة بالضبط . إلا أنه أخذه من الصف ، وهمس في أذن الأومباشى عويضة : يبدو أننا ستأخذنا داهية .
وفي خيمة القائد ، جلس سراج مصطفى مع أقاربه ، قدموا له لفائف طعام وحلوى ، وقروصة سجائر " كنت " ، وسأله قريب له عن الحال ، فرد على الفور : هي تجربة .
نظر إليه عمه اللواء ، وهو يختبر عناده : أننقلك إلى السرية الطبية لتكون قريباً منا ؟
تجهم العسكري مصطفى ، ونسي الرتبة التي يتحدث معها : قلت أنني مستريح هنا .
تنفس القائد في راحة ، وجاءت زجاجات المياه الغازية ، ودارت على الرتب ذات الياقات الحمراء . والغريب أن العسكري سراج ظل واقفاً كالألف عند باب الخيمة التي تدور المروحة في سقفها ، والتي يشغل الركن الأيسر جهاز تليفزيون . حتى أنه رفض زجاجة المياه الغازية .
وحين أوشكت الزيارة على الانتهاء ، قال خاله المقدم : أنت تعرف تليفون كل منا ، حدثنا عند أي مشكلة .
قال لهم ، وهو يستدير عائداً إلى الطابور : لا مشاكل لديّ . . المشكلة عندكم في الجيش نفسه .
وقد ركبوا سيارة الجيب الأنيقة ، وهم يتابعون سيره إلى الجمع المصطف ، ولم يدهشهم حديثه ، فقد كانوا يعرفون أنه متمرد بطبعه . لكن لديهم إحساس لا يخيب في أنه سيعرف الكثير من أمور الحياة في هذا المكان الموحش ، المنقوع في الخلاء .
* من مجموعته : شمال .. يمين ـ سلسلة كتاب ( موجة ) ـ القسم الأول