خالد جهاد - راشيل كوري.. العين التي قاومت المخرز

بعيداً عن عدسات المصورين ومايكروفونات المؤسسات الإعلامية لا يرى الكثيرون أن للمرأة دوراً هاماً قادراً على صنع الكثير أو الإضافة إلى المشهد أو إحداث أي تغييرٍ حقيقي أو لفت الأنظار تجاه قضية نبيلة، فيعزون ذلك إلى حججٍ واهية أو إلى (تفسيرهم الخاص) للأديان التي لا علاقة لها به أو بخبراتهم الشخصية أو نقص معلوماتهم عنها أو قلة إطلاعهم على مضمونها أو انتقائية واجتزاء نصوصها عمداً لتوافق رؤيتهم أو (عقدتهم) أو هوىً في نفسهم أو تتفق مع مصلحةٍ ما أياً كانت، بينما هم يخفون تقديسهم لعادات وتقاليد ومخاوف اختاروا أن تحل محل المنطق والعقل والطبيعة والفطرة وحتى الدين الذي (يختارون منه ما يريدون)، فيخشون تغييرها أو حتى نقدها لهشاشتها وعدم قدرتها على المواجهة والإستمرارية، ولأنها أيضاً تعفيهم من الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تترصدهم كالسهام، خاصةً عندما تفاجأهم بعض السيدات بمواقف واضحة مصيرية وجريئة تضعهم وتضع (رجولتهم) في حرج بعد تخليهم عن دورهم الذي يفترض أن يقوموا به حتى بعد أن يغيبهن الموت، فنرى قوتهن وتأثيرهن الحقيقي حتى في صورهن الباسمة التي بقيت منهن كتذكار ونلحظ خوف البعض منها حتى وهي مجرد صورة، ربما لأن الأفعال أبلغ من الأقوال والنهايات أصدق من البدايات كالشهيدة الراحلة راشيل كوري التي حلت ذكرى اغتيالها العشرين قبل يومين في السادس عشر من آذار مارس ككل عام..

ولدت راشيل كوري التي عاشت ورحلت كزهرة في العاشر من نيسان/ أبريل عام ١٩٧٩ في أولمبيا بولاية واشنطن الأميريكية، وقامت بعد إنهاء المرحلة الثانوية بدراسة عددٍ من الفنون التي ساهمت إلى جانب رهافة حسها ومشاعرها الإنسانية المتدفقة في رؤيتها للحياة من منظورٍ آخر، كما عززته مهنتها ككاتبة لها تجاربها الشخصية وزياراتها المستمرة أسبوعياً للمرضى العقليين على مدار ثلاثة سنوات، والتي جعلت قلبها يضيق بحدود مجتمعها لتسافر به كمتضامنة وصاحبة قضية إلى فلسطين المحتلة وتقوم بدورها كناشطة سلام على أكمل وجه.. فعاشت بين الفلسطينيين وعايشت آلامهم ونقلتها بكل أمانة إلى كل من عرفتهم، وكانت واحدة منهم حرفياً بعيداً عن التعبيرات المجازية التي تغلب عليها لغة العواطف، وكتبت في رسالتها الأخيرة إلى عائلتها التي كانت تطلعها على كل ما يحدث معها أولاً بأول (اعتقد أن أي عمل أكاديمي أو أي قراءة أو أي مشاركة بمؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات، لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك ستفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي)..

كانت راشيل مؤمنةً بما تقوم به وتدافع عنه ودفعت حياتها ثمناً لهذا الإيمان وهي صاحبة مقولة (إذا كان الظلم منا.. فأنا لست منا) في إشارة إلى العديد من النقاط كونها مواطنة أميريكية يهودية غير راضية عن انحياز حكومة بلادها إلى جانب الكيان الصهيوني الذي يعتبر البعض بسذاجة أنها ستكون تابعةً له تبعاً لديانتها.. فقاومت كل هذا عندما حاولت اعتراض جرافةٍ صهيونية ومنعها من هدم أحد منازل الفلسطينيين، فدهستها ومرت مرتين فوق جسدها الذي ادعى جيش الإحتلال كعادته عدم رؤيته لها رغم ارتدائها للسترة البرتقالية التي تشير إلى هويتها كناشطة سلام دولية وألقى باللائمة عليها لأنها (عرضت نفسها للخطر)، فرحلت ناشطة السلام دون أي محاسبةٍ لمن اغتالوها حتى الآن لكن ذكراها وصورها وقصتها لا زالت حاضرةً بين الناس وخالدةً في أذهانهم، كما تمت تسمية شارعٍ بإسمها في مدينة رام الله الفلسطينية المحتلة، رحلت جسداً وظلت روحاً ترفرف في سماء فلسطين البلد التي أحبتها ودافعت عنها وستظل أرضها التي ارتوت بدمائها تذكرها.. هي من كانت عيناً قاومت المخرز واستحقت أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه كامرأةٍ سمت فوق كل التصنيفات والأفكار وانتصرت لصوت الضمير بداخلها عابرةً كل الحدود نحو عالمٍ يؤمن بالحق والخير والإنسانية كما آمنت بها..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى