عبدالمحسن يوسف - عندما «يثأر» أدونيس من «الأموات»

الحوار الطويل الذي أجراه الشاعر عبده وازن مع الشاعر أدونيس ونشرته «الحياة» في خمس حلقات دسمة، يستحق الكثير من الإضاءات والنقاشات حوله لأنه اشتمل على الكثير من النقاط التي لابد أنها أثارت الكثير من الأسئلة ، خصوصًا أن أدونيس لم يوفر أحدًا من تلك الرموز الشعرية المهمة - تحديدًا - ومعظمهم رحل عن عالمنا ولا يستطيع الدفاع عن نفسه أو عن تجربته.. في هذا الحوار يشبه أدونيس أولئك الذين تناولهم ضمن من تناولهم بسياطه الفادحة: البياتي والماغوط ونزار قباني، فهؤلاء الثلاثة تحديدًا كانوا يرشقون زملاءهم في حركة الحداثة الشعرية بالكثير من الحجارة و مفردات الهجاء...
فهل وقع أدونيس في الفخ نفسه مدفوعًا بهاجس ما يسميه النقد الصريح الخالي من المجاملات؟ ثم وبعد هذه العاصفة الشرسة التي هندسها، ماذا بقي للحركة الشعرية العربية الحديثة، خصوصًا بعد أن أعمل معوله بضراوةٍ لهدم تلك القلاع التي كنا نظنها حصينةً أو على الأقل بمنأى عن الآراء الصحافية السريعة الحافلة بالمجانية والمنقادة للإثارة وهاجس «المفرقعات»؟ أليست آراء أدونيس - في هذا الحوار - تدفعنا جميعًا إلى الفراغ والتيه والهاوية، كونه نسف كل الذين رسخهم التاريخ في أذهاننا على أنهم روّادٌ مجددون وأصحاب تجارب ومشاريع ريادية كبرى (وهنا يقفز تحديدًا السياب ، أمل دنقل، محمود درويش، ومحمد الماغوط )، وإذا كان رأيه في واحد أو اثنين صائبًا فماذا عن آرائه التي أرادت النيل من ذلك السرب الطويل من الشعراء وإحالته إلى سراب؟ هل كل آرائه تلك كانت صائبة؟ هل كلها موضوعية؟ وفي الأقل: هل كلها بريئة؟ هل كلها نزيهة؟ ثم ما المنهج النقدي العلمي الموضوعي الذي اتكأ عليه حين قام بارتكاب تلك المجزرة البشعة؟
هل أراد أن يهجو كل هؤلاء بكل تلك القسوة ليقول إنه هو الشاعر العربي الوحيد، الذي أنجز مشروعًا إبداعيًا عميقًا راسخًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما المشاريع الأخرى التي أنجزها الآخرون كانت مجرد رسوم عابرة فوق الرمال ؟ بدليل أنه يرى أن حركة الشعر الحديث في مجملها - في العالم العربي - لم تنجز شيئًا ذا بال سوى في مفارقتها لأوزان السيد الفراهيدي والدروب التي سلكها وفرض على القصيدة العربية أن تسلكها !
ثم لماذا لم يصدع أدونيس بآرائه الجريئة هذه عاليًا ، حين كان أكثر من رشقهم بحجارته على قيد الحياة؟ هل بات هو الآخر «ناقد جثث» على غرار «مؤرخ الجثث» محمد حسنين هيكل - كما وصفه محمد الماغوط بسخريته العالية - هل قال ما قال بعد أن ضمن تمامًا أن المقابر لا تتحدث ولا تتقن فضيلة السجال؟ الأمر الذي يضع هذا الشاعر الكبير رهن مساءلة أخلاقية بالدرجة الأولى، لأن ليس في قتل الموتى أي نبل على الإطلاق!
ثم ماذا عن شعره بل عن مجمل تجربته الشعرية؟ هل ينظر إليها في السياق نفسه وبالعينين اللتين رأى بهما مثالبَ الآخرين وعوراتِهم؟ وهَبْ أن أحدهم قام بوضعها (أعني تجربة أدونيس) في «منخل» النقد الذي استخدمه هو نفسه وبالأدوات نفسها، هل سيبقى منها شيء يفوق ما أنجزه في «أغاني مهيار الدمشقي» مثلًا ؟ مع أنه وكما أثبت في الحوار نفسه يتهرب من كونه ناقدًا ، الأمر الذي يجعلنا نتساءل هكذا: طالما أنه ليس كذلك فلماذا أقدم على ما أقدم؟ ولماذا ارتكب تلك المجزرة الهائلة أو المحرقة الكبرى بحق رموز مهمّة في المشهد الشعري العربي؟ وما المبرر الحقيقي الذي دفعه إلى الخوض في حديث كهذا الحديث، طالما يعترف بأنه ليس ناقدًا ؟ في نظري ليس ثمة مبرر سوى مبرر النزوة، وهو سقمٌ بيّنٌ في الثقافة العربية، فكثير من المواقف والأحكام والآراء تصدر دائمًا عن نزوة، فضلًا عن الأخذ بالثارات وهي فكرة رجعية بالضرورة، وهنا يتجلى ذلك الضحك الذي يشبه البكاء الذي أشار إليه جدنا أبو الطيب ببراعة شعرية عالية، خصوصًا أن أدونيس أنفق الكثير من حبره على نقدها وتفكيكها وهدمها (أي الرجعية) تحت مسوّغ إقامة بناء فكري جديد يتساوق وإيقاع هذا العصر الذي يطحننا بسنابكه الحادة!
وما دمنا بصدد طرح الأسئلة، أرى أن ثمة سؤالًا آخر ينبغي طرحه هنا بصوتٍ عالٍ : لماذا أقدم السيد أدونيس على إعادة طبع دواوينه عن «بدايات» للطباعة والنشر (منها مثلًا ديوان «أوراق في الريح» الذي تم إنجازه بين عامي ( 1955 - 1960) وهو ديوان يشتمل على عدد كبير من القصائد الساذجة والمضحكة والهزيلة، أقول : لماذا أقدم على إعادة طباعته في العام 2006 مشيرًا إلى أن تلك الطبعة هي «طبعة جديدة خاصة»؟ ألم يقدمْ على هذا لأنه مقتنع - ضمنًا - بأن قصائده تلك لا تزال متوهجةً وأن ماء الحياة يسري في غصونها وأنها عصية على الذبول والانطفاء ،اللذين يرى أنهما مسّا تجارب رفاقه الآخرين وقصائدهم، ولماذا لم يجْرِ عليها ما أجراه مثلًا على تجربة السياب التي اختزلها في عشر قصائد فقط يرى أنها جيدة - كما ورد في الحوار - مع أنه سبق وأن انتخب للسياب 24 قصيدة، وأصدرها في ديوان بعنوان «قصائد» مع مقدمة طويلة كتبها في بيروت، كانون الثاني (يناير) 1967، وصدر الديوان عن دار الآداب ( بمكتبتي الآن الطبعة الثالثة منه وهي الصادرة في العام 1987)...أليس خليقًا بشاعرٍ كبيرٍ كأدونيس أن يمارس نقدًا ذاتيًّا صارمًا مع تجربته هو، قبل الشروع في ارتكاب هذه التصفية الجماعية طالما أنه منحاز إلى الجوهر الشعري - كما يقول -.
ولماذا لم يبدأ بنفسه وتجربته؟ لماذا لم يُلْقِ بقصائده الهزيلة - كالتي وردت في ديوانه «أوراق في الريح» وما شابهه - في البحر؟ بل لماذا يعيد طباعتها فيما هي لا تستحق سوى الوأد تثمينًا للجوهر الشعري الذي يناضل من أجله، والذي بسببه نسف حركة كاملة بكل منجزاتها ورموزها في عجالة؟ وثمة سؤال أخير لابد من طرحه هنا: لماذا يفجعنا هؤلاء الرموز بخوض الحروب الكريهة دائمًا - طبعاً أدونيس ليس سوى غصن في شجرة كبيرة مصابة بالكثير من الأسقام، أولها الضيق بالآخرين - المنافسين - ومحاولة إلغائهم وإسقاطهم بدأب من نافذة الحافلة التي يفترض بها أنْ تقلَّ الجميع، متى ما سنحت الفرصة لذلك، كما لو أن هذه الحافلة لا تتسع إلا لراكب واحد فقط، وأن احتشاد الكل بها ليس إلا خطيئة كبرى، وأن تجلي «الذات» لا يتحقق إلا بإقصاء أو إلغاء أو قتل الذوات الأخرى. ونحن هنا نقع على النقيض مما ظل يوجهه خطاب هؤلاء الرموز من نقد لاذع للمؤسسة السياسية العربية، التي احترف الكثير من أعضائها خوض الكثير من الحروب الصغيرة.

* عبدالمحسن يوسف


* صحيفة الحياة
30 - 03 - 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى