محمود سلطان - فتحي مهذب.. الشاعرالذي نجهل قيمته وقامته

حتى وقت قريب، كنت لا أشعر بـ"الود" مع ما تُسمى "قصيدة النثر"، بطبيعتي يزعجني "زحمة" الصور في القصيدة العمودية.. تشعرني كأني استقل أتوبيس نقل عام: خنقة..عرق وزهق.. أنتظر بفارغ الصبر، أول عطفة لأقفز منه. فما بالي بقصيدة النثر، التي تُسَتفُ الصورُ فيها كما تُستفُ "أجولة" البطاطس في "شوّن "الغلال؟!.
لم أبرح هذا الإحساس، حتى دلّني صائدٌ "الجواهر" أديبُ العرب الأول الأستاذ نشأت المصري على شاعرين من شعراء النثر: الأول الشاعر المصري د. أمجد ريان.. والشاعر التونسي فتحي مُهذب.
والحال أنني غيرتُ رأيي بعدما اطلعت على أشعارهما.. ولعل شهرة "ريان" تحملني على أن أبدأ بالتونسي الأستاذ فتحي مهذب.
الأخير.. شاعر ربما لا يضاهيه شاعرٌعربيٌ آخر، فقد تفوق ـ عن حق وبدون أية حاضنة حزبية أو أيدولوجية أو مذهبية ـ على الوثنية "الأدونسية / نسبة إلى أدونيس".. بل أنزله بعض من أثق في عدالته من كبار الشعراء العرب، منزلة "أفضل شاعر عربي على الإطلاق" في الوقت الحالي.
لقد أحيل فتحي مهذب في ذاكرتي، إلى مخزون لا ينضب من الصور البكر، التي على غير مثال ـ صادمة وغير متوقعة ـ صور تأخذ بيدك في حنان، إلى حيث عالمه السريالي والغرائبي، في تكثيفٍ لا تشعر معه بالضجر بل بالمتعة، وغواية التأويل وتعدده واحتمالاته.. وأجواء "كابوسية" تعكس أضطرابات الإنسان المعاصر، المطحون بين تروس الحداثة وما بعدها، والتيه والغيبوبة بين تناقضات الحياة وغرائبها التي تستعصي على الفهم أو التفسير.. وعدم مركزية الحقيقة التي باتت ـ على يد ما بعد الحداثة ـ "تحايلية" و"مراوغة".. والحيرة والتردد والضياع والتيه، في منطقة الفوضى وغموضها، بين "الموت" و"الحياة".. و"الوهم" و"الحقيقة"..
عندما أقرأ لـ"فتحي مهذب"، أشعر وكأني أتجول في شوارع باريس ومنتزهاتها .. وأحتسي قهوة الصباح على مقاهيها.. بدون أن أشعر بالغربة، بل بمتعة "التسكح" في هذه المدينة التي تضج بالفن والأدب والشعروالجمال، تصاحبني فتاة جميلة نصفها شرقي ـ سمراء الشعر والعيون.. وقمحية اللون ـ والنصف الآخر شقراء واستايل باريسي "يأخذ العقل".. إنه شاعر العالم كله "شرقه وغربه" قبضة نصوصه الساحرة.
يقول في قصيته "ظلال اللاشيء"
الشمس تقلم أظافرها في صالون الأفق..
مثل خادمة مسنة..و عزباء..
أفرغت جرار الضوء في المرتفعات..
هاهي متعبة جدا..
حقائبها جوار قدميها المليئتين بالكدمات..
في انتظار سفينة نوح ..
ذئب ينادي أسقفا طائرا للصلاة..
ما أقسى رمية النرد يا خفاش..
كم آلمني نحيبك يا بوم الدوق الصغير..
قرقعة جزمات الأسلاف..
رائحة أسنان الشجرة الحزينة
التي تعض الهواء بقساوة..
تبكي مثل أرملة..
من هول الفقد ..
آثارهم ماثلة للعيان..
ذهبوا الى النسيان على أطراف أصابعهم..
أوركسترا أصوات غامضة في الأقاصي..
لاشيء يناصبنا الوضوح .

ويقول في قصيدته " أرى ما رأيت"
أسمع متصوفا
يقول رأسي شقيق القمر..
وسكانه ينامون في الهواء..
أنا برهان على وجود العالم..
المصادفة نردي الأثير..
رأيت هدهدا مسلحا بهراوة
يلاحق قسا على دراجة نبي ..
رأيت شجرة تخبئ نقودا أثرية
تحت جذعها..
تبيع فواكه جافة لطيور فصيحة..
أحيانا تغني مثل مزارع ..
في تابوت..
رأيت غرابا يتسلى بمشهد دموي..
يغسل جبته في مستنقع ..
رأيت حطابا يقطع مخياله نصفين
رأيت غيمة جريحة تئن تحت عربة الريح..
رأيت نسيانا ضخما آخر الزقاق ..
يبتلع ذكريات محاربين وعميانا..
رأيت (يسوع) على كرسي
متحرك في منحدر حجري..
أهداني صلبانه الذهبي..
واختفى بين زفرتين.. انتهى
يبقى أن أشير ـ هنا ـ إلى أن "مهذب" رُزق الخصوبة في رحم توالد النصوص.. واللافت أن كل "صورة" ـ يأتي بها ـ غضة وبكر.. ولا يعيد تدويرها في قصائد أخرى.. أو يعيد انتاجها بالتحايل على المتلقي، من خلال "رشة عطر" تحت إبط النص، تكون مضلله أو خادعة تحمله إلى فراشها، وهو ـ أي المتلقي ـ غير مسلح بأدوات النقد وملكة ضبط "ألاعيب" الشاعر المتحايل.
فتحي مهذب حالة مختلفة وفارقة في تاريخ الشعر العربي الحديث والمعاصر


محمود سلطان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى