رياض بوبسيط - النزعة الوطنية وخروج عن المألوف في شعر هشام شرڨي

عرف الشعر العربي على مر العصور تنوعا في الأغراض واختلافا في ميولات الشاعر واهتمامته، إذ أن كل شاعر يكتب قصائده كما تملي عليه نزعته الوجدانية والمجازية، فالقلم لا يخضع إلا لرغبته، ومن هذه النزعات ما عرف في شعرنا الحديث والمعاصر بالنزعة الوطنية، وهي التي تنتج عن رغبة الشاعر في تصوير وطنه ووصف مشاعر الفخر والاعتزاز به، فهذه النزعة في القصيدة العربية بمثابة بطاقة هوية للشاعر، إذ يمرر من خلالها انتمائه ويثبث أنه دائم الحب لوطنه، والذي كان في قصائد كثيرة يرد في صورة الأم، كما كان الحال عند محمود درويش ومفدي زكرياء وغيرهما الكثير، وهذا دليل على أن الوطن لا يقل شأنا عن الأم.

عندما يقال أن في هذه القصيدة الشعرية نزعة وطنية فهذا إشارة إلى أن القصيدة تتحدث عن الوطن، وهنا نتساءل: هل الشاعر دوما ما يصف وطنه وصف تعظيم وإجلال؟ وهل الوطن دائما هو الأم التي تبادلنا الحب والحنان؟ وهل الشاعر ملزم بأن يتغزل بوطنه حبا وهو لم يمنحه الحب أصلا؟.
يجدر الإشارة إلى أن النزعة الوطنية التي تعني الدفاع عن الوطن والانتصار له ولقضاياه أيضا غلبت على الشعر السياسي وشعر الثورة وذلك لأن أغلب الشعراء كانوا يرفضون أن يغتصب وطنهم ويؤخد منهم، وهذا ما جعلهم يمجدون ذكره في قصائدهم، ولذلك ورد الوطن في شعرنا بتلك الصورة العظيمة. وقد كانت صورة تتسم في المجمل بالصدق الفني من الشاعر الذي كان صادقا في مشاعره.
لكن النزعة الوطنية اليوم أصبحت في بعض الأحيان تأخد صوراً مغايرة تماما لما عهدناه، حيث أنها خرجت عن المألوف لتصبح شاذة في قصائد كثيرة، فالوطن اليوم حطم أحلام الكثير من الشعراء وهذا ما جعلهم يكتبون عنه بخلاف ما كتبه الأولون، فإن كان البارودي وأحمد شوقي كتبوا شعر الشوق والحنين إلى الوطن لأنهما كانا في المنفى، فإن شعراءنا اليوم يعاتبون الوطن ذاته لأنه أصبح لهم بمثابة المنفى، فراحوا يشتكون ما يعانوه من حرمان. ولعل أهم الجزائريين المعاصرين ممن كتبوا هذا النوع من القصائد، الشاعر هشام شرڨي والذي كان صادقا في التعبير عن مشاعره اتجاه وطنه دون تحامل، فنصوصه لم تكن إلا فيضا من إحساس الشعور بالقهر والفقر والحاجة في هذا الوطن الذي لم يكن رحيما به، ، والذي وصفه في نصوص كثيرة بالمنفى، لأنه حرم الشاعر من أبسط الأماني وجرده من أحلام صورت في شعره على أنها أضحت سرابا.
إن شعر هشام شرقي خرج عن المألوف في وصف الوطن ومنحه صورا جديدة، ربما لم يعتد عليها النقاد والمقبلون على الشعر فهما واستيعابا، إلا أنها كانت صورا شعرية بالغة الجمالية، حيث بلغ فيها المجاز نصابه وذلك لأنها تعبر عن معنى الوطن في كينونة النص.
جاء في إحدى قصائده قوله:

على أي شيء سوف تهمي مدامعي
وصبري بهذي الأرض يفقد صبره؟
أنا من أضعت العمر
فيك مذبّحا
ومن غير عمري فيك ضيع عمره؟
بلا شفة
من بعد أن كان شاعراً
غدا هائم الأمواء يندب غمره
وضاق به الصمت اللعين تساؤلا
فصد عن المعنى
وغالب خضره

أجاز هذا النص معاناة صاحبه في وطن لم يحتويه، لذلك كانت الصورة هنا بليغة المعنى، بسيطة التأويل على كل من خاب أمله في وطنه، ففقد صبره وضاع عمره كما ورد في النص تماما.
يقول الشاعر هشام شرڨي في نص آخر وهو يصف شعور الخيبة والخذلان التي أصابه بها وطنه:

مغلولة يدها يا أيها الولد
مالي أراك بهذي الأرض تنفرد؟
من ألف حزن
بكفيها تدفئني
لكن قلبي رغم الدفء يرتعد
اسحب يديك فقد ولت سكاكرها
كذلك الضوء عن عينيك يبتعد

في هذا النص أيضاً امتعاض طفل من وطنه، فصور الوطن على أنه دفء، وصور الطفل على أنه قلب لا يشعر بذاك الدفء، ربما لأنه أصبح لا يطيق حرارة الاحتراق من وطن لم يكن ملجأ لأحد.

وورد في نص آخر قوله:
وحيداً يمني النفس:
حتما تضمني
ويشرق شمسا
في الفؤاد ظلامها
يقول:
وإن جارت علي عزيزة
وإن يرق أسباب السماء لئامها!
فقلت له: كلا
وإن هي أمطرت رغيفا
فلن ينجي الجياع طعامها
كثيراً ماتوا
يحلمون بموطن
فجادت عليهم
بالعذاب سهامها
كفرت بها
بالجوع يقتل أهلها
ويدعو لها بالخير حبا، إمامها
فإن مت
لا تبكوا على كافر بها
وقولوا:
على كفر أراح هشامها

لقد خرج هذا النص عن عرف النصوص التي تفيض حبا لأوطانها، حيث نقل لنا صورة أخرى عن الوطن، ليس الوطن الذي كان أما لابنائه....، وإنما ذاك الوطن الذي شرد أهله وجعلهم عرضة للجوع والحاجة، وهذا ما جعل الشاعر يصف خيبة أمله هذه بالكفر. والأكيد أن هذا الوصف كان جميلا كما كان صادقاً ومؤثرا في ذات المتلقي لأنه تعبير عن حقيقة الوجع والحسرة التي يشعر بها كل من خدله الوطن وما أدراك ما الوطن.
إن تغريبة النورس الحزين ومن عنوانها توحي لك أنها مليئة بالمواجع والآلام، ولذلك جعلها الشاعر تغريبة لأكبر مواجعه وهي الحلم بموطن جاد على اهله بسهام العذاب كما قال في إحدى نصوصه. هذه النصوص أيضا كانت جريئة في نقل مشاعر صاحبها دون تكلف أو تحامل وهذا هو الشعر ، فالشعر كثيراً ما يكون نقلاً للآلام والمواجع.





1679340773787.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى