يا أيها الرجل المعلم غيره ......هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ........فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ........فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
تشهد المجتمعات الإنسانية المعاصرة تدهورا كبير في مستوى القيم الأخلاقية والمثل العليا العالمية التي تتداعى وتتساقط أمام عولمة جارفة وحداثة وحشية لا ترحم، ونحن كما يقول نعيش اليوم في زمن شديد الغرابة، قد أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النزعة الهمجية والبربرية"[1].
وفي مواجهة هذا التدهور الأخلاقي تحاول بعض المجتمعات الإنسانية استعادة الخطاب الأخلاقي ووقف هذا التدهور القيمي الجارف الذي يدمر نسيج الحياة الاجتماعية لصالح النزعات المادية والفردية التي تندرج ضمن مطالب الروح الأنانية التي تفقد المجتمع جوهره الأخلاقي وتألقه القيمي. وتبين الوقائع أن التربية الأخلاقية قد أخفقت إلى حد في مواجهة هذا المدّ الجارف للنزعات الفردية والأنانية التي تجتاح الحياة الثقافية والاجتماعية المعاصرة. وقد تبيّن تاريخيا بأن النزعة الأخلاقية الكانطية قد أخفقت تماما في مواجهة النزعة النازية المدمرة التي تجسد أقصى معالم "الشر الراديكالي" في العصر الحديث. ولم يكن للمسعى الفرويدي الذي جعل من الأنا الأعلى نموذجا للمطالب الأخلاقية المثالية أي فرصة في تحقيق النجاح في مجال الحدّ من العدوانية البشرية الهدامة للحضارة. ويبدو واضحا في سياق ذلك كله معالم إخفاق المشروع التربوي في المجال الأخلاقي حتى اليوم رغم الجهود الكبيرة التي تبذل في هذا المسار الأخلاقي وذلك في عالم أصبحت فيه مصالح الفرد تطغى على مختلف مظاهر الحياة والوجود الثقافي للإنسان المعاصر.
وفي هذه الأجواء المحمومة لا يمكن للتربية أن تتخلى عن دورها الكبير والخطير في مواجهة هذه الشرور الراديكالية ولا يمكن للمربين وأصحاب المشاريع الأخلاقية الوقوف صمتا إزاء هذا التدهور الأخلاقي في مختلف مظاهر الحياة والوجود الإنساني في المجتمعات الإنسانية. وفي خضم هذه المواجهة ضد مظاهر السقوط الأخلاقي تتعاظم أهمية التربية الأخلاقية ويتعاظم معها دور المعلمين والمربين المطالبين عالميا بوقف هذه التدهور وإعادة الاعتبار إلى القيمة الأخلاقية بوصفها الحصن الحصين للحضارة والإنسان. ولكن المشكلة أن المعلمين والمربين يحتاجون أنفسهم إلى مهارات فكرية وثقافية كبيرة جدا تؤهلهم للخوض التربوي في معترك الصراع المحتدم ضد كل المظاهر السلبية للحياة الأخلاقية في المدرسة وفي المجتمع على حدّ سواء. وهذا يعني أن المعلمين أنفسهم يحتاجون إلى درجة عالية من التأهيل والإعداد التربوي في مجال التربية الأخلاقية كي يكونوا قادرين على أداء الدور التاريخي المناط بهم في مجال الإعداد الأخلاقي للناشئة والأطفال في المجتمع.
ولا بد من القول في هذا السياق: إن إعداد المعلم وتأهيله أخلاقيا يحتاج إلى جهود كبيرة وجبارة في الميدان التربوي، ولاسيما عندما نأخذ بعين الاعتبار الوضع الثقافي المتدني للمعلمين في مجتمعاتنا بصورة عامة وضعف التأهيل التربوي في المجال الأخلاقي بصورة خاصة. إذ ليس من المنطقي أبدا أن نطلب من المعلمين أداء دور لا يحسنونه وأن نكلفهم بمهمة لا يمتلكون القدرة على أدائها، وهذا يعني أن المجتمعات الإنسانية المعاصرة مطالبة بإعداد المعلمين إعدادا متخصصا في هذا المجال التربوي للأخلاق. ولا يغيب عن الأذهان ابدا أن التربية الأخلاقية تحتاج من المعلم ثقافة عميقة وأصيلة في مجال علم الأخلاق ونظريات التربية الأخلاقية في المستويين الفلسفي والسيكولوجي على حدّ سواء، وهذا المطلب يشكل اليوم ضرورة حيوية في مختلف المؤسسات التربوية في مجتمعاتنا وفي مختلف المجتمعات الإنسانية. إذ لا يعقل لأن نطلب من المعلمين أداء دورهم في التربية الأخلاقية وهم على جهل كبير بالثقافة الأخلاقية المطلوبة. ويقتضي هذا المطلب من الوزارات التربوية المعنية تأهيل مدربين مؤهلين لهذه الغاية وإخضاع المدرسين والمعلمين أنفسهم إلى دورات تدريبية مستمرة في الميدان الأخلاقي. ويلاحظ في هذا السياق بأن المعلمين الذي يتم اختيارهم لهذه المهمة يجب أن تكون لديهم الدوافع الذاتية الثقافية لأداء مثل هذه المهمة. وهنا أيضا لا بد من إعداد الإداريين لمثل هذه المهمة لأن الإدارات المدرسية تلعب دورا كبيرا في توجيه التريبة الأخلاقية نحو مساراتها الصحيحة وتحقيق أقصى إمكانيات التأثير الأخلاقي في نفوس الطلاب وعقولهم وتمكينهم من ممارسة الحرية الأخلاقية بالاستناد إلى وعي عميق وأصيل بأهمية القيم الأخلاقية في مسارات الحياة والوجود. ويجب علينا اليوم "أن نعمل كما لو أن الشيء الذي ربما لن يكون، يجب أن يكون" كما يقول الفيلسوف الألماني عمانويل كانط كي ننهض بالتربية الأخلاقية والإنسانية في مدارسنا ومؤسساتنا التربوية .
[1] Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Paris. Gallimard. P 75.