د. أحمد الحطاب - كيف تحوَّلَ مفهومُ المخزن كمستودع إلى مفهومِ المخزن كسلطة

هذه الكلمة التي نُسِجَتْ من حولها حكاياتٌ وأقوالٌ ومقولاتٌ وقيلٌ وقالٌ تعني، حسب القواميس والمعاجم العربية، مكانا يتمُّ فيه تخزين أو حِفظ مختلف الأشياء وعلى رأسها المواد الغذائية كالقمح والشعير والدقيق والسكر والشاي والزيت والقطاني، الخ. التي هي أساس الغذاء اليومي للسواد الأعظم من الناس. ومما يثير الانتباه أن كلمة "مخزن" التي جَمْعُها مخازن، أصبحت مقترنةً في الثقافة الشعبية المغربية بالنفوذ والسلطة والتسلط والتَحَكُّم والسَيْطَرَة والهَيْبَة والهَيْمَنَة، الخ.

في الثقافة المغربية، كلمة "مخزن" تعني قوة كبيرة ونافذة سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، فكريا وإداريا. إنه ليس حزبا سياسيا بالمعنى المعروف ولكنه، في الواقع، حزب غير معلن عنه، أي تجمُّعٌ لأشخاص ذاتيين ومعنويين من ذوي النفوذ القوي على الحياة العامة. والغريب في الأمر أن هذه القوة، رغم نفوذها، غير مرئية، أي ليست مجسدة على أرض الواقع بعلامات واضحة وملموسة. وأغرب من هذا وذاك، إن تأثيراتها ملموسة ولها وقع على العديد من مناحي الحياة اليومية للسكان. والدليل على ذلك ما يُتَداوَلُ من أقوال حولها من قبيل :"الله يعز المخزن" أو "المخزن ما معاه لعب" أو "راه المخزن هذا السي!" أو "لا حيلة مع المخزن" أو "للي ݣالها المخزن هي للي كاينة"، الخ. فكيف تحوَّل مصطلح "مخزن" من مكان للتخزين إلى مفهوم يدل على النفوذ والسلطة والهيمنة، الخ.؟ إنه تحوُّلٌ دلالي sémantique ناتج عن تلاقي وتقاطُع ظروف اجتماعية، اقتصادية، سياسية، جغرافية، تاريخية، الخ.

فيما يخص مصطلح "مخزن"، يمكن تفسير التحوُّل الدلالي الذي طرأ عليه بما يلي : في الماضي، كان الحُكَّام وخصوصا الملوك يفرضون ضرائب على الرعايا وفي غالب الأحيان، عوض أن تؤدى هذه الضرائب نقدا، فإنها تؤدى عينا بما يعادل قيمتَها من مختلف المحاصيل الزراعية وعلى رأسها الحبوب. فكانت تُخَزَّنُ هذه الضرائب العينية في مخزن أو مخازن يشرف عليها مُقرَّبون من السلطة الحاكمة ويؤمنها حراس أو جنود مسلحون. فكانت هذه الضرائب العينية تُعْتبر بمثابة ثروة هائلة تمتلكها هذه السلطة وتستعملها لأغراض سياسية ولتقوية نفوذها على البلاد والعباد. ومما جعل هذا النفوذ يترسَّخ في الذاكرة الشعبية هو أن القوت أو العيش اليومي لشريحة عريضة من الرعايا، فقراء وضعفاء، كان رهينا بما يوزَّعُ عليهم من المخزونات. وقد كان ربط العيش بهذه المخزونات واضحا فيما سُمِّيَ في الأربعينيات بالمغرب ب"عام البون" حيث كانت السلع والمواد الغذائية الأساسية تُودَعُ بالمخازن ليتم توزيعها على من هم في حاجة ماسة إليها. وهكذا، فإن "المخزن" الذي هو مجرد مكان للتخزين أصبح الناس يرونه كوسيلة يملكها ذوو النفوذ للسيطرة على الآخرين من خلال التَّحكم في قوتهم اليومي. ومع مرور الوقت، أُفْرِغَ "المخزن" من معناه الأصلي كمكان للتخزين وأصبح يدل على بسط النفوذ والسيطرة والهيمنة والتّحكُّم والهيبة، الخ.

وهذا هو ما نلاحظه حاليا في بلادنا حيث أنه لا أثر للمخزن كمستودع لكنه بقي مقترنا في الذاكرة الشعبية الجماعية وفي تمثُّلاتها بالسلطة والنفوذ. فإذا بحثتَ عن وجوده المادي، فإنك لن تجده لكن تأثيرَه على المستوى السياسي والاقتصادي واضحٌ وضوحَ الشمس. إنه إذن، وكما أسلفتُ، قوة غير مرئية تسعى بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة إلى أن تسير وتُحْسَمُ الأمور دائما لصالحها. فما هي مكونات هذه القوة النافذة؟

حسب ما هو متداول في التمثًّلات الشعبية، تتألف هذه القوة من مجموع السلطات العليا، الوطنية منها والجهوية والمحلية والأمنية والإدارة التي بيدها تسيير الشأن العام للبلاد من وُلاة و عمال و باشاوات وقواد وشيوخ ومقدمين إضافةً إلى بعض الأحزاب السياسية والأغنياء والأعيان والرأسماليون والليبراليون المُتوحِّشون وكبار أرباب العمل و أصحاب الريع، الخ. هدفهم الوحيد هو أن تجري الأمور حسب ما تقتضيه مصالحهم سعيا منهم إلى الاستفادة دون غيرهم من خيرات وثروات هذه البلاد.

و كلما اتَّسعتْ دائرة المخزن، كلما ازداد نفوذه و تأثيره على الحياة العامة للبلاد. وكيف تتسع دائرته؟ هذا ما أسمِّيه أنا شخصيا "التَّمَخْزُن".

وأعني بالتَّمخزنِ الدخولَ والانخراطَ في دائرة المخزن. بالنسبة لي، التّمخزن نوعان. إما أن يتحقَّق عن طواعية من يريد أن ينخرطَ فيه، أي باختيار من يريد أن يَتَمَخْزَنَ أو تحت تأثير بعض الظروف الاجتماعية والاقتصادية بحثا عن الجاه والنفوذ. في كلتي الحالتين، يكون الإغراء هو سيد الموقف : امتيازات، سلطة، جاه، ريع، منصب، الخ.

وهذا النوع من الإغراء لا يزال قائما إلى يومنا هذا والمستفيدون منه على الخصوص، إلا مَن رحم ربي، هي الأحزابُ السياسية. وأحسن وأوضح مثالٍ يمكن سياقُه، في هذا الصدد، هو التقاعد السمين الذي استفاد منه رئيسُ الحكومة السابق المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية. فلا غرابةَ أن تكونَ، حاليا، لشريحةٍ عريضة من المواطنين نظرةٌ سلبية عن المخزن كمفهومٍ مقترنٍ بالسلطة والنفوذ والهيمنة… وهذا غير صحيح لأن هذا المفهوم تضرب جذورُه في أعماق التاريخ.

على ما يبدو، إن السعديين هم أول مَن استعمل "المخزن" كمستودعٍ لتخزين المواد الغذائية واللجوء إليها عند الحاجة وخصوصا إبان المجاعات والكوارث الطبيعية وعلى رأسها الجفاف. وانطلاقا من عهد السَّعديين، بدأ، تدريجيا، تحويلُ مفهوم "المخزن" من معناه الأصلي إلى المعنى المقترن بالسلطة والنفوذ… وفي عهد المرابطين، على الخصوص، أصبح مفهومُ "المخزن" مقترناً بجهاز الدولة، أي بنظام الحُكم من منظور سياسي.

وإن كان مفهومُ "المخزن" مقترنا، عند البعض، بالاستبداد والطُّغيان، فهذا شيءٌ غير مستبعد لأن السياسةَ، كما هو الشأن اليوم، فيها الصالح والطَّالح. لكن ما لا يجب نُكرانُه هو أن هذا المفهوم، من حيث المعنى، تطوََّرَ وتغيَّرَ جذريا وخصوصا بعد استقلال البلاد حيث أصبح عند العارفين والباحثين مرادفا لنظام الحكم.

وهذا هو الشيءُ الذي لم يتم هضمُه من طرف الطُّغمة الحاكِمة بالجزائر. هذه الطُّغمة تتعمَّد نكرانَ هذين التَّطوُّر والتَّغيير وتستمرُّ في اعتبار "المخزن" مقترنا بالاستبداد والطُّغيان. علما أن هذين الاستبدادَ والطُّغيانَ اللذان يمارسهما النظامُ الحاكم على الشعب الجزائري بلغا درجةً من العثوِّ لم يسبق أن وصل إليها لا الاحتلال العثماني ولا الاستعمار الفرنسي.

فإن كان مفهوم "المخزن" في تطوُّر مستمر منذ عهد السعديين إلى يومنا هذا، فإن الجارة الشرقية لها "مخزنٌ" من نوعٍ خاص. سيمَتُه الأساسية أنه يعِثُ في البلاد فسادا و إفسادا ويزداد استبدادُه يوما بعد يومٍ.

ما أختم به هذه المقالة، هو أن أقولَ : ما دام مفهوم "المخزن"، فكريا، مقترنا بنوعية نظام الحُكم، إذن، فلكل بلدٍ "مخزنُه"! الفرقُ بين البلدان هو أن "مخزننا" و"مخزنَ" كثير من البلدان قابل للتَّطوُّر بينما "مخزَنُ" جارتنا الشرقية لا يزال محتفظا بمعناه القديم المرتبط بالاستبداد والطغيان والجبروت… بل إن "مخزنَ" هذه الجارة يزداد يوما بعد يوم ظلماً وتسلُّطاً… لستُ أنا مَن يقول هذا الكلامَ، بل يقوله الجزائريون من خلال ما يسمونه ب"الحِراك" الذي كان، قبل ظهور وباء كورونا، يجوب شوارعَ البلاد كل جمعة وكل ثلاثاء. مخزنٌ لا يختلف، شكلا ومضمونا، عن الحكم الشمولي السائد في كوريا الشمالية وكوبا وإيران وغيرها من البلدان الضاربُ نظامُ حُكمها في الاستبداد والطغيان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى