في يوم عادي من صيف عام 2004 سألتقي بدينا وميساء في مقهي ريترو بالمهندسين لإجراء حوار حول المقاهي. خلال بحثي كانت المقاهي الراقية مثل ريترو والتي أصبحت جزءًا أساسيا من الروتين اليومي لجميع أصدقائي ومعارفي المنتمين إلي الشريحة العليا من الطبقة الوسطي، قد أصبحت مألوفة بالنسبة لي. لقد غيرت المقاهي الراقية مثل ريترو من النسيج المدني للأحياء المرفهة. إن الاستمتاع بكافيه لاتيه Cafe Latte أو سلطة القيصر Caesar salad قد أصبح روتينًا شبه يومي لعديد من الشباب القاهريين من أصحاب مستوي الحياة المرتفع نسبيا. هذه الأماكن يشار لها باللفظ الإنجليزي «كوفي شوب» ولا يمكن الخلط بينها وبين «القهوة البلدي»، أو مقهي الرصيف الذي يسيطر عليه الرجال والذي تشتهر به القاهرة. لقد أصبحت المقاهي المتنوعة نقاط التقاء مكانية، بالإضافة إلي كونها محددات اجتماعية لانتماء ما ولإحساس ذاتي بالطبيعية.
لقد نشأت ثقافة ترفيه جديدة ومميزة في تلك المقاهي وحولها يتبناها بشكل رئيسي مهنيون شباب غير متزوجين مثل دينا وميساء. ولكن المقاهي الكافيه ظاهرة جديدة. بدأت في الظهور في نهاية التسعينيات في مناطق مركزية وراقية مثل الزمالك والمهندسين وفي ضاحيتي هليوبوليس والمعادي. تفتتح الكافيهات الجيدة بشكل دوري مما يسبب زحامًا في الشوارع ويحول المناطق السكنية إلي وسط تجاري حيوي.
أجد دينا وقد اقتسمت طاولة مع صديقتنا المشتركة ميساء. إن هؤلاء النساء، في أوائل الثلاثينيات ولديهن وظائف في قمة السلم الاقتصادي، وهن جزء من طبقة جديدة من المهنيين تتميز بعلاقاتها وتطلعاتها الدولية. ومثل النساء الأخريات في رترو، ترتديان سراويل قطنية ضيقة أو بنطلونات جينز وقمصانا مماثلة في الضيق ومع ذلك فهن ضمن الحد الأدني للاحتشام حيث إن جميع أجزاء أجسامهن مغطاة باستثناء الأذرع. تصميم المقهي الصغير، والأعمال الفنية المعروضة به وبألوانه الهادئة وأثاثه الخشبي الحديث، يعطيان إحساسًا بالحداثة مع شعور دافئ يستعيد راحة المنزل. وتضع موسيقي تميل إلي الجاز منها أعمال لبونا فيستا سوشال كلوب Buena Vista Social Club ونورا جونز Nora Jones اللمسات النهائية.
قبل أن نبدأ في حوارنا نطلب بعض السلطات والساندويتشات من قائمة رترو الطويلة من «المأكولات المبتكرة» هكذا تقول دينا ونعطي طلباتنا لأحد الشبان الذين يرتدون زي رترو: جينز أسود وبولو شيرت تحمل اسم المقهي. يتحول حوارنا بسرعة إلي المدي الذي تتيح به المقاهي مساحات لقاء علنية جديدة خاصة للنساء. يقولون «نجحت المقاهي في أن تجمع الفتيات والنساء من بيوتهن والنادي». إن الوجود الطاغي للنساء في أغلب المقاهي الراقية هو أحد الملامح الملحوظة للحياة الاجتماعية التي تتبدي فيها. الاختلاط الاجتماعي غير المراقب بين الجنسين ووجود نساء بمفردهن في أماكن اللهو هي أمور عادة ما تحاط بالمحظورات والشكوك. ومع ذلك تمثل النساء المحجبات وغير المحجبات أكثر من نصف زبائن المقاهي الراقية. وقد اعتادت العديد من النساء المهنيات غير المتزوجات قضاء جزء كبير من وقتهن في مقاهي مثل ريترو.
بعد نصف ساعة تتم مقاطعة حوارنا عندما تنضم للطاولة صديقتان ويصل عدد متزايد من الأصدقاء والمعارف الذين تتم تحيتهم بحماس. لقد بدأت الحياة الاجتماعية في رترو تصل إلي ذروتها بعد انتهاء يوم العمل. يتحول حوارنا إلي خليط مرح من الحكايات الغريبة والأخبار المسلية التي تميز التسلية في المقاهي. لمقهي رترو الصغير نسبيا عدد كبير من الزبائن الدائمين مثل شلة كلمة من النص الأصلي ميساء التي تأتي بشكل شبه يومي ليلتقوا بأصدقاء ومعارف. تقول دينا التي تربطها صداقة بصاحب المقهي وتعرف أسماء كل العاملين فيه أن ريترو يمثل لها منزلاً ثانيا.
سبكترا كافيه هو مكان آخر ذو شعبية، يقع علي بعد بضعة شوارع خلف جامع مصطفي محمود الشهير في قلب المهندسين وقد زين بذوق رفيع بأثاث خشبي وينقسم إلي جزءين. يتيح الجزء الأمامي الهادئ أماكن جلوس للمجموعات الصغيرة بينما تحوي الغرفة الخلفية مساحات للمجموعات الكبيرة علي طراز المطاعم الأمريكية بـBenches خشبية تسمح بجلوس ستة أشخاص علي الأقل حول الطاولة. تعرض مجموعة من شاشات التليفزيون فيديوهات موسيقية من إحدي القنوات الموسيقية العربية الجديدة الشهيرة مثل ميلودي هيتس Melody Hits وإم تي في MTV اللبنانية. بينما تشكل أغان عربية وأجنبية مماثلة، الخلفية الموسيقية.
مساء أحد الأيام كان لدي موعد مع أحمد، مهني شاب في منتصف العشرينيات، للكلام حول الكافيات. عندما وصلت كان قد احتل طاولة في الغرفة الخلفية مع أخته وصديقة واثنين من أبناء عمومته. كان المكان مكتظا بشلل مختلطة من الشباب. صمت الجميع فجأة عندما جلست بجوار أحد أبناء عمومة أحمد ثم جاءت أخته وطلبت مني أن أبتعد قليلا عن جاري. قالت لي إنه شخص شديد التدين ولا يرتاح لجلوسي بجواره. عندما أصبحت وحدي مع أحمد وصديقته أتيحت لنا الفرصة أن نتحدث عن الكافيهات. شرح لي أنه يحب سبكترا بسبب مستوي زبائنه «أشخاص نظيفين ومحترمين» وبسبب طبعه الراقي وجودة الطعام والخدمة. قال أحمد إنه لم يكن مقبولا أن يقضي الشباب وقته في المقاهي، أما الآن وحتي إذا أصبحت الأزياء أكثر احتشاما فهناك المزيد من الحرية. وقد بدا أن الجمهور في سبكترا يؤيد كلامه ملاحظاته. اختلف سبكترا عن ريترو في أنه يجذب عددًا كبيرًا من الزبائن المحجبات. قالت لي صديقة أحمد التي تغطي رأسها، بمرح، إن الحجاب هو ببساطة إلزامي للمسلمين. ولكن ذلك لا يعني أن أسلوب حياتها يجب أن يكون مختلفًا عن زميلاتها ممن لا يرتدينه. فيما بعد لفتت انتباهي لفيديو كليب يتم فيه التركيز علي ثلاث فتيات طويلات يرتدين ملابس كاشفة ويرقصن بإغواء لإرضاء المشاهدين. قالت لي «هذا هو المفضل عندي».
إن المعادلة الانتقالية للمقهي الراقي تقحم نفسها في المجالات المهمة محليا والخلافية غالبا للترفيه والمجال الاجتماعي. في القاهرة، وقد مثلت المعرفة بالخارج بلاد برة وتبني الأساليب الكوزموبوليتانية الصريحة، مؤشرات للوضع الاجتماعي الراقي. إن الاختلاط الاجتماعي في أماكن الترفيه هو إحدي علامات نمط الحياة الكوزموبوليتاني. ولكنه أيضا مصدر للقلق والخلاف. في هذا الفصل أبحث في الأسلوب الذي يخلق به المقهي الراقي مساحة للانتماء الكوزموبوليتاني. وهذه المساحات تعكس التفاوت الطبقي في القاهرة الحديثة وتوضح كيفية تغير أنماط الاختلاط الاجتماعي بين الجنسين خاصة في الشرائح العليا من الطبقة الوسطي.
المساحات المقسمة
في بداية القرن الجديد تتميز القاهرة بدرجة عالية من التقسيم في مجالات الإنتاج والاستهلاك. يجب علي أغلب القاهريين أن يستهلكوا المنتجات والخدمات التي تتناسب مع قدراتهم الشرائية المحدودة في وقت ترتفع فيه التكلفة وتنخفض الضمانات الاجتماعية، كما أن معدلات البطالة مرتفعة وفترات الركود ممتدة. فعلي القاهريين إما أن يبحثوا عن الضمانات الاجتماعية المتاحة في نظام الدعم أو شراء منتجات عبر الأسواق غير الرسمية وعادة ما تكون تلك بضائع صينية رخيصة. مع ذلك وفي نفس الوقت تكشف أن المشهد في المدينة يحكي عن وجود قاهرة أخري بدأت في الازدهار في ظل الانفتاح سياسة الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في منتصف السبعينيات والتي شجعت الواردات والاستثمارات الأجنبية في مصر. وقد نمت تلك القاهرة الأخري بشكل كبير خلال فترة إعادة التكيف الهيكلي والسياسات النيو ليبرالية والسعي للاندماج في الأسواق العالمية في التسعينيات. فبينما يستمر معظم القاهريين في مواجهة الانخفاض المستمر للأجور الحقيقية وانحصار الدعم الحكومي في مجالات متنوعة مما يجعل الحياة مكلفة بشكل متزايد، تشهد القاهرة أيضا صعود برجوازية جديدة من المهنيين الأثرياء الذين ينتمون للشريحة العليا من الطبقة الوسطي. وفي وسط بطالة منتشرة بين خريجي الجامعة ومرتبات مبدئية شديدة الانخفاض، يعمل مهنيون شباب من أمثال دينا وميساء في الجزء الصغير، ولكنه المميز وذو التطلعات الدولية، من سوق العمل. في هذا الجزء من سوق العمل تكون المرتبات في الغالب ثلاثة إلي خمسة أضعاف ما يتم دفعه للمهن المماثلة في القطاعات «الأقل حداثة» من الاقتصاد الرسمي بما في ذلك القطاع العام الواسع والخدمات الحكومية. إن العلامات علي التحول إلي النيو ليبرالية والأسواق محفورة في المشهد القاهري. ترتفع فنادق الخمس نجوم والمباني التجارية اللامعة في الأحياء التجارية الجديدة. تبني المجمعات السكنية المغلقة في الصحراء حول القاهرة وتمتلئ شوارع القاهرة بالسيارات الفاخرة يتم استبدال منطقة وسط البلد تدريجيا بحي المهندسين الراقي كـ «وسط بلد» جديد لمن يملكون القدرة المالية. تقوم مناطق تتسم بالثراء مثل الزمالك والمهندسين وهليوبوليس والمعادي بخدمة المجموعات القادرة ماديا. يقوم عدد متزايد من المدارس الخاصة والمؤسسات والجامعات والمستشفيات بتقديم خدماتها للعائلات التي تقدر علي ترك الخدمات الحكومية المتداعية. في نفس تلك الأحياء توفر متاجر براقة مثل مترو وألفا ماركت المنتجات الضرورية لحياة مرفهة. يستطيع المرء أن يجد هنا محلات ملابس أنيقة لا تمتلئ عن آخرها توفيرًا للمساحة كما هو الحال في محلات وسط المدينة التي لم تعد عصرية. علي العكس فإن المحلات الراقية الحديثة تقدم منتجاتها وكأنها قطع فنية تنضح بالوعود بأناقة كوزموبوليتانية. تتميز كل تلك الأماكن الراقية بالمرجعية الكوزموبوليتانية للبضائع والخدمات المقدمة - من الكافية لاتيه إلي الأثاث الإيطالي والشهادات الدراسية الأمريكية- وبأسعارها المرتفعة نسبيا. أن المقاهي التي تخدم الشرائح العليا من الطبقة الوسطي تتقاضي أكثر من خمسة جنيهات لفنجان القهوة بما في ذلك 5 % ضرائب و 12% خدمة ويفرض أغلبهم حدًا أدني من الطلبات. قارن ذلك بالخمسين قرشًا أو الجنيه الواحد التي تتكلفها القهوة أو المشروب البارد في أي مقهي بلدي.
ملاعب الترفيه
لقد أخذ المقهي وضعا جديدا في خرائط الترفيه المتنوعة عبر العالم. إن طعم الكابتشينو أصبح علامة دولية قوية علي الارتقاء بالأذواق في التقسيمات المتنوعة والمختلفة للأنماط الثقافية. ومع أن المكانة التي يحتلها المقهي في الخارطة المحلية وشكل التميز الذي يمنحه الاعتياد علي الكافية لاتيه هي بالأساس أمور محلية إلا أن قدرتها علي التحديد وإكساب التميز والخصوصية يرجع إلي تجذرها في التيارات العالمية. وبالرغم من أن للعديد من المقاهي ملاكًا محليين إلا أنها تحمل بوضوح الطابع الأمريكي بما في ذلك المأكولات والمشروبات المقدمة فيها. إن العديد من المقابلات مع الملاك والعاملين بالمقاهي تشير إلي أن المقاهي أنشأها في البداية شباب قاهريون من أصحاب الخبرة الواسعة بالغرب.
وكما أخبروني فإن المقاهي هي مشاريع قليلة التكلفة ولكن عالية الربحية وهو السبب الذي يؤكده انتشارها السريع في السنين الأخيرة. عبر التجربة والخطأ تحولت سلسلتا المقاهي الأكثر انتشارا، سيلنترو والروستري من فروع صغيرة متخصصة في القهوة الفاخرة والأطعمة الخفيفة إلي نمطهما الحالي بمقاعد وثيرة ومريحة وقائمة طلبات أوسع تشمل الأطباق والمشروبات غير الكحولية لتناسب المفهوم المحلي عن النزهة.
يعجب البعض بالديكورات المنزلية الطابع والنمطية نوعا ما بينما يفضل الآخرون حداثة واختلاف سيلانترو بلمعان المعدن الطاغي عليه والوسائد المربعة بألوانها الأساسية أو النمط الأنيق والشاب لريترو بدفئه وحميميته. وبرغم اختلافها في الطراز وقوائم الطلبات والجمهور إلا أن المقاهي الراقية تمثل أبرز أماكن الترفيه التي يسهل التعرف عليها وتمييزها عن الأماكن الأخري التي تقدم بدورها مأكولات ومشروبات. بيد أن هناك قوانين ضمنية وحدًا أدني من المتطلبات ينبغي توفرها لجذب زبائن معينين والحفاظ علي المرتبة الراقية. من أكثر تلك المتطلبات أهمية وجود عاملين ونادلين من الشباب جيد التدريب ومهذب وأنيق كما يجب وجود أنماط وإشارات للانتماء إلي العالم الأول. تتميز وتبتعد تلك المناطق بشكل لا يقبل اللبس عن الأماكن الأخري وعن محيطها بطرازها الغربي ونظافتها المفرطة والصيانة المدهشة لمساحتها الداخلية كما يميزها التكييف الذي يكسبها جوا مريحا بشكل مستمر. لقد أصبحت هذه الأماكن جزء ًا لا يتجزأ من خرائط الأشخاص وحياتهم. يخدم بعضها المجموعات المميزة وتخدم أخري المجموعات الأصغر سنا. بعضها يعتبر مناسبا بينما ينظر إلي أماكن أخري من ضمنها علي أن روادها جمهور جريء، وكما سأحلل لاحقا فإن تلك التقسيمات لا تعكس إشارات إلي تفضيل طراز معين أو اختلاف منبعه السن فقط ولكن أيضا قلق منبعه مفاهيم حول ما هو مناسب لكل جنس وبالذات ما يعتبر محترما فيما يخص النساء.
تحمل العديد من المقاهي أسماء أجنبية مكتوبة دائما بالحروف الأجنبية وتسيطر اللغة الإنجليزية علي قوائم الطعام بدءا من قائمة بسيطة بالإنجليزية تتضمن أخطاء مطبعية حتي قوائم تكتب بالإنجليزية فقط مع شرح للأصناف يكتب بأسلوب شديد الكلاسيكية. وتشير تلك الاختيارات إلي نوع خاص من الزبائن يرغب صاحب المقهي في استقطابهم. استخدام اللغة الإنجليزية وادعاء ارتباط مباشر أو غير مباشر بمنشآت مماثلة في أمريكا الشمالية يضفي إحساسًا بالكوزموبوليتانية والخصوصية علي المكان وطعامه وشرابه وزبائنه. يقول سميث إن تذوق أنواع معينة من القهوة في المقاهي الأمريكية ما هو إلا ثقافة جديدة يسهل الوصول إليها. وفي مقاهي القاهرة يظهر التناقض الكبير بين المأكولات والمشروبات الأجنبية والمحلية. إن الشخص الذي طور تذوقه بأي شيء من الكابتشينو إلي دوبل اسبرسو يقف علي النقيض من هؤلاء المتمسكين بقهوتهم المضبوطة أو الزيادة. إن التميز هنا لا يكمن في معرفة وتذوق خصائص القهوة المتخصصة ولكن في الإحالة الكوزمبوليتانية للمأكولات والمشروبات وللمكان وزبائنه. وعلي نسق القوائم فإن اللغة المستخدمة في المقاهي هي هجين من العربية والإنجليزية والتي تميز المهنيين الشباب المنتمين إلي الشريحة العليا من الطبقة الوسطي فهي تختلط بشكل جيد بالديكور وقوائم الطعام التي تستمد إلهامها من العالمية.
إن كل الإشارات الأمريكية للمقاهي والمطاعم تحدد مدي ارتباط تلك المساحات بالجغرافيا المتغيرة للسلطة. إن المكونات المحلية للانتماء الكوزموبوليتاني لها تاريخ طويل في القاهرة. في زمن أبعد كانت أوروبا وفرنسا تحديدا هي مقياس كل ما هو أنيق، وكانت محلات كثيرة من التي تخدم الشرائح العليا من الطبقة الوسطي تحمل أسماء فرنسية وتبيع أحدث المنتجات والأزياء الفرنسية. كانت المنشآت الراقية في ذلك الوقت مثل جروبي والأمريكيين توحي بالانتماء الكوزموبوليتاني والتميز المحلي وكانت باريس هي المقياس الذهبي لهم. أما اليوم وكما قال أحد أصحاب المقاهي «يرغب الشباب في الشرق الأوسط في الطراز الأمريكي».
لا يشير استخدام الإنجليزية في الأسماء وقوائم الطعام والتواصل الاجتماعي فقط إلي أن المقاهي تبتكر سلعا جديدة ولكن أيضا أنها تقسم. فبينما هي تخلق إحساسا بالانتماء الكوزموبوليتاني إلا أنها في نفس الوقت تزيد من ابتعادها عن الأماكن المحيطة بها وعن أغلبية القاهريين «إلـ.. ما عندهمش لغة» بمعني أنهم لا يتحدثون بلغة أجنبية. في القاهرة الحديثة أصبح «امتلاك» لغة أجنبية وبالذات الإنجليزية يشكل انقساما كبيرا في صفوف الطبقات الوسطي المتعلمة. إن من درسوا في مدارس لغات ويتحدثون لغاتهم بطلاقة قد ولدوا وتربوا في عائلات «أفضل» ويستطيعون التطلع إلي العمل في الشرائح العليا من سوق العمل. ويتم إعادة إنتاج تلك الفروق علي مستوي المدينة في أماكن مثل المقهي.
«كأنك لست في مصر» تقول سيدة في الثلاثينيات وهي ترشح لي بحماس حانة في المهندسين وهي تزور أوروبا بشكل متكرر، فهي إذًا تعرف عما تتحدث. كان من الممكن فعلا أن تكون تلك الحانة في لندن الأنيقة أو في باريس أو نيويورك بديكوراتها القليلة والمقاعد الجلدية الزرقاء والإضاءة الخافتة وأنواع الكوكتيلات المعروضة. بينما لا يزال وجود حانة مصدرا للدهشة والفرح كونها تنتمي إلي العالم الأول في القاهرة، إلا أن العكس صار منتشرا. إن الأماكن والمتاجر الراقية التي تعرض كل الأصناف الموحية بالكوزموبوليتانية أو المجمعات التجارية الخاصة لم تعد تسبب أي تعجب أو تعليقات من شباب الشريحة العليا من الطبقة الوسطي الذين قابلتهم خلال بحثي. في خلال بضعة أعوام أصبحت تلك هي الأماكن التي تتكشف فيها حياة الشرائح العليا من الطبقة الوسطي. إن مقاهي مثل رترو وبينوز وتباسكو تشير إلي عضوية في مساحة كوزموبوليتانية تتسم بكونها محلية وقاهرية ومصرية وفي نفس الوقت جزءًا من مجال أوسع ينتمي للعالم الأول. هي أماكن لمشاريع طبقية محلية حيث تحدد دلالات كوزموبوليتانية واضحة الانتماء إلي الدوائر الأعلي من الإنتاج والاستهلاك.
أماكن جديدة، اجتماعيات جديدة
إن الاجتماعيات المختلطة وأفعال المهنيين من الشرائح العليا من الطبقة الوسطي الذين يرتاحون للتواجد في مقاهي القاهرة تبدو غير متكلفة. إلا أن تلك الاجتماعيات المميزة - اختلاط الشباب والشابات- لا تمثل نمطًا متفقًا عليه. لقد شكلت ممارسات الصفوة الترفيهية بعض أوضح الإشارات التي توحي بالحداثة وبالانحلال، حسب اعتقاد من يعلق. إن القضية الخلافية الأساسية فيما يتعلق بالممارسات الترفيهية لدي الصفوة هي طبيعتها المختلطة: اختلاط الرجال والنساء في الأماكن العامة. لقد نجحت المقاهي في جذب جمهور مختلط أوسع وإلي حد ما أقل خصوصية. إن تلك التجمعات تصبح مثيرة للاهتمام لو أخذنا في الاعتبار الطبيعة الإشكالية للتجمعات المختلطة بعيدا عن رقابة العائلة والمحظورات المعتادة حول وجود السيدات وحدهن في أماكن لهو عامة دون تبرير عملي من نوع العمل أو الدراسة.
بالمقارنة بالمقاهي في البيئة الغربية والتي تختص بنوع محدود من النشاط ووقت محدد من اليوم فإن المقاهي القاهرية تستضيف ثقافة ترفيه شاملة شبيهة بثقافة الترفيه الليلية في المدن الغربية. وبالنسبة للكثير من نساء الشريحة العليا من الطبقة الوسطي، فإن تلك هي الأماكن الوحيدة، التي يمكن وجود حياة اجتماعية بها خارج نطاق العائلة. في مساء الخميس تصبح بعض المقاهي علي نفس درجة زحام الحانات مساء السبت في المدن الغربية. تلتقي «شلل» من الشباب لاستعراض آخر صيحات الملابس وتبادل الغزل الخفيف. لقد نجحت المقاهي إلي درجة كبيرة في تقديم إحساس بالعالم الأول بين أفراد الشريحة العليا من الطبقة الوسطي بينما تتفادي أي ارتباطات مشينة بالترفيه الليلي في المدن الغربية. إن غياب المشروبات الكحولية ووجود محددات طبقية وجنوسية متأصلة في المعادلة الانتقالية تساعد علي تحديد المقهي كمساحة محترمة ومتميزة، تعرف بأنها آمنة ومحترمة للاجتماعيات المختلطة.
وتستمر تلك التجمعات في العادة حتي العاشرة أو الحادية عشرة ليلا وهو الوقت الذي يتوقع فيه عودة النساء غير المتزوجات إلي بيوتهن. قد قيل لي بمزاح «كلنا عندنا شبشب في البيت» وهي عبارة شائعة تستدعي إلي الذهن صورة آباء غاضبين ينتظرون أولادهم بأحذيتهم في أيديهم ومستعدون لضرب من تخالف موعد عودتها إلي المنزل. إن الرقابة العائلية هي سمة مهمة في حياة نساء الشريحة العليا من الطبقة الوسطي غير المتزوجات اللائي يعشن مع عائلاتهن بلا استثناء تقريبا. إن المسئولية تجاه العائلة والمساءلة من قبلهم حول سلوكها، هي أمور لا تنتهي بمجرد أن تصبح الفتاة بالغة أو تحصل علي دخل مستقل. قالت لي العديد من الشابات إن مواعيد العودة إلي المنزل ليلا وضعت لتحمي سمعة العائلة أمام الجيران. وتري هذه الرقابة عامة كجزء أساسي من المسئولية العائلية في حفظ البنت من الانحراف وبالتالي حماية سمعتها ومستقبلها. بينما يملك الرجال بعض المساحة لاختيار الأماكن التي يقضون فيها أوقات الترفيه إلا أن هذا ليس هو الحال بالنسبة للنساء. إن حضور النساء في الحياة العامة المهنية والترفيهية أصبح لازما بالنسبة لنمط حياة الشريحة العليا من الطبقة الوسطي، ولكنه حضور هش حدث فقط في مساحات مغلقة تتضمن طبقة واحدة من المجتمع ويكون الاحترام والحماية هما شرطا دخول النساء هذه الأماكن. إن مسارات شابات الشريحة العليا من الطبقة الوسطي اللاتي تعرفت إليهن في القاهرة تعتمد علي خرائط طبقية. الأماكن المناسبة للنساء هي أماكن راقية. فقط في هذه الأماكن يمكن للنساء أن يكن علي «راحتهم» بما في ذلك أن يرتدين ويختلطن اجتماعيا كما يشأن دون أن تتم مضايقتهن أو ينظر إليهن كسيئات السمعة.
إن الأسعار المرتفعة في المقاهي والحد الأدني للطلبات يساعدان علي منع دخول من لا ينتمون إلي الطبقة «المرتاحة». إن هذا النوع من الاختيار الاجتماعي أساسي بالنسبة لمظهر المقهي. من المتوقع أن يكون كل الزبائن من مستوي ثقافي مماثل ويلتزمون بمعايير اجتماعية وأخلاقية مماثلة. لا يرغب العديد من الزبائن أن يشاهدوا في أماكن تتردد عليها «ناس بيئة» وهو لفظ ازدرائي يطلق علي من ينتمون إلي «طبقة اجتماعية أقل» بأذواقهم الرخيصة والقديمة. وعادة ما تدعم تلك المعايير الاقتصادية، سياسة للدخول. ويعتبر أحد مديري المقاهي تلك المعايير الانتقائية علي أعلي درجة من الأهمية عندما قال «لدينا سياسة دخول لأننا لا نريد زبائن غير مؤهلين» وقال إنه يعني بغير المؤهلين الشباب الذين يرتدون ملابس تبدو رخيصة أو من يغازلون الآخرين أو من مثيري الشغب والصخب. إن الخوف المستمر من جذب من ينتمون لمستوي اجتماعي أقل لا ينبع فقط من أهمية الحفاظ علي المحددات الطبقية ولكن يحركه أيضا الخوف من اعتقاد أن هؤلاء الرعاع لن يلتزموا بالقواعد الضمنية للاختلاط الاجتماعي. إن الشباب الذين يبهرهم وجود النساء قد يغازلون أو يتحرشون بالزبائن أو قد تأتي بعض النساء بهدف مصاحبة الزبائن الأثرياء. إن تلك المخاوف تعكس اعتقادات حول أماكن اللهو المختلطة الأقل نخبوية والتي يعتقد عامة أنها أسواق للعلاقات السهلة التي قد يتضمن بعضها تبادل النقود. إن الطابع الاجتماعي النخبوي للمقاهي يخلق مجتمعا مظهريا ويخلق إجماعا علي عادية نخبوية غالبًا ما تتكون من معايير طبقية للاختلاط الاجتماعي. إن المحددات الطبقية للمكان وزبائنه تحدد بالتالي قواعد الاختلاط الاجتماعي وتواجد نساء غير متزوجات والملابس العارية نوعا ما- ميني جيب وبودي قميص ضيق أو قمصان بدون أكمام- كجزء من سلوك طبقي معتاد وبالتالي محترم.
ولكن حتي ضمن نطاق المقهي فإن الاختلاط بين الرجال والنساء- وأنماط الأنثوية المصاحبة- ليست بالاعتياد أو الإجماع البادي في أول وهلة. إن قراءة ما بين السطور في الدردشات والأداء المعتاد في المقاهي تساعد علي ملاحظة قلق مستمر وتوتر حول مسائل الاحترام. فبينما توافق زبونات المقاهي اللاتي أعرفهن علي أغلب المقاهي الراقية فإنهن يستمررن في مراقبة تلك الأماكن لبيان أي خرق لقواعد الاحترام. في ربيع 2002، كان مقهي ريترو الذي افتتح للتو حديث المدينة في دوائر الشريحة العليا من الطبقي الوسطي التي كنت أتحرك ضمنها. فبينما خلقت المقاهي والمطاعم الأخري جزرًا من الخصوصية لتجتمع بها شلل مكونة مسبقا إلا أن التصميم الداخلي لريترو والذي تضمن طاولة طويلة ومساحة جلوس مريحة ومشتركة تسمح بالمزيد من الاختلاط العابر. قررت هالة، وهي آنسة في نهاية العشرينيات وزبونة دائمة للمقاهي أن تتوقف عن زيارة هذا المقهي بالذات. كما قالت «هذا المكان يجذب الفتيات اللاتي يبحثن عن علاقات. انظري كيف يتقربن من بعضهن البعض؟» إن استمرارها في ارتياد هذا المكان سيضعها في مواقف محرجة. فما الأمر بالنسبة لمن سيراها هناك؟ هل يظنون أنها أيضا منطلقة و«سهلة» إلي هذه الدرجة وبالتالي أقل احتراما؟
تشارك هالة الكثيرات من غير المتزوجات في هذه المخاوف حول الاحترام. إن سمعة الشابة الجنسية لها أهمية قصوي بالنسبة لمكانتها في المجتمع وفرصها المستقبلية في الزواج. إن هذه السمعة هي المضمون الأساسي للنميمة وللقلق الدائم. تقترب الحوارات في المقاهي بشكل فكاهي من قضية الاحترام والعفة بالذات في المجموعات المختلطة. إن تكرار الإشارات اللاهية إلي أمور مثل الأخلاق والقواعد المفترضة عند لقاء الأصدقاء من الرجال أو علي سبيل المثال ارتداء السباحة مايوه مثير للدهشة بسبب طبيعتها العلنية المتعمدة. فهذه المواضيع تثار في وجود أصدقاء ومعارف من الرجال لإيضاح المخاوف حول الاحترام علانية كي لا يعتقد هؤلاء الرجال أن وجود المرأة في مجموعة مختلطة بالمساحة الترفيهية التي هي المقهي، يجعلها «متاحة» نوعا ما.
القرب والبعد
إن تكوين مجتمع محلي كوزموبوليتاني من المهنيين الشباب رواد المقاهي يعيد رسم خريطة الألفة والانتماء. إن رأس المال الكوزموبوليتاني ينال تقديرا عاليا كرأس مال ثقافي يفتح أبواب أفضل الوظائف والدوائر الاجتماعية ويؤكد أن الفرد ينتمي للرفاهية النسبية وسلاسة الحياة والأناقة الكوزموبوليتاني. إن المقاهي جزء من دائرة راقية أوسع من المنتجات والخدمات والأماكن والتي أصبحت بمثابة حقائق مكتفية ذاتيا داخل المدينة. بينما يشكل من هم أدني مباشرة في المرتبة من حيث الثقافة أو القدرة المادية أكثر نقاط المقارنة وضوحا إلا أن أشخاص وأماكن القاهرة الأخري تتحول إلي مجهول كامن وعالم خيالي خارجي. يمكن لمشاعر مثل الخوف والتجنب والقلق والتعاطف أن تكون جميعها جزءًا من الموقف من هذا الآخر. وبغض النظر عن كونها إيجابية أو سلبية فإن هذه المواقف توحي بعدم تعارف ومسافة كبيرين جدا. إن أغلبية القاهريين الذين يرون قاهريا آخر «يركن» سيارته بجوار باب مطعم أنيق يبدون بعيدين جدًا عن الاستمتاع بكوب الكابتشينو وهي تجربه تشترك أنت فيها، علي النقيض، مع ملايين حول العالم. إن المنتجات التي تنتمي إلي الثقافة العالمية تأتي بمتلازماتها من البعد، تعيد تشكيل المساحات الأخري جميعا وتحيلها إلي مجهول كامن وغير حقيقي.
المشهد في المدينة يحكي عن وجود
قاهرة أخري بدأت في الازدهار في ظل
الانفتاحسياسة الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في
منتصف السبعينياتوالتي شجعت الواردات
والاستثمارات الأجنبية في مصر
لقد نشأت ثقافة ترفيه جديدة ومميزة في تلك المقاهي وحولها يتبناها بشكل رئيسي مهنيون شباب غير متزوجين مثل دينا وميساء. ولكن المقاهي الكافيه ظاهرة جديدة. بدأت في الظهور في نهاية التسعينيات في مناطق مركزية وراقية مثل الزمالك والمهندسين وفي ضاحيتي هليوبوليس والمعادي. تفتتح الكافيهات الجيدة بشكل دوري مما يسبب زحامًا في الشوارع ويحول المناطق السكنية إلي وسط تجاري حيوي.
أجد دينا وقد اقتسمت طاولة مع صديقتنا المشتركة ميساء. إن هؤلاء النساء، في أوائل الثلاثينيات ولديهن وظائف في قمة السلم الاقتصادي، وهن جزء من طبقة جديدة من المهنيين تتميز بعلاقاتها وتطلعاتها الدولية. ومثل النساء الأخريات في رترو، ترتديان سراويل قطنية ضيقة أو بنطلونات جينز وقمصانا مماثلة في الضيق ومع ذلك فهن ضمن الحد الأدني للاحتشام حيث إن جميع أجزاء أجسامهن مغطاة باستثناء الأذرع. تصميم المقهي الصغير، والأعمال الفنية المعروضة به وبألوانه الهادئة وأثاثه الخشبي الحديث، يعطيان إحساسًا بالحداثة مع شعور دافئ يستعيد راحة المنزل. وتضع موسيقي تميل إلي الجاز منها أعمال لبونا فيستا سوشال كلوب Buena Vista Social Club ونورا جونز Nora Jones اللمسات النهائية.
قبل أن نبدأ في حوارنا نطلب بعض السلطات والساندويتشات من قائمة رترو الطويلة من «المأكولات المبتكرة» هكذا تقول دينا ونعطي طلباتنا لأحد الشبان الذين يرتدون زي رترو: جينز أسود وبولو شيرت تحمل اسم المقهي. يتحول حوارنا بسرعة إلي المدي الذي تتيح به المقاهي مساحات لقاء علنية جديدة خاصة للنساء. يقولون «نجحت المقاهي في أن تجمع الفتيات والنساء من بيوتهن والنادي». إن الوجود الطاغي للنساء في أغلب المقاهي الراقية هو أحد الملامح الملحوظة للحياة الاجتماعية التي تتبدي فيها. الاختلاط الاجتماعي غير المراقب بين الجنسين ووجود نساء بمفردهن في أماكن اللهو هي أمور عادة ما تحاط بالمحظورات والشكوك. ومع ذلك تمثل النساء المحجبات وغير المحجبات أكثر من نصف زبائن المقاهي الراقية. وقد اعتادت العديد من النساء المهنيات غير المتزوجات قضاء جزء كبير من وقتهن في مقاهي مثل ريترو.
بعد نصف ساعة تتم مقاطعة حوارنا عندما تنضم للطاولة صديقتان ويصل عدد متزايد من الأصدقاء والمعارف الذين تتم تحيتهم بحماس. لقد بدأت الحياة الاجتماعية في رترو تصل إلي ذروتها بعد انتهاء يوم العمل. يتحول حوارنا إلي خليط مرح من الحكايات الغريبة والأخبار المسلية التي تميز التسلية في المقاهي. لمقهي رترو الصغير نسبيا عدد كبير من الزبائن الدائمين مثل شلة كلمة من النص الأصلي ميساء التي تأتي بشكل شبه يومي ليلتقوا بأصدقاء ومعارف. تقول دينا التي تربطها صداقة بصاحب المقهي وتعرف أسماء كل العاملين فيه أن ريترو يمثل لها منزلاً ثانيا.
سبكترا كافيه هو مكان آخر ذو شعبية، يقع علي بعد بضعة شوارع خلف جامع مصطفي محمود الشهير في قلب المهندسين وقد زين بذوق رفيع بأثاث خشبي وينقسم إلي جزءين. يتيح الجزء الأمامي الهادئ أماكن جلوس للمجموعات الصغيرة بينما تحوي الغرفة الخلفية مساحات للمجموعات الكبيرة علي طراز المطاعم الأمريكية بـBenches خشبية تسمح بجلوس ستة أشخاص علي الأقل حول الطاولة. تعرض مجموعة من شاشات التليفزيون فيديوهات موسيقية من إحدي القنوات الموسيقية العربية الجديدة الشهيرة مثل ميلودي هيتس Melody Hits وإم تي في MTV اللبنانية. بينما تشكل أغان عربية وأجنبية مماثلة، الخلفية الموسيقية.
مساء أحد الأيام كان لدي موعد مع أحمد، مهني شاب في منتصف العشرينيات، للكلام حول الكافيات. عندما وصلت كان قد احتل طاولة في الغرفة الخلفية مع أخته وصديقة واثنين من أبناء عمومته. كان المكان مكتظا بشلل مختلطة من الشباب. صمت الجميع فجأة عندما جلست بجوار أحد أبناء عمومة أحمد ثم جاءت أخته وطلبت مني أن أبتعد قليلا عن جاري. قالت لي إنه شخص شديد التدين ولا يرتاح لجلوسي بجواره. عندما أصبحت وحدي مع أحمد وصديقته أتيحت لنا الفرصة أن نتحدث عن الكافيهات. شرح لي أنه يحب سبكترا بسبب مستوي زبائنه «أشخاص نظيفين ومحترمين» وبسبب طبعه الراقي وجودة الطعام والخدمة. قال أحمد إنه لم يكن مقبولا أن يقضي الشباب وقته في المقاهي، أما الآن وحتي إذا أصبحت الأزياء أكثر احتشاما فهناك المزيد من الحرية. وقد بدا أن الجمهور في سبكترا يؤيد كلامه ملاحظاته. اختلف سبكترا عن ريترو في أنه يجذب عددًا كبيرًا من الزبائن المحجبات. قالت لي صديقة أحمد التي تغطي رأسها، بمرح، إن الحجاب هو ببساطة إلزامي للمسلمين. ولكن ذلك لا يعني أن أسلوب حياتها يجب أن يكون مختلفًا عن زميلاتها ممن لا يرتدينه. فيما بعد لفتت انتباهي لفيديو كليب يتم فيه التركيز علي ثلاث فتيات طويلات يرتدين ملابس كاشفة ويرقصن بإغواء لإرضاء المشاهدين. قالت لي «هذا هو المفضل عندي».
إن المعادلة الانتقالية للمقهي الراقي تقحم نفسها في المجالات المهمة محليا والخلافية غالبا للترفيه والمجال الاجتماعي. في القاهرة، وقد مثلت المعرفة بالخارج بلاد برة وتبني الأساليب الكوزموبوليتانية الصريحة، مؤشرات للوضع الاجتماعي الراقي. إن الاختلاط الاجتماعي في أماكن الترفيه هو إحدي علامات نمط الحياة الكوزموبوليتاني. ولكنه أيضا مصدر للقلق والخلاف. في هذا الفصل أبحث في الأسلوب الذي يخلق به المقهي الراقي مساحة للانتماء الكوزموبوليتاني. وهذه المساحات تعكس التفاوت الطبقي في القاهرة الحديثة وتوضح كيفية تغير أنماط الاختلاط الاجتماعي بين الجنسين خاصة في الشرائح العليا من الطبقة الوسطي.
المساحات المقسمة
في بداية القرن الجديد تتميز القاهرة بدرجة عالية من التقسيم في مجالات الإنتاج والاستهلاك. يجب علي أغلب القاهريين أن يستهلكوا المنتجات والخدمات التي تتناسب مع قدراتهم الشرائية المحدودة في وقت ترتفع فيه التكلفة وتنخفض الضمانات الاجتماعية، كما أن معدلات البطالة مرتفعة وفترات الركود ممتدة. فعلي القاهريين إما أن يبحثوا عن الضمانات الاجتماعية المتاحة في نظام الدعم أو شراء منتجات عبر الأسواق غير الرسمية وعادة ما تكون تلك بضائع صينية رخيصة. مع ذلك وفي نفس الوقت تكشف أن المشهد في المدينة يحكي عن وجود قاهرة أخري بدأت في الازدهار في ظل الانفتاح سياسة الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في منتصف السبعينيات والتي شجعت الواردات والاستثمارات الأجنبية في مصر. وقد نمت تلك القاهرة الأخري بشكل كبير خلال فترة إعادة التكيف الهيكلي والسياسات النيو ليبرالية والسعي للاندماج في الأسواق العالمية في التسعينيات. فبينما يستمر معظم القاهريين في مواجهة الانخفاض المستمر للأجور الحقيقية وانحصار الدعم الحكومي في مجالات متنوعة مما يجعل الحياة مكلفة بشكل متزايد، تشهد القاهرة أيضا صعود برجوازية جديدة من المهنيين الأثرياء الذين ينتمون للشريحة العليا من الطبقة الوسطي. وفي وسط بطالة منتشرة بين خريجي الجامعة ومرتبات مبدئية شديدة الانخفاض، يعمل مهنيون شباب من أمثال دينا وميساء في الجزء الصغير، ولكنه المميز وذو التطلعات الدولية، من سوق العمل. في هذا الجزء من سوق العمل تكون المرتبات في الغالب ثلاثة إلي خمسة أضعاف ما يتم دفعه للمهن المماثلة في القطاعات «الأقل حداثة» من الاقتصاد الرسمي بما في ذلك القطاع العام الواسع والخدمات الحكومية. إن العلامات علي التحول إلي النيو ليبرالية والأسواق محفورة في المشهد القاهري. ترتفع فنادق الخمس نجوم والمباني التجارية اللامعة في الأحياء التجارية الجديدة. تبني المجمعات السكنية المغلقة في الصحراء حول القاهرة وتمتلئ شوارع القاهرة بالسيارات الفاخرة يتم استبدال منطقة وسط البلد تدريجيا بحي المهندسين الراقي كـ «وسط بلد» جديد لمن يملكون القدرة المالية. تقوم مناطق تتسم بالثراء مثل الزمالك والمهندسين وهليوبوليس والمعادي بخدمة المجموعات القادرة ماديا. يقوم عدد متزايد من المدارس الخاصة والمؤسسات والجامعات والمستشفيات بتقديم خدماتها للعائلات التي تقدر علي ترك الخدمات الحكومية المتداعية. في نفس تلك الأحياء توفر متاجر براقة مثل مترو وألفا ماركت المنتجات الضرورية لحياة مرفهة. يستطيع المرء أن يجد هنا محلات ملابس أنيقة لا تمتلئ عن آخرها توفيرًا للمساحة كما هو الحال في محلات وسط المدينة التي لم تعد عصرية. علي العكس فإن المحلات الراقية الحديثة تقدم منتجاتها وكأنها قطع فنية تنضح بالوعود بأناقة كوزموبوليتانية. تتميز كل تلك الأماكن الراقية بالمرجعية الكوزموبوليتانية للبضائع والخدمات المقدمة - من الكافية لاتيه إلي الأثاث الإيطالي والشهادات الدراسية الأمريكية- وبأسعارها المرتفعة نسبيا. أن المقاهي التي تخدم الشرائح العليا من الطبقة الوسطي تتقاضي أكثر من خمسة جنيهات لفنجان القهوة بما في ذلك 5 % ضرائب و 12% خدمة ويفرض أغلبهم حدًا أدني من الطلبات. قارن ذلك بالخمسين قرشًا أو الجنيه الواحد التي تتكلفها القهوة أو المشروب البارد في أي مقهي بلدي.
ملاعب الترفيه
لقد أخذ المقهي وضعا جديدا في خرائط الترفيه المتنوعة عبر العالم. إن طعم الكابتشينو أصبح علامة دولية قوية علي الارتقاء بالأذواق في التقسيمات المتنوعة والمختلفة للأنماط الثقافية. ومع أن المكانة التي يحتلها المقهي في الخارطة المحلية وشكل التميز الذي يمنحه الاعتياد علي الكافية لاتيه هي بالأساس أمور محلية إلا أن قدرتها علي التحديد وإكساب التميز والخصوصية يرجع إلي تجذرها في التيارات العالمية. وبالرغم من أن للعديد من المقاهي ملاكًا محليين إلا أنها تحمل بوضوح الطابع الأمريكي بما في ذلك المأكولات والمشروبات المقدمة فيها. إن العديد من المقابلات مع الملاك والعاملين بالمقاهي تشير إلي أن المقاهي أنشأها في البداية شباب قاهريون من أصحاب الخبرة الواسعة بالغرب.
وكما أخبروني فإن المقاهي هي مشاريع قليلة التكلفة ولكن عالية الربحية وهو السبب الذي يؤكده انتشارها السريع في السنين الأخيرة. عبر التجربة والخطأ تحولت سلسلتا المقاهي الأكثر انتشارا، سيلنترو والروستري من فروع صغيرة متخصصة في القهوة الفاخرة والأطعمة الخفيفة إلي نمطهما الحالي بمقاعد وثيرة ومريحة وقائمة طلبات أوسع تشمل الأطباق والمشروبات غير الكحولية لتناسب المفهوم المحلي عن النزهة.
يعجب البعض بالديكورات المنزلية الطابع والنمطية نوعا ما بينما يفضل الآخرون حداثة واختلاف سيلانترو بلمعان المعدن الطاغي عليه والوسائد المربعة بألوانها الأساسية أو النمط الأنيق والشاب لريترو بدفئه وحميميته. وبرغم اختلافها في الطراز وقوائم الطلبات والجمهور إلا أن المقاهي الراقية تمثل أبرز أماكن الترفيه التي يسهل التعرف عليها وتمييزها عن الأماكن الأخري التي تقدم بدورها مأكولات ومشروبات. بيد أن هناك قوانين ضمنية وحدًا أدني من المتطلبات ينبغي توفرها لجذب زبائن معينين والحفاظ علي المرتبة الراقية. من أكثر تلك المتطلبات أهمية وجود عاملين ونادلين من الشباب جيد التدريب ومهذب وأنيق كما يجب وجود أنماط وإشارات للانتماء إلي العالم الأول. تتميز وتبتعد تلك المناطق بشكل لا يقبل اللبس عن الأماكن الأخري وعن محيطها بطرازها الغربي ونظافتها المفرطة والصيانة المدهشة لمساحتها الداخلية كما يميزها التكييف الذي يكسبها جوا مريحا بشكل مستمر. لقد أصبحت هذه الأماكن جزء ًا لا يتجزأ من خرائط الأشخاص وحياتهم. يخدم بعضها المجموعات المميزة وتخدم أخري المجموعات الأصغر سنا. بعضها يعتبر مناسبا بينما ينظر إلي أماكن أخري من ضمنها علي أن روادها جمهور جريء، وكما سأحلل لاحقا فإن تلك التقسيمات لا تعكس إشارات إلي تفضيل طراز معين أو اختلاف منبعه السن فقط ولكن أيضا قلق منبعه مفاهيم حول ما هو مناسب لكل جنس وبالذات ما يعتبر محترما فيما يخص النساء.
تحمل العديد من المقاهي أسماء أجنبية مكتوبة دائما بالحروف الأجنبية وتسيطر اللغة الإنجليزية علي قوائم الطعام بدءا من قائمة بسيطة بالإنجليزية تتضمن أخطاء مطبعية حتي قوائم تكتب بالإنجليزية فقط مع شرح للأصناف يكتب بأسلوب شديد الكلاسيكية. وتشير تلك الاختيارات إلي نوع خاص من الزبائن يرغب صاحب المقهي في استقطابهم. استخدام اللغة الإنجليزية وادعاء ارتباط مباشر أو غير مباشر بمنشآت مماثلة في أمريكا الشمالية يضفي إحساسًا بالكوزموبوليتانية والخصوصية علي المكان وطعامه وشرابه وزبائنه. يقول سميث إن تذوق أنواع معينة من القهوة في المقاهي الأمريكية ما هو إلا ثقافة جديدة يسهل الوصول إليها. وفي مقاهي القاهرة يظهر التناقض الكبير بين المأكولات والمشروبات الأجنبية والمحلية. إن الشخص الذي طور تذوقه بأي شيء من الكابتشينو إلي دوبل اسبرسو يقف علي النقيض من هؤلاء المتمسكين بقهوتهم المضبوطة أو الزيادة. إن التميز هنا لا يكمن في معرفة وتذوق خصائص القهوة المتخصصة ولكن في الإحالة الكوزمبوليتانية للمأكولات والمشروبات وللمكان وزبائنه. وعلي نسق القوائم فإن اللغة المستخدمة في المقاهي هي هجين من العربية والإنجليزية والتي تميز المهنيين الشباب المنتمين إلي الشريحة العليا من الطبقة الوسطي فهي تختلط بشكل جيد بالديكور وقوائم الطعام التي تستمد إلهامها من العالمية.
إن كل الإشارات الأمريكية للمقاهي والمطاعم تحدد مدي ارتباط تلك المساحات بالجغرافيا المتغيرة للسلطة. إن المكونات المحلية للانتماء الكوزموبوليتاني لها تاريخ طويل في القاهرة. في زمن أبعد كانت أوروبا وفرنسا تحديدا هي مقياس كل ما هو أنيق، وكانت محلات كثيرة من التي تخدم الشرائح العليا من الطبقة الوسطي تحمل أسماء فرنسية وتبيع أحدث المنتجات والأزياء الفرنسية. كانت المنشآت الراقية في ذلك الوقت مثل جروبي والأمريكيين توحي بالانتماء الكوزموبوليتاني والتميز المحلي وكانت باريس هي المقياس الذهبي لهم. أما اليوم وكما قال أحد أصحاب المقاهي «يرغب الشباب في الشرق الأوسط في الطراز الأمريكي».
لا يشير استخدام الإنجليزية في الأسماء وقوائم الطعام والتواصل الاجتماعي فقط إلي أن المقاهي تبتكر سلعا جديدة ولكن أيضا أنها تقسم. فبينما هي تخلق إحساسا بالانتماء الكوزموبوليتاني إلا أنها في نفس الوقت تزيد من ابتعادها عن الأماكن المحيطة بها وعن أغلبية القاهريين «إلـ.. ما عندهمش لغة» بمعني أنهم لا يتحدثون بلغة أجنبية. في القاهرة الحديثة أصبح «امتلاك» لغة أجنبية وبالذات الإنجليزية يشكل انقساما كبيرا في صفوف الطبقات الوسطي المتعلمة. إن من درسوا في مدارس لغات ويتحدثون لغاتهم بطلاقة قد ولدوا وتربوا في عائلات «أفضل» ويستطيعون التطلع إلي العمل في الشرائح العليا من سوق العمل. ويتم إعادة إنتاج تلك الفروق علي مستوي المدينة في أماكن مثل المقهي.
«كأنك لست في مصر» تقول سيدة في الثلاثينيات وهي ترشح لي بحماس حانة في المهندسين وهي تزور أوروبا بشكل متكرر، فهي إذًا تعرف عما تتحدث. كان من الممكن فعلا أن تكون تلك الحانة في لندن الأنيقة أو في باريس أو نيويورك بديكوراتها القليلة والمقاعد الجلدية الزرقاء والإضاءة الخافتة وأنواع الكوكتيلات المعروضة. بينما لا يزال وجود حانة مصدرا للدهشة والفرح كونها تنتمي إلي العالم الأول في القاهرة، إلا أن العكس صار منتشرا. إن الأماكن والمتاجر الراقية التي تعرض كل الأصناف الموحية بالكوزموبوليتانية أو المجمعات التجارية الخاصة لم تعد تسبب أي تعجب أو تعليقات من شباب الشريحة العليا من الطبقة الوسطي الذين قابلتهم خلال بحثي. في خلال بضعة أعوام أصبحت تلك هي الأماكن التي تتكشف فيها حياة الشرائح العليا من الطبقة الوسطي. إن مقاهي مثل رترو وبينوز وتباسكو تشير إلي عضوية في مساحة كوزموبوليتانية تتسم بكونها محلية وقاهرية ومصرية وفي نفس الوقت جزءًا من مجال أوسع ينتمي للعالم الأول. هي أماكن لمشاريع طبقية محلية حيث تحدد دلالات كوزموبوليتانية واضحة الانتماء إلي الدوائر الأعلي من الإنتاج والاستهلاك.
أماكن جديدة، اجتماعيات جديدة
إن الاجتماعيات المختلطة وأفعال المهنيين من الشرائح العليا من الطبقة الوسطي الذين يرتاحون للتواجد في مقاهي القاهرة تبدو غير متكلفة. إلا أن تلك الاجتماعيات المميزة - اختلاط الشباب والشابات- لا تمثل نمطًا متفقًا عليه. لقد شكلت ممارسات الصفوة الترفيهية بعض أوضح الإشارات التي توحي بالحداثة وبالانحلال، حسب اعتقاد من يعلق. إن القضية الخلافية الأساسية فيما يتعلق بالممارسات الترفيهية لدي الصفوة هي طبيعتها المختلطة: اختلاط الرجال والنساء في الأماكن العامة. لقد نجحت المقاهي في جذب جمهور مختلط أوسع وإلي حد ما أقل خصوصية. إن تلك التجمعات تصبح مثيرة للاهتمام لو أخذنا في الاعتبار الطبيعة الإشكالية للتجمعات المختلطة بعيدا عن رقابة العائلة والمحظورات المعتادة حول وجود السيدات وحدهن في أماكن لهو عامة دون تبرير عملي من نوع العمل أو الدراسة.
بالمقارنة بالمقاهي في البيئة الغربية والتي تختص بنوع محدود من النشاط ووقت محدد من اليوم فإن المقاهي القاهرية تستضيف ثقافة ترفيه شاملة شبيهة بثقافة الترفيه الليلية في المدن الغربية. وبالنسبة للكثير من نساء الشريحة العليا من الطبقة الوسطي، فإن تلك هي الأماكن الوحيدة، التي يمكن وجود حياة اجتماعية بها خارج نطاق العائلة. في مساء الخميس تصبح بعض المقاهي علي نفس درجة زحام الحانات مساء السبت في المدن الغربية. تلتقي «شلل» من الشباب لاستعراض آخر صيحات الملابس وتبادل الغزل الخفيف. لقد نجحت المقاهي إلي درجة كبيرة في تقديم إحساس بالعالم الأول بين أفراد الشريحة العليا من الطبقة الوسطي بينما تتفادي أي ارتباطات مشينة بالترفيه الليلي في المدن الغربية. إن غياب المشروبات الكحولية ووجود محددات طبقية وجنوسية متأصلة في المعادلة الانتقالية تساعد علي تحديد المقهي كمساحة محترمة ومتميزة، تعرف بأنها آمنة ومحترمة للاجتماعيات المختلطة.
وتستمر تلك التجمعات في العادة حتي العاشرة أو الحادية عشرة ليلا وهو الوقت الذي يتوقع فيه عودة النساء غير المتزوجات إلي بيوتهن. قد قيل لي بمزاح «كلنا عندنا شبشب في البيت» وهي عبارة شائعة تستدعي إلي الذهن صورة آباء غاضبين ينتظرون أولادهم بأحذيتهم في أيديهم ومستعدون لضرب من تخالف موعد عودتها إلي المنزل. إن الرقابة العائلية هي سمة مهمة في حياة نساء الشريحة العليا من الطبقة الوسطي غير المتزوجات اللائي يعشن مع عائلاتهن بلا استثناء تقريبا. إن المسئولية تجاه العائلة والمساءلة من قبلهم حول سلوكها، هي أمور لا تنتهي بمجرد أن تصبح الفتاة بالغة أو تحصل علي دخل مستقل. قالت لي العديد من الشابات إن مواعيد العودة إلي المنزل ليلا وضعت لتحمي سمعة العائلة أمام الجيران. وتري هذه الرقابة عامة كجزء أساسي من المسئولية العائلية في حفظ البنت من الانحراف وبالتالي حماية سمعتها ومستقبلها. بينما يملك الرجال بعض المساحة لاختيار الأماكن التي يقضون فيها أوقات الترفيه إلا أن هذا ليس هو الحال بالنسبة للنساء. إن حضور النساء في الحياة العامة المهنية والترفيهية أصبح لازما بالنسبة لنمط حياة الشريحة العليا من الطبقة الوسطي، ولكنه حضور هش حدث فقط في مساحات مغلقة تتضمن طبقة واحدة من المجتمع ويكون الاحترام والحماية هما شرطا دخول النساء هذه الأماكن. إن مسارات شابات الشريحة العليا من الطبقة الوسطي اللاتي تعرفت إليهن في القاهرة تعتمد علي خرائط طبقية. الأماكن المناسبة للنساء هي أماكن راقية. فقط في هذه الأماكن يمكن للنساء أن يكن علي «راحتهم» بما في ذلك أن يرتدين ويختلطن اجتماعيا كما يشأن دون أن تتم مضايقتهن أو ينظر إليهن كسيئات السمعة.
إن الأسعار المرتفعة في المقاهي والحد الأدني للطلبات يساعدان علي منع دخول من لا ينتمون إلي الطبقة «المرتاحة». إن هذا النوع من الاختيار الاجتماعي أساسي بالنسبة لمظهر المقهي. من المتوقع أن يكون كل الزبائن من مستوي ثقافي مماثل ويلتزمون بمعايير اجتماعية وأخلاقية مماثلة. لا يرغب العديد من الزبائن أن يشاهدوا في أماكن تتردد عليها «ناس بيئة» وهو لفظ ازدرائي يطلق علي من ينتمون إلي «طبقة اجتماعية أقل» بأذواقهم الرخيصة والقديمة. وعادة ما تدعم تلك المعايير الاقتصادية، سياسة للدخول. ويعتبر أحد مديري المقاهي تلك المعايير الانتقائية علي أعلي درجة من الأهمية عندما قال «لدينا سياسة دخول لأننا لا نريد زبائن غير مؤهلين» وقال إنه يعني بغير المؤهلين الشباب الذين يرتدون ملابس تبدو رخيصة أو من يغازلون الآخرين أو من مثيري الشغب والصخب. إن الخوف المستمر من جذب من ينتمون لمستوي اجتماعي أقل لا ينبع فقط من أهمية الحفاظ علي المحددات الطبقية ولكن يحركه أيضا الخوف من اعتقاد أن هؤلاء الرعاع لن يلتزموا بالقواعد الضمنية للاختلاط الاجتماعي. إن الشباب الذين يبهرهم وجود النساء قد يغازلون أو يتحرشون بالزبائن أو قد تأتي بعض النساء بهدف مصاحبة الزبائن الأثرياء. إن تلك المخاوف تعكس اعتقادات حول أماكن اللهو المختلطة الأقل نخبوية والتي يعتقد عامة أنها أسواق للعلاقات السهلة التي قد يتضمن بعضها تبادل النقود. إن الطابع الاجتماعي النخبوي للمقاهي يخلق مجتمعا مظهريا ويخلق إجماعا علي عادية نخبوية غالبًا ما تتكون من معايير طبقية للاختلاط الاجتماعي. إن المحددات الطبقية للمكان وزبائنه تحدد بالتالي قواعد الاختلاط الاجتماعي وتواجد نساء غير متزوجات والملابس العارية نوعا ما- ميني جيب وبودي قميص ضيق أو قمصان بدون أكمام- كجزء من سلوك طبقي معتاد وبالتالي محترم.
ولكن حتي ضمن نطاق المقهي فإن الاختلاط بين الرجال والنساء- وأنماط الأنثوية المصاحبة- ليست بالاعتياد أو الإجماع البادي في أول وهلة. إن قراءة ما بين السطور في الدردشات والأداء المعتاد في المقاهي تساعد علي ملاحظة قلق مستمر وتوتر حول مسائل الاحترام. فبينما توافق زبونات المقاهي اللاتي أعرفهن علي أغلب المقاهي الراقية فإنهن يستمررن في مراقبة تلك الأماكن لبيان أي خرق لقواعد الاحترام. في ربيع 2002، كان مقهي ريترو الذي افتتح للتو حديث المدينة في دوائر الشريحة العليا من الطبقي الوسطي التي كنت أتحرك ضمنها. فبينما خلقت المقاهي والمطاعم الأخري جزرًا من الخصوصية لتجتمع بها شلل مكونة مسبقا إلا أن التصميم الداخلي لريترو والذي تضمن طاولة طويلة ومساحة جلوس مريحة ومشتركة تسمح بالمزيد من الاختلاط العابر. قررت هالة، وهي آنسة في نهاية العشرينيات وزبونة دائمة للمقاهي أن تتوقف عن زيارة هذا المقهي بالذات. كما قالت «هذا المكان يجذب الفتيات اللاتي يبحثن عن علاقات. انظري كيف يتقربن من بعضهن البعض؟» إن استمرارها في ارتياد هذا المكان سيضعها في مواقف محرجة. فما الأمر بالنسبة لمن سيراها هناك؟ هل يظنون أنها أيضا منطلقة و«سهلة» إلي هذه الدرجة وبالتالي أقل احتراما؟
تشارك هالة الكثيرات من غير المتزوجات في هذه المخاوف حول الاحترام. إن سمعة الشابة الجنسية لها أهمية قصوي بالنسبة لمكانتها في المجتمع وفرصها المستقبلية في الزواج. إن هذه السمعة هي المضمون الأساسي للنميمة وللقلق الدائم. تقترب الحوارات في المقاهي بشكل فكاهي من قضية الاحترام والعفة بالذات في المجموعات المختلطة. إن تكرار الإشارات اللاهية إلي أمور مثل الأخلاق والقواعد المفترضة عند لقاء الأصدقاء من الرجال أو علي سبيل المثال ارتداء السباحة مايوه مثير للدهشة بسبب طبيعتها العلنية المتعمدة. فهذه المواضيع تثار في وجود أصدقاء ومعارف من الرجال لإيضاح المخاوف حول الاحترام علانية كي لا يعتقد هؤلاء الرجال أن وجود المرأة في مجموعة مختلطة بالمساحة الترفيهية التي هي المقهي، يجعلها «متاحة» نوعا ما.
القرب والبعد
إن تكوين مجتمع محلي كوزموبوليتاني من المهنيين الشباب رواد المقاهي يعيد رسم خريطة الألفة والانتماء. إن رأس المال الكوزموبوليتاني ينال تقديرا عاليا كرأس مال ثقافي يفتح أبواب أفضل الوظائف والدوائر الاجتماعية ويؤكد أن الفرد ينتمي للرفاهية النسبية وسلاسة الحياة والأناقة الكوزموبوليتاني. إن المقاهي جزء من دائرة راقية أوسع من المنتجات والخدمات والأماكن والتي أصبحت بمثابة حقائق مكتفية ذاتيا داخل المدينة. بينما يشكل من هم أدني مباشرة في المرتبة من حيث الثقافة أو القدرة المادية أكثر نقاط المقارنة وضوحا إلا أن أشخاص وأماكن القاهرة الأخري تتحول إلي مجهول كامن وعالم خيالي خارجي. يمكن لمشاعر مثل الخوف والتجنب والقلق والتعاطف أن تكون جميعها جزءًا من الموقف من هذا الآخر. وبغض النظر عن كونها إيجابية أو سلبية فإن هذه المواقف توحي بعدم تعارف ومسافة كبيرين جدا. إن أغلبية القاهريين الذين يرون قاهريا آخر «يركن» سيارته بجوار باب مطعم أنيق يبدون بعيدين جدًا عن الاستمتاع بكوب الكابتشينو وهي تجربه تشترك أنت فيها، علي النقيض، مع ملايين حول العالم. إن المنتجات التي تنتمي إلي الثقافة العالمية تأتي بمتلازماتها من البعد، تعيد تشكيل المساحات الأخري جميعا وتحيلها إلي مجهول كامن وغير حقيقي.
المشهد في المدينة يحكي عن وجود
قاهرة أخري بدأت في الازدهار في ظل
الانفتاحسياسة الانفتاح الاقتصادي التي بدأت في
منتصف السبعينياتوالتي شجعت الواردات
والاستثمارات الأجنبية في مصر
