مصطفى نصر - لغز اختفاء شاعر الإسكندرية

سرت يوم 17 سبتمبر 1982 من بيتي بحي راغب باشا – كعادتي كل يوم جمعة – في طريقي لندوة تعقد في بيت عبد الله هاشم – بأرض الفولي بباكوس. واجهتني قوات الأمن المركزي المصطفة في مواجهة كلية الهندسة، استعدادا لاقتحامها.
كنتُ قد وصلت إلي صفوف الجنود المستعدة للإقتحام، وتوقفت سيارة ملاكي أمام الجمع المصطف، ربما لتوقف السيارات الكثيرة أمامها، فمد جندي - يقف في الصف الأمامي – ذراعه نحو السائق قائلا:
- تحرك بسرعة، فسوف نهجم الآن.
أحسست بقلق، وتحركت بعصبية، فقد يصطدموا بي وهم يسرعوا نحو الكلية
لكن أحد الضباط الواقفين أمام الطوابير، اقترب من الجندي وصاح فيه غاضبا:
- لا شأن لك بما يحدث.
فأطلق سائق السيارة نفير سيارته في عصبية وقلق، ليدفع السيارات الواقفة أمامه للتحرك، كان يخاف من أن يهجموا وهو يقف بسيارته أمامهم.
وقتها كان عبد النعيم – طالب الهندسة - يخطب في زملائه الغاضبين لما فعلته إسرائيل في اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، فقد سمحت لهم المليشيات المسيحية للمرور والوصول لمخيمي صابرا وشاتيلا، ذبحوا خلال يومي الخميس والجمعة 16 و17 سبتمبر 1982ما بين الألف والألف والخمسمائة من المدنيين الأبرياء العزل.
عبد النعيم هو أشهر شاعر في الإسكندرية الآن، ليس على مستوى كلية الهندسة، ولا جامعة الإسكندرية وإنما على مستوى الإسكندرية كلها. فقصائده في الغزل تنقلها الطالبات في كشاكيلهم، وكل واحدة تتمنى لو توقف لدقائق وتحدث معها، حتى الشباب – زملائه في الكلية – يعجبون بشعره وبنشاطه السياسي والإجتماعي، لذا، عندما تقدم لرئاسة اتحاد طلبة الإسكندرية، حصل على الأغلبية دون أن يتعب نفسه، الطلبة في كلية الهندسة، وفي الكليات الأخرى، قاموا بكتابة اللافتات، وتعليقها في كل الكليات، النظرية والعملية.
وقصائد عبد النعيم السياسية والحماسية يحفظها الطلبة ويرددونها من وقت لآخر.
عبد النعيم هو الذي نادي بالإعتصام داخل مبني كلية الهندسة، وتوافد الكثير من الكليات الأخرى والمواطنين العاديين بعضهم لا يحمل سوى مؤهل متوسط، وبعضهم لم يذهب أصلا للمدارس.
وصلت الهتافات العالية في الكلية للقوات المستنفرة والقلقة في قسم شرطة باب شرقي القريب، وتردد اسم عبد النعيم بين شفاه المسئولين، مدير مباحث أمن الدولة، ومدير أمن الإسكندرية واللواء حسن أبو باشا وزير الداخلية.
يجلس عبد النعيم الآن بجوار زملائه، بعضهم من خارج كلية الهندسة، وبعضهم زملاء له، اقربهم إليه منى الخطيب – زميلته في الكلية – وشاعرة العامية المعروفة على مستوى الإسكندرية كلها. طالبات الكلية يحسدنها لاهتمامه بها، يتنهدن في أسى وهن يسمعن أشعار غزله، فهي المقصودة بكل هذا الحب.
منى الخطيب معروفة باتجاهاتها اليسارية، لذا، الجماعات الإسلامية - التي نشطت منذ أن حكم السادات البلاد- يكرهونها، فهي غير ملتزمة بالزي الإسلامي، تتحداهم بملابسها العارية، وافكارها التقدمية.
لكن ما فعلته إسرائيل في اللاجئين العزل في صابرا وشاتيلا جعل الكل يتضامن ضدهم ( يسار ويمين – ناصريون وماركسيون وجماعات إسلامية(
اقترب مرسي – وهو معيد في كلية الهندسة ملتحي – من عبد النعيم ومنى،. تعرف منى أن مرسي يحبها، ويعرض خدماته عليها بإلحاح وفجاجة، لكنها لا تطيقه. هي كل لحظة تحس بحب أكثر لعبد النعيم، ولن تحب سواه، لا يهمها إن كان مرسي معيدا أو حتى استاذ كبير في الكلية، فلو جاءها عميد الكلية نفسه، راغبا في الزواج منها، لن تتخلى عن عبد النعيم من أجله.
يتقرب مرسي منها، الطلبة والطالبات لاحظن ما يفعله، يتابعن تقربه منها، وابتعادها عنه، لقد صاحت في عبد النعيم – حبيبها – لأنه سمح لمرسي بالإقتراب منهما، فقال لها:
- لابد أن نتماسك حتى تمر الأزمة.
قوات الأمن هاجمت بيت عبد النعيم في حي كرموز، فتشوا الشقة التي يسكنها مع أخيه الكبير، بدوي شقيق عبد النعيم يعمل في إصلاح السيارات، يسكن شارعا قلما تمر فيه سيارة، ففي منتصفه سلالم عالية تشغل جزءُ من الشارع، هذا الوضع يريح بدوي – فهو يشتري السيارات القديمة، يدق في صاجها بالساعات، حتى اعتاد سكان المنطقة على دقه، صاح الضابط الكبير فيه:
- واخد الشارع كله لحسابك؟!
ما الذي فعله عبد النعيم حتى تأتي القوات بهذه الكثرة للبحث عنه. سيارات الإزالة حملت سيارات بدوي والأدوات التي يعمل بها، نقلتها لجهة بعيدة. حتى دكانه – الذي يقف فيه ابنه – لبيع قطع غيار السيارات، فتشوه، ورموا بضائعه على الأرض.
عندما ذهبت قوات الشرطة حاملة سياراته القديمة وعدده وأدوات ورشته، اقتربت زوجته منه، قائلة:
- ماذا ستفعل مع أخيك هذا؟
الخسائر كثيرة، وهو ليس في قدرة الدولة وشرطتها، لن يسمحوا له بعد ذلك بأن يشغل الشارع بسياراته القديمة التي يصلحها.
اعادت الزوجة سؤالها عليه، فهي تضيق بوجود عبد النعيم وشقيقه الصغير في شقتها. الفرق كبير بين سن زوجها وسن أخويه الصغيرين. فوالدهم تزوج أم عبد النعيم بعد أن ماتت أم بدوي بسنوات كثيرة، فانجب منها عبد النعيم وشقيقه الصغير، ومات الرجل المسن، تاركا ولديه لينفق ابنه الكبير عليهما، الإثنان تعلما في المدارس، وحصل عبد النعيم على مجموع مكنه من الالتحاق بكلية الهندسة، وقتها غارت زوجة بدوي، فهي لديها ابناء بعضهم أكبر من عبد النعيم، كلهم فشلوا في المدارس، وتفرغوا لمهنة إصلاح السيارات، وبيع قطع غيارها، فطلبت من زوجها ألا يساعد أخويه في مصاريف التعليم، فليعملا مثل أولادها، لم يستجب بدوي – وقتها لرغبات زوجته – قال لها:
- لقد وصاني أبي عليهما.
لكن الأمر اختلف الآن، ويا روح ما بعدك روح. فليذهب هو وأخوه للجحيم، فليذهبا لامهما التي تركتهما وتزوجت بعد موت زوجها المسن بأقل من عام. كما أن زوجة بدوي تلح عليه لطرد الولدين من الشقة والبيت كله، لتزوج ابنها الكبير معها في الشقة، الشقة كبيرة ويمكن أن تتسع لعائلتين.
اقتحمت قوات الأمن المركزي كلية الهندسة، هناك توصية بالقبض على عبد النعيم بصفة خاصة، وصديقته منى اللذان يقودان التمرد.
استطاع مرسي – المعيد – من الهرب، لجأ لحجرات اساتذة التدريس التي يعرفها جيدا، وتم القبض على عبد النعيم ومني الخطيب. صفعوا مني في عنف، وحلقوا شعر عبد النعيم وأهانوه، لكنه ظل متماسكا، بقى في قسم شرطة باب شرقي لعدة أيام، ثم نقلوه لسجن الحدراء. بعد أيام قلائل خرجت منى الخطيب من قسم شرطة باب شرقي، قابلها مندوب من مباحث أمن الدولة، قدم المشروبات إليها، واعتذر لها على سوء المعاملة، تعلل بأشياء كثيرة، القلق الذي تعيش فيه البلاد، وأوامر ووزارة الداخلية في القاهرة، قال الضابط لها:
- اعلم أن الدكتور مرسي يحبك.
لم تجبه، ارادت أن تقول له: هو مازال معيدا، ولم يحصل على الدكتوراة.
لكنها كانت متعبة ومنهارة، وفي حاجة لكي ترتاح، فأومأت له برأسها، وفجأة وجدت مرسي أمامها يبتسم، ويمد يديه إليها.
سارت معه، لم تقل كلمة واحدة، فريقها جف، وتحس بطعم المرارة في فمها، وصل بها إلى البيت، قابل والدها وأمها وأخوتها، سمعتهم يشكرونه لأنه كان سبب انقاذها من عناء السجن وعذابه. قالت أمها:
- كم حذرتك من هذا الولد المتشرد.
نظرت إليها في أسى ولم تجبها، تعاملت الأسرة كلها مع مرسي على إنه خطيبها، وسوف يتزوجها في القريب.
غياب عبد النعيم عن كلية الهندسة، جعلهم يفصلونه، ويحولوا أوراقه للتجنيد، لذا خرج من سجن الحدراء إلى منطقة التجنيد في مصطفى باشا.
لقد تغيرت كل الأشياء، لم يأت أحد للسؤال عنه، لا شقيقه بدوي ولا يعرف مصير شقيقه الصغير، هل مازال يعيش مع أخيهما الكبير بدوي، أو ذهب ليعيش مع أمه وزوجها. حتى منى الخطيب ابتعدت عنه، يقولون ان تجربة القبض على السياسي لأول مرة، تحدد مصيره، فقد تزيده التجربة إصرارا، أو تجعله يتخلى عن كل ما سبق أن نادي به واعلنه. ومنى الخطيب مرت بتجربة القبض عليها لأول مرة، فغيرت كل شيء فيها.في أول إجازة لعبد النعيم، ذهب لبيته، وجد كل الأشياء قد تغيرت، قالت زوجة أخيه، فصلوك من كلية الهندسة، فأصبحت مساويا لأولادي.
وقال بدوي أخوه:
- نفذت وصية أبوك أنت وأخيك الصغير، وفعلت ما اقر عليه، ولا يقدر على القدرة سوى الله.
وقف عبد النعيم قائلا:
- لا أفهم ما تريد قوله.
- ليس لك مكانا عندي لا أنت ولا شقيقك الصغير. الشقة لا تكفيني أنا وأولادي
- لكنها شقة والدي.
- اشتكيني.
قال وهو يتجه ناحية الباب:
- وأين أخي الصغير؟
- طردته، ولا اعرف مكانه، قد يكون لدى أمه، اذهب إليها.
سار عبد النعيم في شوارع الإسكندرية، كان جائعا، دخل مطعم شهير للطعمية في محطة مصر، أكل ثم سار ثانية، وجد نفسه قريبا من بيت منى الخطيب، فصعد سلالم بيتها، وقف في الظلام منتظرا أن يفتحوا باب الشقة الذي دقه.عندما فتح الباب، سمع صوت مرسي يتحدث مع والد وشقيق منى الخطيب، قال عبد النعيم للفتاة الصغيرة التي فتحت الباب:
- اريد منى.
جاءوا معا: والد منى وأمها وشقيقها الكبير، قال والدها:
- معذرة، ارجوك، ابنتي تجلس مع خطيبها الآن.
وقالت الأم في ثورة:
- وهي لا تريد رؤيتك.
جاءت منى ومعها الدكتور مرسي، بدت لحيته وقد إزداد حجمها، قالت وهي تضع يدها في ذراع مرسي:
- تفضل يا عبد النعيم.
وقال مرسي مبتسما:
- تفضل يا عبد النعيم.
هبط الدرجات القليلة، وهو يسمع صوت أم منى بوضوح، راغبة في ألا يأتي ثانية إليهم. لم يعد عبد النعيم إلى الجيش، ولا إلى البيت، جلس قريبا من سيدي أبي العباس المرسي، كل شيء قد ضاع منه، كلية الهندسة، ومكانته كأفضل شاعر في الإسكندرية كلها، وبيته، وأسرته. ياااه، وحبيبته منى الخطيب، ذهبت لمن كانت لا تطيق وجوده. مر الوقت – وازدادت برودة الجو، تناثر رذاذ البحر من شدة الموج، بعض الماء وصل لوجهه وملابسه، فقام، سار ناحية أبي العباس المرسي، خلع نعلية، حملهما وسار داخل المسجد، كانوا "يذكرون" ففعل معهم، ترنح كما يترنحون، وردد ما يقولون. مر الوقت لم يحس بمروره، فجأة سمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر. هذا المكان مناسب له، ففيه كل شيء الشعر والغناء، ومكان للنوم، واطعمة تأتي من وقت لآخر، لا يدري من أين تأتي.
عالم عجيب، سيدات بعضهن جميلات ورشيقات يتحركن في خفة، ويقضين كل الوقت في المسجد، يطبخن، ويتحدثن، ويحكين، امرأة هاربة من زوجها الذي لا ترتاح لمعاملته، يأتي كثيرا، يتحدث مع كبار المشايخ لكي يؤثرن عليها لكي تعود لبيته وأولاده، لكنها مصرة على البقاء بجوار ضريح أبي العباس المرسي.
شعراء الإسكندرية رأوا عبد النعيم في المقاهي التي يجتمعون فيها، وقد تغيرت هيئته، شعر رأسه كبر للغاية، وأصبح غير منظم، ولحيته طالت، أصبحت أطول من لحية الدكتور مرسي الذي خطب منى الحسيني. جلس معهم على قهوة البوابين، تحدث معهم في الشعر الصوفي، وشرب شايه وقهوته، ثم استأذن وعاد إلى مقره قريبا من ضريح سيدي أبي العباس المرسي.
وغاب عبد النعيم، قوات الشرطة بحثت عنه، فتشت شقة بدوي وورشته ومحل بيع قطع غيار السيارات، فصاحت زوجة بدوي:
- هذا ما نأخذه من أخويك.
وبدوي يصيح في القوات التي تبحث عنه:
- لا نعرف مكانه، لقد طردته.
يبتعد عبد النعيم عن الإسكندرية كلها، تباعد عن ندوات الشعر في الإسكندرية الذي كان نجمها، لم يسأل أحد من أسرته عنه، أمه مشغولة بزوجها الجديد وأولادها منه، وأخوه، لا يريد أن يراه لا هو ولا شقيقه الآخر.
وترددت حكايات غريبة عن عبد النعيم، فشاعر معروف في مدينة قريبة من طنطا، اعلن بأنه عند عودته الي بيته مساء، قالت زوجته إن عبد النعيم، جاء إلى البيت وسأل عنك. ( زوجته تعرفه جيدا، فكثيرا ما زاره في بلدته وفي بيته، كما أنها رافقت زوجها في رحلاته الكثيرة إلى الإسكندرية، ورأت عبد النعيم وتحدثت معه )اتصل الشاعر بشعراء الإسكنددرية وابلغهم بما حدث، وناقدة سكندرية- والدها شاعر معروف وكان قريبا من عبد النعيم- اكدت بأنها رأته بين المنشدين في مسجد السيد البدوي في طنطا، وشاعر سكندري كبير أكد بإنه رآه يطوف حول الكعبة وهو يحج منذ سنوات.
عملت منى الخطيب مهندسة بحي من أحياء الإسكندرية، وانجبت ولدا وابنتين من زوجها الدكتور مرسي الذي حصل على الأساتذية. وشعراء الإسكندرية يشاهدونها كثيرا وهي جالسة بجوار زوجها في المناسبات الأدبية الكبيرة.صار غياب عبد العيم لغزا محيرا، لا يعرف أحد هل هو زار الشاعر الذي يسكن المدينة القريبة من طنطا، وهل حقا شاهدته الناقدة وهو ينشد مع المنشدين في مسجد السيد البدوي، وهل رآه الدكتور حقا وهو يطوف الكعبة، أم إن كلها أوهام وخرافات، وحكايات غير حقيقية.
وفي افتتاح مؤتمر ادبي في قصر التذوق بسيدي جابر، وقف شاعر وتحدث مع فاروق حسني وزير الثقافة، طالبا منه أن يساعد شعراء الإسكندرية في الوصول لعبد النعيم.ولم يجب وزير الثقافة بشيء. ومازال أمر عبد النعيم محيرا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى