حين اخترت الخوض في هذا المبحث المتعلّق بالتحوّلات في مكوّنات القصّة، كنت واثقة من القدرة على الإحاطة بها ومحاصرتها قدر الإمكان من خلال مطالعاتي لبعض النصوص السردية الوجيزة لقاصّين من الوطن العربي. وقد بدا لي حينها أنّ تلك التحوّلات بارزة ولافتة للانتباه للعارف وغير العارف، ولن أجد عناء كبيرا في رصدها بالقياس إلى مكوّنات القصّة المعروفة عند بروب.
اليوم وأنا أكتب عن التحوّلات في القصّة وبعد اطّلاعي على تجربة القاصّ المغربي علي بنساعود1 في القصّة القصيرة جدّا، أجدني قلقة ومتعثّرة إلى درجة ما. ولعلّ السبب المباشر لهذا القلق تجاه هذه التحوّلات يكمن في شدّة تشعّبها وخطورة عمقها واتّساع دوائرها وهول تنوّعها، حيث شكّلت مجتمعة في نصوص بنساعود شبكة عنكبوتيّة مخيفة ومدهشة أسَرت القصّة وسلخت عنها جلدها القديم ولفّتها في نسيج جديد لتخرج في حلّة قصيرة جدّا وبقالب مغاير وقلب جديد.
ليس بإمكان أيّة مقاربة نقديّة أن تقول كلّ شيء أو أن تشير إلى التحوّلات كلّها في هذه النصوص، مهما ادّعت ذلك، فهذا أمر شبه مستحيل لسبب بسيط أ لا وهو أنّ النصوص الإبداعيّة زئبقيّة لا تُقنّن ولا تُحصر، لأنّها متجدّدة دوما ولا تهدأ، فما أن تُحكم قبضتك على مكوّنات نصّ حتّى تنبثق مكوّنات جديدة في نص آخر.
وبكلّ تأكيد، كلّ قراءة لنص هي مغامرة، لا تعرف كيف تبدؤها وإلى أين سينتهي بك المسير. هي محاولة للتفاعل مع اسم من الأسماء وبعض نصوصه القصصيّة الوجيزة لرصد بعض التحوّلات الطارئة على فنّ القصّة، وقد تكتشف إرهاصات أخرى في مغامرة جديدة مع اسم آخر ونصوص مغايرة.
يمكن القول إنّ القصّة القصيرة جدّا كانت نتيجة المتغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في العالم. وبما أنّنا نعيش في عصر التّغيّرات الدّائمة، والتّحوّلات المستمرة، فالأدب يساير هذه التغيّرات، وبتنا أحوج اليوم إلى قصّ وجيز يناسب وتيرة الحياة السّريعة. ولم يعد خافيًا على المتابع للحراك الأدبي، أنّ الإبداع يسلك درب الإيجاز. والقصّة الوجيزة باتت مؤخّرا جزءا من المشهد الثقافي العربي، وقد ازداد متابعوها، ووجدتْ لها مكاناً في شجرة السرد.
وعلي بنساعود من الكتّاب المتميّزين الذين عالجوا القصّة القصيرة جدّا علاجا خاصّا في فضاء سرديّ محدود بعدد من الأسطر والكلمات وتناول مواضيعه على "أساس رأسيّ لا أفقيّ" على حدّ عبارة الإيرلندي فرانك أوكونور O’ connor في كتابه "الصوت المنفرد". هو محترف يدرك ما يفعل في مجاميعه. وما ينفكّ يخيّب أفق الانتظار بخياراته وحيله السرديّة المقلوبة والمضادّة للمنطق وللألفة في آن واحد على حدّ عبارة الناقد السعيد بوطاجين. كتابة وجيزة مثيرة واعية بالتقنيات وبالمكوّنات الضرورية للنص السرديّ الوجيز المستحدث، وبهذا الوعي يضع فاصلا بين الأقصوصة والقصّة الوجيزة ويصنع الفارق بين العارف وغير العارف.
ونحن لا نزعم أنّ من سلك درب الوجيز مختلف، بل هو لا يختلف عن أيّ مبدع آخر من حيث التجربة الشعورية، والصدق، والعمق، واللغة، ودقّة الملاحظة، وقوّة الذاكرة، وسعة الخيال، والقدرة على الإمتاع» فثمّة عناصر مشتركة يستمدّها الأدب الوجيز من شجرة الأدب الحبلى بكلّ جديد.
ولكن إن نظرنا إلى جنس النص، فنحن نتّفق أنّ لكلّ جنس أدبيّ تقنياتِه ومهاراتِه، كذلك للقصة القصيرة جدّا ألاعيبُها وخدعها السردية وتيماتها الدلاليّة والفنّيّة. ولعلّنا نجحنا في محاصرة بعض التحوّلات في أربعة مستويات: في منسوب الخيال، في الحبكة القصصيّة، في اللّغة وأساليبها ثم التحوّلات الشكليّة في الفضاء البصريّ.
1) التحوّلات في منسوب الخيال في القصّة:
إنّ المجموعات القصصيّة الوجيزة تتميّز بتنويعات كبيرة في الموضوعات إلى حدّ التباين، وعادة ما تشكّل الحياة اليوميّة المرجع الأساسيّ للأقاصيص. والمتأمّل في المخيال العربي قديمه وحديثه يرى أنّه بدأ يضيق بجماليّاته وآليّاته شعرا وسردا، ولعلّ المخيّلة العربية اليوم بدأت تعترف بجمودها إلى حدّ الاهتراء والاستهلاك البليد لكلّ مسالكها وصورها والخانق لكلّ ابتكار. فهل يمكن أن تصبح المخيّلة عقيمة؟ إنّ الحديث عن عقم المخيّلة غير وارد، بل المخيّلة دائمة النبض والتجدّد لارتباطها بالرغبة الملحّة للبشر في التجديد وتجدّد الفكر الإبداعي الجمالي للبشر. فكما قال السيّاب: "ما الفائدة إذا لم نكتب الجديد؟"
فظهرت القصّة الوجيزة تحاول تخطّي حدود الواقع، وتجاوز اللّغة المألوفة والخيال السائد، وراحت تشهد تحوّلا في منسوب الخيال، لتأسيس كتابة قصصيّة جديدة تتحرّر فيها المخيّلة من كلّ الأنساق اللغويّة والمعرفية والثقافيّة المألوفة، كتابة صادمة للخيال السّائد قبل الواقع.
وفي هذا المضمار ننزّل هذه التحوّلات الطارئة على القصّة، فالقصّة الوجيزة اليوم تحاول أن تتجاوز ذاتها وأن تغترب في فضائها لتطأ بالخيال حقولا جديدة غير مألوفة، وأن تخلق فضاءات أخرى تُكسر فيها الحدود بين الواقع والخيال لتتشكّل بإمكانات مختلفة.
والقصّة الوجيزة لم تعد تستأنس بالفواصل بين المتخيّل والمرجعي وباتت قادرة على أن تخلخل جدليّة الممكن واللّاممكن وتعبّر عن الإنسان ووجوده بامتياز. كما هو الحال في قصّة "مفتاح"(2):
على الجسر التقينا،
علّقنا القفل على الدربوز،
شبكنا الأيادي،
رمينا المفتاح للأسماك...
يمتدّ إصبع متردّد، يطفئ النّور...
في الزاوية المقابلة،
"بورتريه" يشبهني يبدو بريئا...
يتأمّل في حياد تامّ...
نصوصه الوجيزة تكشف عن قوّة تخييليّة كبيرة للكاتب، إذ يلجأ إلى المغالاة في الخيال هادما بذلك السببيّة الدّاخلية التي نتصوّرها بين الأحداث أو بين المقدّمات والنهايات. فلا رابط بين المشهد والحقيقة: جسر، قفل، مفتاح، وإصبع يطفئ النّور، عناصر متنافرة موغلة في التخييل إلى حدّ السرياليّة، من هما؟ ما صلتهما؟ الجسر قنطرة للعبور من مكان إلى آخر بينهما عائق، الجسر مكان الوصال والالتقاء، في هذا المكان تمّ صفد اليدين على دربوز الجسر ورمي المفتاح، وهي حركة تنمّ عن قرار بعدم الافتراق مهما كان العائق، ثم إصبع مجهول يطفئ النّور، يعني باتا في ظلمة حالكة، هل نرى في الظلام؟ يرى وجهه البريء يتأمّل في حياد، تخلّى عن براءته الأولى ووخمه، لبس وجها آخر استعدادا للصّراع القادم، فالبراءة طور في الحياة لا بدّ أن ينقضي ويحيد عنه لاستقبال طور جديد، هو في مرحلة انتقاليّة مجهولة المصير وهو ما رمز إليه بالظلام.
ولعلّ الخيال أصدق وأبقى من الواقع الذي يصبح عنصرا شاذّا وغير ضروريّ في هذه القصص القصيرة جدّا رغم أنّه المقصود منها. فيأتي الواقع ممحوّا مضمرا يعيده التأويل إلى النص عند التشريح ومحاولة القارئ الربط بين النص والواقع.
فهل بات الخيال هدفا؟ لقد حرص الكاتب على تغليبه وإخراج الأفكار من دائرة العادي اليومي إلى متخيّل فنّيّ، وفي ذلك قدرات استثنائيّة وجهد خصيب لبنساعود على جميع الأصعدة في حياكة نصوصه الوجيزة. كقصّة "لوعة"(3):
عرفته صانع عرسان،
طلبت منه واحدا،
بتفاصيل دقيقة...
أتاني به، وكان برأسين،
أخذني أحدهما في نزهة باذخة، في حقول ممغنطة...
في طريق العودة، صارحني الثاني:
"تخونني كلماتي، وأنا أراكما تشربان من كأس بلا قعر..."
له طاقة تصويريّة جبّارة تؤكّد الجانب التخييلي القويّ في قصصه وهو ما يضمن الدهشة، حين ينتقل بك من عالمك الخاص القائم على المنطق والعقل إلى عوالم أخرى منفتحة على الخيال واللامعقول واللّامتوقع.
2) التحوّلات الفنّيّة:
+ التحوّلات في مستوى الحبكة القصصيّة:
قبل المضيّ في محاصرة هذه التحوّلات الفنيّة في القصّة القصيرة جدّا، لا بدّ من التعريج السريع على مكوّنات القصّة القصيرة أو الأقصوصة. من الطّبيعيّ أنّ القصّة القصيرة أخذت مداها طوال قرن مضى على أيدي مئات من كتّابها مثل «موبسّان وزولا وتشيخوف»، لتثبت شكلها وتكوينها، وقد اكتملت في اعتقادنا المحاولات النّقديّة لتحديدها. إذ تشترط حضور مجموعة من العناصر الفنيّة اللّازمة في بنائها:
الحدث والحبكة: يشكّل الصّراع الذي يدور بين الشخصيّات أو بين الشخصية الرئيسية وذاتها. وتحبك الأحداث في بنية سرديّة ثلاثيّة منسجمة ومتطوّرة من الهدوء إلى الأزمة ثم إلى الحلّ: البداية تتّسم بالهدوء والاستقرار. ثم سياق التحوّل تظهر فيه لحظة الأزمة وينشأ الصّراع والاضطراب. ثم النهاية وفيها لحظة انفراج الأزمة وعودة إلى هدوء مخالف للأوّل. ومن الطبيعي أن تكون النهاية سليلة منطقيّة للأزمة ومقنعة غير مفاجئة. فلا بدّ من ترابط الأحداث ترابطا سببيّا وأن تجري إلى هدف يتقصّده الكاتب وهو ما يطلق عليه باتّساق التصميم. فلا تقبل القصّة مبدأ التجاور دون رابط علّيّ. وعلى هذه الحبكة يرتكز التشويق.
الشخصيّات: تكون قليلة، أو واحدة، وقد تكون بشريّة أو حيوانيّة، لها مرجعيّات مختلفة، فيها بطل وشخصيّات مساعدة ومعرقلة، وعادة ما تسند إليها هويّة (اسم، سنّ، عمل، وضع اجتماعيّ) وملامح جسميّة ونفسيّة ولها أقوال وأفعال، ويقدّمها السارد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
المكان: له وظيفة الإيهام بالواقع، وقد يكون فاعلا في الشخصيّة ومثيرا لمشاعرها، وهو أنواع وقد يكون مطلقا أو رمزيّا يحيل على أفكار الكاتب وقيمه فلا يتّصل بسياق القصّة إلّا ظاهريّا.
الزمان: هو ضرورة ملحّة للإيهام بالزمن الواقعيّ، ولا يقلّ شأنا عن المكان، فكلّ حدث لا بدّ له من زمان محدّد، غير أنّ الزمن لا يجري وفق نسق منتظم، بل يجري زمن القصّ في ضوء الاختيارات التي يضبطها المؤلّف لنفسه: السرد المفصّل المشهدي، السرد المجمل بتلخيص بعض الأحداث والفترات الزمنيّة، الحذف والإسقاط الكلّي بتعمّد إحداث ثغرة في السّرد بإسقاط كامل لبعض الأحداث.
ولم تبتعد القصة الوجيزة عن تبنّي هذه العناصر الفنّية، ولكن بعبارة أدقّ يقول أبو المعاطي أبو النجا(4): "المسالة ليست في تعريف القصّة القصيرة جدّا عن طريق تحديد عناصرها أو الخصائص التي تتميّز بها عن القصّة القصيرة، وإنّما المسألة في الطريقة التي يتعامل بها الكاتب المتميّز مع هذه العناصر." ونفس المبدإ نجريه على القصّة القصيرة جدّا، فالتحوّلات الطارئة عليها تتّصل بطرق تصريف الكاتب لعناصر القصّ، وتنويع أساليبه وتجديد تقنياته، ليقدّم لنا عملا فنّيّا يجمع بين القديم والجديد ويحمل هويّة تجاوزيّة جديدة.
والمكوّنات القصصيّة في هذا الشكل القصصي الجديد حسب جميل حمداوي في كتابه مكوّنات القصّة القصيرة جدّا": "هي تلك الأركان الثابتة في تشكيل المعمار النصّي". وبالاحتكام إلى ما هو ثابت ومتحوّل يمكن أن نحاصر هذه الأركان.
في البدء نلاحظ أنّ الحدث حافظ في القصّة الوجيزة على رتبته الأولى في هذه الأركان. فبدون خبر وحكاية وحدث لا سرد. فيأتيك الكاتب المتميّز بالحدث القصصي ركيزة أساسيّة في معماره النصّيّ، ثم يلحقه بسمة القصر الشديد.
ومتى نظرنا في أقصر قصّة قصيرة جدّا بعنوان "تواصل"(5)، عثرنا على فضاء سرديّ متكوّن من ستّ كلمات، لكنّه لم يفتقر إلى القصصيّة:
انتظرت ردّه. كان صمته طلقةَ رصاص.
من الواضح أنّ القاصّ الواجز يحتاج إلى إلغاء التّفاصيل، وقد يكتفي بفعل أو فعلين حسب الحاجة والمقصد. لكنّ الحدث يتشكّل فكرة أو حالة تمثّل لحظة قصصيّة مفاجئة وخاطفة غالباً ما تكون مقتطعة من الحیاة الیومیّة. على غرار هذه اللّحظة القصصيّة بين المرأة وهذا الرجل الذي نجهل نوع الصلة بينهما، لكنّ الحدث بينهما يستدعي انتظار جواب عل طلب مسكوت عنه. ترى ماذا طلبت حتّى تلقى منه صمتا قويّا قاتلا بوقع رصاصة؟
فالكاتب يثير القارئ بتجاوزه للمتعارف عليه. ويوقظ الأسئلة في ذهنه بمهارة العارف بمكوّنات القصّة الوجيزة. فيزعزع ذوقه بوعي سرديّ جريء شكلا ومتنا وبناء، وله وراء ذلك مقاصدُ مدروسةٌ تخلخل ذلك العقد المبرم بين الكاتب وقارئه. فهو لا يحفل بالفعل بقدر احتفاله بخلق إحساس عميق بالحالة.
ورغم أنّ هناك تنظيراً حول بنية القصّة القصيرة، فإنّنا لا نستطيع البناء عليها في القصّة القصيرة جدّاً لتعقّد الموقف، وتشظّي الأحداث التي تخلّصت من بنائها الثلاثي السّائد. فما عدنا نجد بداية بسماتها المعروفة والمتدرّجة نحو الأزمة فالحلّ، بل يدخل الكاتب في الحدث مباشرة.
في حين أنّه يولي أهمّية قصوى للنهاية \ القفلــــة، قفلة مفاجئة، منها ينطلق التّأويل، وإليها يستند الـتّعليل، قفلة غير متوقّعة، تأتي عفوية وتبعث على التّأمل والتّساؤل، وتضفي جمالية دلالية على النّص لما تكتنزه من عوالم ممكنة تقفز إلى ذهن القارئ، مثل هذه القصّة بعنوان "الفساد"(6):
فاجأهم العسس. حاصروهم.
حجزوا بضائعهم المعروضة على الطريق العام.
تعذّر عليهم حجز بضاعتها.
أوقفوها. قدّموها أمام العدالة من أجل:
"التحريض على العنوان".
مخاتلة بارعة للقارئ بإعادته إلى رأس القصّة وهو العنوان، بنية دلاليّة دائريّة متّصلة، لن نفهم عجزهم عن حجز بضاعتها المعروضة إلاّ بالدمج بين آخر كلمة في القصّة "العنوان" وعنوان القصّة "الفساد"، تصوير قصّة بغيّ تعرض جسدها بضاعة للبيع، فتمثل أمام العدالة بتهمة التحريض على الفساد.
والخاتمة تُعدّ مقوّما أساسيّا في القصة القصيرة جدًا لأنّ فيها التّحفّز والإدهاش. وشدّتني كثيرا النهايات المثيرة وغير المتوقّعة أبدا مثلما هو وارد في هذه القصّة بعنوان "نصيب" من نفس المجموعة:
رمت الخاتم في وجه خطيبها.
وضعت رسالة على الطاولة.
صفقت الباب خلفها.
وقع بورتريه قديم لوالدها على الأرض.
فتحت الأمّ الرسالة: "ماما. تسعدني سعادتك"
قفلة غير متوقّعة وصادمة، من كان يتوقّع أنّ هذه الشابة التي عبّرت عن غضبها بردود أفعال عنيفة: رمت الخاتم، صفقت الباب، هي مغدورة من أمّها التي خانتها مع خطيبها. وسقوط صورة والدها أرضا، هو سقوط رمزيّ فيه احتجاج على سقوط القيم وتدهورها ونزول النّاس عند أهوائها ونزواتها وشهواتها. فهل الحرمان العاطفي والجسدي والفراغ المعنوي يمكن ان يكون عذرا لتخون أمّ ابنتها؟
صورة وامضة، مشعّة لتمرير رسالة اجتماعيّة هادفة. فالكاتب لا يفصّل السرد ولا يسهب في التفسير، بل يفجّر ذهن القارئ بالتفاصيل، فترتسم القصّة بحيثياتها وفق فهم القارئ وثقافته وبيئته.
فالخاتمة هي من أهمّ المواضيع التي تستثيرنا في كتابة القصّة الوجيزة، فهي حصيلة الفكرة، بل تتويج للقصّة، وهي لحظة الكشف عند القارئ، لحظة الصّدم والإدهاش والإرباك.
فالقصّة الوجيزة تتوفّر فيها المقوّمات السرديّة كالأحداث والشخصيّات والمكان والزمان والأساليب، ولكن تُوظّف كلّها بكثافةٍ وإيحاء لتتّخذ سمات جديدة لم يألفها المتلقّي، إلى أن تصبح الشّخصيّة عبارة عن علامة سيميائيّة تحضر بضمائر مختلفة في متن يقصر إلى أن يصير سطرا.
شخصيّات نكرة، لا تحمل هويّة ولا اسمًا ولا صفات إلّا بما يجود به الكاتب من صفات محدودة وظيفيّة ينتقيها لغايات دلاليّة. وقد يغيب الزمان والمكان في بعض القصص، كما هو الحال في قصّة "نشر"(7):
جاءته تطرطق العلك.
نظر إليها. بلع ريقه.
مدّت له محاولتها الشعريّة.
قرأها. كتب عليها: "صالحة للنشر".
ابتسمت. حدّد لها موعدا.
نشرها قبل الموعد.
لا أطر محدودة، ولا هويّة مكشوفة، ولا صفات مُرسلة، بل هو الاقتصاد ما أمكن، والاقتضاب المتمكّن الذي لا يحتمل الزوائد المخلّة بجماليّة هذا الجنس. بل اعتمد الإيحاء الشديد ليجعل القارئ يبذل جُهدًا كي يتفاعل مع النصّ ومدلولاته، وتحفّز ذاكرة المُتلقّي وتحثّ خياله على التأويلٍ والتفسيرٍ والاستنتاجٍ الإيديولوجيّ انطلاقا من المفردات التي يستعملها الكاتب بعناية فائقة. فكلمة "نشر" مشحونة بالإيحاء ولن تبخل المعاجم بتزويد القارئ الباحث بالدلالات الممكنة في هذا السياق المخصوص بين شاعرة وناشر.
+ التحوّلات في مستوى اللّغة وأساليبها:
° اللّفظ: إنّ الكتابة الأدبية ليست مجرّد فصاحة في اللغة وتدفّق في الأسلوب وجموح في الخيال. وكاتب القّصة الوجيزة يستعمل اللّغة استعمالا خاصّا، يختار ألفاظه بعناية، يمرّ بنا عبر لغة مكثّفة، عبر محطّات يجبرنا فيها على التوقّف والتأمّل في العمق الدّلالي، وإعادة القراءة للخروج بحصيلة ممتعة من الصور التي تبني عالم القصّة، بل الكاتب بأسلوبه يكثّف لقطة ويشحنها بفلسفته وثقافته ومواقفه.
والأسلوب هو "تفجّر طاقات التعبير الكامنة في اللّغة" عند شارل بالي. فتطالعنا ظاهرة أسلوبيّة قد تبدو في الوهلة الأولى متعارضة مع سمات الوجيز، وهي تواتر المفردة وتكرارها وتقاربها في المخارج، كما نعثر على ذلك في قصّة "وداد"(8):
ودّا لو يلتقيان.
التقيا.
ودّ لو يقطف شهدها.
ودّت لو تبرق النجوم بين عينيه نهارا.
ودّ...
ودّت...
تدانيا.
كادت ترفع يدها لولا أنّ سكّرها ذاب في فنجان عينيه...
تصوير للحظة ودّ ووصال برع الكاتب في خلق موسيقى داخل لغة السّرد وكأنّي باللّغة تدندن لهذين العاشقين بترديد حرف الدّال وتتغنّى بلقائهما بإنشاد لو المتكرّرة. وهذه خاصّيّة أسلوبيّة تضمنها ثقافة الكاتب وموهبته الفذّة في نسج نصوصه بتقنيات عديدة، وذائقته الجماليّة الفنّيّة التي تنهل من حقول عدّة: الشعر وإيقاعاته، الموسيقى، المسرح، السينما...
فإنّ لغة القاصّ الواجز خصوصًا، لغة سرديّة شاعريّة إيحائية، لا تكتفي بأن تسرد وتصف، وإنّما تشترط أن تحمل شحنة عاطفية بكثافات متفاوتة.
° التكثيف: من الأساليب الثابتة في القصّة القصيرة جدّا التكثيف، ولا بدّ أن نشير إلى أنّ التكثيف خصيصة أسلوبيّة أقرّها الدّارسون في فنّ الأقصوصة. في حين أنّ التحوّل الذي تشهده القصّة الوجيزة يكمن في درجة التكثيف وفي اتّساع طاقة المفردة وتعدّد إمكانات تأويلها، كما هو واضح في قصّة "غابة"(9):
كان الأطفال يرسمون الرّبيع.
تسلّلت بندقيّة.
روّعت الطيور والفراشات...
جمل قصيرة تختزل أفعال الطغاة وجرائم الإرهاب المتسلّل إلى المجتمعات، من اغتيال للطفولة واغتصاب للأحلام وتشويه للوجود. فالكاتب اختزل أحداثا إنسانيّة قد تُسيل الحبر للتعبير عن تفاصيل المعاناة في مئات الصّفحات، اختزلها في تسع كلمات. كلّ كلمة في هذه القصّة نواة تتفجّر في ذهن القارئ إلى شظايا من الصّور. فالإيجاز والتكثيف يولّدان بياضات وإيحاءات تحتاج قارئا يسدّها عبر إعادة بناء القصّة بآلية التخيّل والتأويل. والقارئ الذي لا يملك من المعاول للتفجير سوى ذكائه وذوقه وثقافته المشتركة مع المؤلّف يصبح في السرد المكثّف منتجا ويجد مخيّلته أَمَامَ تَحِدٍّ حَقيقيٍّ لينسجَ مع الكاتب نَصًّا نَاضِجًا مُكْتَمِلاً.
وهذا التكثيف الشديد قد يخفق فيه الكثير من الكتّاب لصعوبته. إذ من اليسير الوقوع في السرد الطلسمي والتعتيم، فيستغلق المعنى، ويضيع الفتيل بين الكاتب والقارئ ويغيب الخيط وتتوارى الدّلالة فيأتي الظلام. كمال العيادي في حديثه عن القصّة القصيرة جدّا في مقال منشور بجريدة القاهرة يقول: "غرفة السرد لا نثقلها ضوءا، ولا نحرقها ظلاما، هي كتابة تتخفّى وراء غمزة الإشارة وغنج العبارة، وتتقنّع وتتمنعّ ".
ولعلّ التكلّف في التكثيف والتركيز سينتج نصوصا ينبغي علينا أن نجد لها تجنيسا مغايرا للقصة القصيرة جدا.
° السّرد والوصف: واللّافت للنّظر هيمنة الأفعال على جمل السّرد لتأكيد جانب الحدثيّة والحركة والفاعليّة. فالفعل يملك طاقة قويّة لتخزين الدلالات. فهو بؤرة القصّة القصيرة جدّا. وبدا هذا واضحا في قصّة "كلّ شيء إلاّ..."(10) حيث أتى السرد متقطّعا ومتطوّرا خاليا من الرّوابط:
دأبت تهاتفه وتطرق بابه.
دأب يتجاهلها.
ردّ عليها اليوم.
شكّت في الأمر.
ذهبت إليه في أبهى حللها...
دخلت. سلمت. جلست تترقّب...
قام نحو الباب. أحكم إغلاقه. انصرف...
يئست من فتح الباب، من عودته.
تصوّرت كلّ شيء، إلّا أن يعود في حالة غير طبيعيّة،
بعد الفجر، و...
استفاق ظهرا. وجدها تبكي.
شدّ يدها. سار نحو الخارج يجري...
هذا السيل من الأفعال شحذ القصّة بالحركة. جمل فعليّة برقيّة مقتضبة وسريعة تتحرّك في مناخ لغويّ مفكّك تهيمن عليه مواطن الفصل إذ عمد الكاتب الى تغييب تامّ لوسائل الرَّبط اللفظيَّة، وتتجاور الجمل في استقلال واضح لتبقى الروابطُ المعنوية وسيلة القارئ لتحقيق الاتِّساق والانسجام الدّلالي في النص. وهذا الفصل الظاهر بين الجمل الخاطفة والمتوالية ظاهرة لافتة في كتابة القصّة الوجيزة تتلاءم مع التكثيف الذي يعتمد التلميح والإيحاء دون إلغاز، فالحادثة تصوّر علاقة حبّ من طرف واحد، حكاية امرأة كسرت الحدود بين الحبّ والكرامة ولم تحفظ ماء وجهها، فأذاقها الحبيب ألوانا من الذلّ والهوان والاحتقار: تجاهلها، احتقرها لمّا أتت إليه، تركها وانصرف، وهي على حالها تترقّب عودته، ولمّا عاد فجرا أساء إليها وأبكاها، وهي إساءة مضمرة، للقارئ أن يتأوّلها، ربّما اعتدى عليها ضربا أو تجريحا أو اغتصابا.. كلّ الإمكانات واردة مع امرأة أضعفها الحبّ وحوّلها إلى أنثى رخيصة مستعدّة للتنازل عن كرامتها لتكون قريبة ممّن تحب. يثير الكاتب قضايا إشكاليّة مسكوتا عنها في المجتمع العربيّ، الحبّ والكرامة عند المرأة العربيّة ونظرة الرّجل إليها.
ولم يتجرّد سرد الأفعال الوجيز والسّريع من الوصف. ولكن إن حدث وحضر الوصفُ، يكون أفعالا واصفة وموجزة ومقصودة دون استطراد أو جملا اسميّة واصفة مثلما هو وارد في قصّة "ممرّ"(11) يصف الكاتب حالة مريض يموت في إهمال في ممرّ المستشفى بعد معاناة مستمرّة ومواعيد مؤجّلة:
شحب. هزل.
تأجّل موعده مرارا.
هي في الطابور.
هو ممدّد أرضا في الممرّ.
أخيرا ناداه مناد.
رفع رأسه. ابتسم. و...
صرخت زوجته...
وصف هادف ليس على وجه الترف أو الإغناء، بل دوره أساسيّ مثل السرد في بناء المعنى وتشكيل الصور. وإذا كانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرّس خبير باللّغة، قاصٍّ بارعٍ في البلاغة ومتقنٍ للّغـة بمستوياتها.
° الحذف والإضمار:
وأمر آخر ملفت للانتباه في لغة القصّة الوجيزة يتجلّى في علامات الحذف وعلامات الوقف، تقنية للتواصل غير اللّغوي مع القارئ، ودعوة مضمرة إلى قراءة أمتع بملء مساحات البياض وتأويل الفراغات. فبلاغة الحذف تعني أنّ الكاتب يقول الكثيرَ من خلال ما لا يقوله! وقد تحقّق الحذف والإضمار في مجاميع علي بنساعود بالنقاط المتتالية وهي ظاهرة لافتة لا تخلو منها قصّة، وأحيانا بحذف بعض الحروف من الكلمة، في نص "رحلة"(12):
حاولنا سدّ الثقوب...
كنّا نغرق...
نغر...
نغ...
أو حذف كلمة كاملة ليتمّها القارئ، مثلما يظهر ذلك في قصّة "رسالة":
يصل المركب متأخّرا.
أزدحم مع المنتظرين...
لم يكاتبني أحد.
أتأبّطني و...
أو في نص "مطر":
كانت السماء غائمة ذلك الصباح.
تجمّعوا ينتظرونها أن تمطر.
أرعدت. أبرقت. ما أمطرت.
توسّلوا. تضرّعوا. ما أمطرت.
صرخوا. زمجروا. ما...
غضبوا. أرعدوا. أبرقوا.
وأمطروووا.
انبعثت العيون والمجاري.
كنست الأزقّة والشوارع.
رُويت الحقول...
أينعت. أزهرت. و...
وعلامات الحذف هي أساس الإضمار ولها مهام دلاليّة وجماليّة، تعكس شكلا معيّنا من أشكال التفكير، بل علامات الوقف ليست مجرّد محطّات تنفّسيّة بل هي من توابع التفكير ولا يضبط مقاديرها ومواطنها قانون سوى الفكرة المعبّر عنها كما يقول نوفارينا: "الفكرة تنفّس"، وهو ما تؤكّده قصّة "رحلة":
حاولنا سدّ الثقوب...
كنّا نغرق...
نغر...
نغ...
وما الحذف هنا سوى تجسيد لانقطاع النفس أثناء الغرق، والمقصد إشعار القارئ بمشهد الغرق وألم الاختناق عبر الحذف، فهو عمليّة تجسيد للأفكار وتشكيل تعبيريّ للمعنى.
وهذا الحذف حقيقة مُغر ومثير، له بلاغته، ويصبح فيه القارئ هو الفاهم والمعبّر والباني. وهنا تصبح العملية معكوسة، فيكتفي الكاتب بالإشاره ليتيح للقارئ العباره، وننتقل من حيز الفهم الواحد إلى رحاب الفهم المتعدّد. والمتلقّي اللّبيب يكتشف المضمر ويمتعه البحث وملء الفراغات
أمّا المفارقات والسخرية والتناصّ والرّمز فهي سمات لم تختصّ بها القصّة القصيرة جدّا بل أقرّها الدّارسون منذ تعريفهم للأقصوصة وقد يشتر ك فيها الشعر والسرد. فهي أدوات ووسائل توظّف بكلّ عناية في كلّ عمل فنّي: في الشعر، في القصة، في الرواية، في الرسم التشكيلي، في النّحث، في المعمار، في الرّقص ... فهذه السمات تسكن الحياة، وتغني النص وتمنحه أبعادا.
3) التحوّلات الشّكليّة في الفضاء البصري:
عموماً التّكثيف والإيجاز واللّغة الإيحائيّة... كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد والشّطط والإطناب. لذلك تحوّل حجم القصص من القصير إلى المقتضب. فمجموعات علي بنساعود شهدت تفاوتا ملحوظا في حجم قصصه:
+ أقصر قصّة تتكوّن من سطرين وستّ كلمات: "تواصل"(13) وعلى غرارها قصّة "إتقان"(14): أجروا له عمليّة غسل دماغ... صدئ...
+ أطول قصّة قصيرة جدّا تتكوّن من 13 سطرا و80 كلمة: "نظرة"(15)، وهي قصّة طويلة نسبياً تعادل صفحة.
والمجال الفضائي في النّصوص الوجيزة ليس جانباً هامشياً أو ترفاً فكرياً أو لعبة مجانيّة، بل توجد قصديّة من وراء ذلك التشكيل الهندسي للكلمات والسطور. فإنّ النص القصصي القصير جدا لم تعد خصائصه الفنية الجماليّة ترتكز على اللغة فحسب بل تُراعي الجانب البصري مثلما وزّع علي بنساعود كلماته بين السواد والبياض، حيث نثر النص على طريقة القصيدة الحرَّة مما يعطي القصة انطباعًا شاعريًّا،
وأحيانا يرسم الكلمة مقطّعة عموديّا و أفقيّا، كلّ حرف منها في سطر: "ميثاق" من مجموعة ظلال ذابلة:
تعاهدا على الحلو والمرّ.
تارة هُو ي
ج
رُّ
أخرى هي ت
د
ف
ع
ا ن ق ط ع الحبل
... ا
ل
ه
ا
و
ي
ة.
وهذا التشكيل التعبيري البصري إيحائي جدّا تتوافق علاماته مع طبيعة الفعل: فتقطيع الكلمة عموديّا حرفا حرفا يناسب وتيرة الجرّ أو الدفع والسقوط نحو الهاوية بعد انقطاع الحبل، رمزا لفشل العلاقات المتنافرة المحكومة بالعناد والتعنّت ومآلها المأساوي بسبب سقوطها في الصراعات القاتلة شيئا فشيئا حدّ الهلاك كسقوط الكلمات حرفا حرفا حتّى الاندثار والتلاشي.
وأحيانا يخرج عن المسار العمودي إلى المسار المائل يمينا أو يسارا ليرسم بذلك المسار ذلك الانحدار أو الاختناق أو الاهتزاز أو النوم في اللحظة التي تتعرّض إليها الشخصية، كما يرد ذلك في قصص: تاجر \ حيّة\ هذا القادم\ لوحة.. ويقول في "لوحة"(16):
وقف أمامها.
بدت له تتحرّك. تغمز. تتعرّى. تهمس: "هيت لك".
حوقل. صرخ: "معاذ الله"
طعنها...
انفضّ الج
م
هـ
و
ر
انفضاض الجمهور فردا فردا كانفراط الكلم حرفا حرفا. وذلك لتحقيق غاية مقصودة واعية وهي الإدهاش وإثارة فضـول القارئ وكسر أفق توقع القارئ المعتاد وما ألفه من كتابة خطّي للسرد، وتأسيسا لأفق جديد.
فالكاتب يمتلك القدرة على شحن كمٍّ هائل من الدلالات بتشكيله وتنضيده نصه على الشكل الذي قدم على الرغمِ من قصر نصه
الخاتمة:
إنّ النماذج التي يقدّمها الكاتب بنساعود في القصة الوجيزة تشي بأنّ هذه التحوّلات هي حركة جديدة تجاوزيّة تحثّ على القراءة وتُعنى بالشأن الثقافي والنقدي باعتبار الكتابة فكرا حيّا وخيالا متجدّدا ومشروعا ثقافيّا هادفا وليست مجرّد تسلية.
القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة. لكن قد يكرر القاص نفسه. ووجدت في تجربة بنساعود ما يرضيني وما لا يرضيني، ولعلّه يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية، تحدّد خصائصها، وتبرز محاسنها، وتقف على نقائصها سواء في موضوعاته، أو طرائق الكتابة، أونمطية الأسلوب.
لكن يبقى السؤال المهمّ: هل يمكن أن تهدّد هذه التحوّلات المتجدّدة في مكوّنات القصّة كيان القصّة وتنزع منها هويّتها؟ وإن حدث أ لا ينبغي علينا أن نجد لهذه النصوص الجديدة قالبا وقلبا تجنيسا آخر مناسبا ومغايرا للقصة القصيرة جدا حتّى نحافظ على هذا الجنس من خطر الانسلاخ؟
1- علي بنساعود أستاذ للتعليم الثانوي، إعلامي وقاص من المغرب، مدير سابق لجريدة "فضاء سجلماسة" الجهوية، ومراسل للعديد من الصحف الوطنية، نشر بالعديد من المنابر الورقية والإلكترونية الوطنية والعربية. صدر له: ظلال ذابلة (ق.ق.ج) \ انحناءات ملتوية (ق.ق.ج) \ رايات بلا عبير (ق.ق.ج) \ رسومك حيطاني (ق.ق.ج) \ حائك العتمات (ق.ق.ج) \ دوامة الخيول المرحة (قصة قصيرة).
2- علي بنساعود، رسومك حيطاني، الرباط، مطبعة الأمنية، 2016، ص41.
3- علي بنساعود، حائك العتمات، المغرب، مطبعة وراقة بلال، 2018، ص92.
4- أبو المعاطي أبو النجا، القصّة القصيرة والبحث عن خصوصيّة الذات، كتاب العربي، عدد31، 1993، ص11
5- علي بنساعود، ظلال ذابلة، الرباط، مطبعة الأمنية، 2013، ص117.
6- المصدر نفسه، ص62.
7- ظلال ذابلة، الرباط، مطبعة الأمنية، 2013، ص30.
8- ظلال ذابلة، الرباط، مطبعة الأمنية، 2013، ص23.
9- المصدر نفسه، ص109.
10- ظلال ذابلة، ص50.
11- المصدر نفسه، ص76.
12- ظلال ذابلة، ص95.
13- ظلال ذابلة، ص117.
14- انحناءات ملتوية، ص90
15- حائك العتمات، ص53
16- ظلال ذابلة، ص36.
بقلم الباحثة إلهام بوصفارة مسيوغة (تونس)،
اليوم وأنا أكتب عن التحوّلات في القصّة وبعد اطّلاعي على تجربة القاصّ المغربي علي بنساعود1 في القصّة القصيرة جدّا، أجدني قلقة ومتعثّرة إلى درجة ما. ولعلّ السبب المباشر لهذا القلق تجاه هذه التحوّلات يكمن في شدّة تشعّبها وخطورة عمقها واتّساع دوائرها وهول تنوّعها، حيث شكّلت مجتمعة في نصوص بنساعود شبكة عنكبوتيّة مخيفة ومدهشة أسَرت القصّة وسلخت عنها جلدها القديم ولفّتها في نسيج جديد لتخرج في حلّة قصيرة جدّا وبقالب مغاير وقلب جديد.
ليس بإمكان أيّة مقاربة نقديّة أن تقول كلّ شيء أو أن تشير إلى التحوّلات كلّها في هذه النصوص، مهما ادّعت ذلك، فهذا أمر شبه مستحيل لسبب بسيط أ لا وهو أنّ النصوص الإبداعيّة زئبقيّة لا تُقنّن ولا تُحصر، لأنّها متجدّدة دوما ولا تهدأ، فما أن تُحكم قبضتك على مكوّنات نصّ حتّى تنبثق مكوّنات جديدة في نص آخر.
وبكلّ تأكيد، كلّ قراءة لنص هي مغامرة، لا تعرف كيف تبدؤها وإلى أين سينتهي بك المسير. هي محاولة للتفاعل مع اسم من الأسماء وبعض نصوصه القصصيّة الوجيزة لرصد بعض التحوّلات الطارئة على فنّ القصّة، وقد تكتشف إرهاصات أخرى في مغامرة جديدة مع اسم آخر ونصوص مغايرة.
يمكن القول إنّ القصّة القصيرة جدّا كانت نتيجة المتغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في العالم. وبما أنّنا نعيش في عصر التّغيّرات الدّائمة، والتّحوّلات المستمرة، فالأدب يساير هذه التغيّرات، وبتنا أحوج اليوم إلى قصّ وجيز يناسب وتيرة الحياة السّريعة. ولم يعد خافيًا على المتابع للحراك الأدبي، أنّ الإبداع يسلك درب الإيجاز. والقصّة الوجيزة باتت مؤخّرا جزءا من المشهد الثقافي العربي، وقد ازداد متابعوها، ووجدتْ لها مكاناً في شجرة السرد.
وعلي بنساعود من الكتّاب المتميّزين الذين عالجوا القصّة القصيرة جدّا علاجا خاصّا في فضاء سرديّ محدود بعدد من الأسطر والكلمات وتناول مواضيعه على "أساس رأسيّ لا أفقيّ" على حدّ عبارة الإيرلندي فرانك أوكونور O’ connor في كتابه "الصوت المنفرد". هو محترف يدرك ما يفعل في مجاميعه. وما ينفكّ يخيّب أفق الانتظار بخياراته وحيله السرديّة المقلوبة والمضادّة للمنطق وللألفة في آن واحد على حدّ عبارة الناقد السعيد بوطاجين. كتابة وجيزة مثيرة واعية بالتقنيات وبالمكوّنات الضرورية للنص السرديّ الوجيز المستحدث، وبهذا الوعي يضع فاصلا بين الأقصوصة والقصّة الوجيزة ويصنع الفارق بين العارف وغير العارف.
ونحن لا نزعم أنّ من سلك درب الوجيز مختلف، بل هو لا يختلف عن أيّ مبدع آخر من حيث التجربة الشعورية، والصدق، والعمق، واللغة، ودقّة الملاحظة، وقوّة الذاكرة، وسعة الخيال، والقدرة على الإمتاع» فثمّة عناصر مشتركة يستمدّها الأدب الوجيز من شجرة الأدب الحبلى بكلّ جديد.
ولكن إن نظرنا إلى جنس النص، فنحن نتّفق أنّ لكلّ جنس أدبيّ تقنياتِه ومهاراتِه، كذلك للقصة القصيرة جدّا ألاعيبُها وخدعها السردية وتيماتها الدلاليّة والفنّيّة. ولعلّنا نجحنا في محاصرة بعض التحوّلات في أربعة مستويات: في منسوب الخيال، في الحبكة القصصيّة، في اللّغة وأساليبها ثم التحوّلات الشكليّة في الفضاء البصريّ.
1) التحوّلات في منسوب الخيال في القصّة:
إنّ المجموعات القصصيّة الوجيزة تتميّز بتنويعات كبيرة في الموضوعات إلى حدّ التباين، وعادة ما تشكّل الحياة اليوميّة المرجع الأساسيّ للأقاصيص. والمتأمّل في المخيال العربي قديمه وحديثه يرى أنّه بدأ يضيق بجماليّاته وآليّاته شعرا وسردا، ولعلّ المخيّلة العربية اليوم بدأت تعترف بجمودها إلى حدّ الاهتراء والاستهلاك البليد لكلّ مسالكها وصورها والخانق لكلّ ابتكار. فهل يمكن أن تصبح المخيّلة عقيمة؟ إنّ الحديث عن عقم المخيّلة غير وارد، بل المخيّلة دائمة النبض والتجدّد لارتباطها بالرغبة الملحّة للبشر في التجديد وتجدّد الفكر الإبداعي الجمالي للبشر. فكما قال السيّاب: "ما الفائدة إذا لم نكتب الجديد؟"
فظهرت القصّة الوجيزة تحاول تخطّي حدود الواقع، وتجاوز اللّغة المألوفة والخيال السائد، وراحت تشهد تحوّلا في منسوب الخيال، لتأسيس كتابة قصصيّة جديدة تتحرّر فيها المخيّلة من كلّ الأنساق اللغويّة والمعرفية والثقافيّة المألوفة، كتابة صادمة للخيال السّائد قبل الواقع.
وفي هذا المضمار ننزّل هذه التحوّلات الطارئة على القصّة، فالقصّة الوجيزة اليوم تحاول أن تتجاوز ذاتها وأن تغترب في فضائها لتطأ بالخيال حقولا جديدة غير مألوفة، وأن تخلق فضاءات أخرى تُكسر فيها الحدود بين الواقع والخيال لتتشكّل بإمكانات مختلفة.
والقصّة الوجيزة لم تعد تستأنس بالفواصل بين المتخيّل والمرجعي وباتت قادرة على أن تخلخل جدليّة الممكن واللّاممكن وتعبّر عن الإنسان ووجوده بامتياز. كما هو الحال في قصّة "مفتاح"(2):
على الجسر التقينا،
علّقنا القفل على الدربوز،
شبكنا الأيادي،
رمينا المفتاح للأسماك...
يمتدّ إصبع متردّد، يطفئ النّور...
في الزاوية المقابلة،
"بورتريه" يشبهني يبدو بريئا...
يتأمّل في حياد تامّ...
نصوصه الوجيزة تكشف عن قوّة تخييليّة كبيرة للكاتب، إذ يلجأ إلى المغالاة في الخيال هادما بذلك السببيّة الدّاخلية التي نتصوّرها بين الأحداث أو بين المقدّمات والنهايات. فلا رابط بين المشهد والحقيقة: جسر، قفل، مفتاح، وإصبع يطفئ النّور، عناصر متنافرة موغلة في التخييل إلى حدّ السرياليّة، من هما؟ ما صلتهما؟ الجسر قنطرة للعبور من مكان إلى آخر بينهما عائق، الجسر مكان الوصال والالتقاء، في هذا المكان تمّ صفد اليدين على دربوز الجسر ورمي المفتاح، وهي حركة تنمّ عن قرار بعدم الافتراق مهما كان العائق، ثم إصبع مجهول يطفئ النّور، يعني باتا في ظلمة حالكة، هل نرى في الظلام؟ يرى وجهه البريء يتأمّل في حياد، تخلّى عن براءته الأولى ووخمه، لبس وجها آخر استعدادا للصّراع القادم، فالبراءة طور في الحياة لا بدّ أن ينقضي ويحيد عنه لاستقبال طور جديد، هو في مرحلة انتقاليّة مجهولة المصير وهو ما رمز إليه بالظلام.
ولعلّ الخيال أصدق وأبقى من الواقع الذي يصبح عنصرا شاذّا وغير ضروريّ في هذه القصص القصيرة جدّا رغم أنّه المقصود منها. فيأتي الواقع ممحوّا مضمرا يعيده التأويل إلى النص عند التشريح ومحاولة القارئ الربط بين النص والواقع.
فهل بات الخيال هدفا؟ لقد حرص الكاتب على تغليبه وإخراج الأفكار من دائرة العادي اليومي إلى متخيّل فنّيّ، وفي ذلك قدرات استثنائيّة وجهد خصيب لبنساعود على جميع الأصعدة في حياكة نصوصه الوجيزة. كقصّة "لوعة"(3):
عرفته صانع عرسان،
طلبت منه واحدا،
بتفاصيل دقيقة...
أتاني به، وكان برأسين،
أخذني أحدهما في نزهة باذخة، في حقول ممغنطة...
في طريق العودة، صارحني الثاني:
"تخونني كلماتي، وأنا أراكما تشربان من كأس بلا قعر..."
له طاقة تصويريّة جبّارة تؤكّد الجانب التخييلي القويّ في قصصه وهو ما يضمن الدهشة، حين ينتقل بك من عالمك الخاص القائم على المنطق والعقل إلى عوالم أخرى منفتحة على الخيال واللامعقول واللّامتوقع.
2) التحوّلات الفنّيّة:
+ التحوّلات في مستوى الحبكة القصصيّة:
قبل المضيّ في محاصرة هذه التحوّلات الفنيّة في القصّة القصيرة جدّا، لا بدّ من التعريج السريع على مكوّنات القصّة القصيرة أو الأقصوصة. من الطّبيعيّ أنّ القصّة القصيرة أخذت مداها طوال قرن مضى على أيدي مئات من كتّابها مثل «موبسّان وزولا وتشيخوف»، لتثبت شكلها وتكوينها، وقد اكتملت في اعتقادنا المحاولات النّقديّة لتحديدها. إذ تشترط حضور مجموعة من العناصر الفنيّة اللّازمة في بنائها:
الحدث والحبكة: يشكّل الصّراع الذي يدور بين الشخصيّات أو بين الشخصية الرئيسية وذاتها. وتحبك الأحداث في بنية سرديّة ثلاثيّة منسجمة ومتطوّرة من الهدوء إلى الأزمة ثم إلى الحلّ: البداية تتّسم بالهدوء والاستقرار. ثم سياق التحوّل تظهر فيه لحظة الأزمة وينشأ الصّراع والاضطراب. ثم النهاية وفيها لحظة انفراج الأزمة وعودة إلى هدوء مخالف للأوّل. ومن الطبيعي أن تكون النهاية سليلة منطقيّة للأزمة ومقنعة غير مفاجئة. فلا بدّ من ترابط الأحداث ترابطا سببيّا وأن تجري إلى هدف يتقصّده الكاتب وهو ما يطلق عليه باتّساق التصميم. فلا تقبل القصّة مبدأ التجاور دون رابط علّيّ. وعلى هذه الحبكة يرتكز التشويق.
الشخصيّات: تكون قليلة، أو واحدة، وقد تكون بشريّة أو حيوانيّة، لها مرجعيّات مختلفة، فيها بطل وشخصيّات مساعدة ومعرقلة، وعادة ما تسند إليها هويّة (اسم، سنّ، عمل، وضع اجتماعيّ) وملامح جسميّة ونفسيّة ولها أقوال وأفعال، ويقدّمها السارد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
المكان: له وظيفة الإيهام بالواقع، وقد يكون فاعلا في الشخصيّة ومثيرا لمشاعرها، وهو أنواع وقد يكون مطلقا أو رمزيّا يحيل على أفكار الكاتب وقيمه فلا يتّصل بسياق القصّة إلّا ظاهريّا.
الزمان: هو ضرورة ملحّة للإيهام بالزمن الواقعيّ، ولا يقلّ شأنا عن المكان، فكلّ حدث لا بدّ له من زمان محدّد، غير أنّ الزمن لا يجري وفق نسق منتظم، بل يجري زمن القصّ في ضوء الاختيارات التي يضبطها المؤلّف لنفسه: السرد المفصّل المشهدي، السرد المجمل بتلخيص بعض الأحداث والفترات الزمنيّة، الحذف والإسقاط الكلّي بتعمّد إحداث ثغرة في السّرد بإسقاط كامل لبعض الأحداث.
ولم تبتعد القصة الوجيزة عن تبنّي هذه العناصر الفنّية، ولكن بعبارة أدقّ يقول أبو المعاطي أبو النجا(4): "المسالة ليست في تعريف القصّة القصيرة جدّا عن طريق تحديد عناصرها أو الخصائص التي تتميّز بها عن القصّة القصيرة، وإنّما المسألة في الطريقة التي يتعامل بها الكاتب المتميّز مع هذه العناصر." ونفس المبدإ نجريه على القصّة القصيرة جدّا، فالتحوّلات الطارئة عليها تتّصل بطرق تصريف الكاتب لعناصر القصّ، وتنويع أساليبه وتجديد تقنياته، ليقدّم لنا عملا فنّيّا يجمع بين القديم والجديد ويحمل هويّة تجاوزيّة جديدة.
والمكوّنات القصصيّة في هذا الشكل القصصي الجديد حسب جميل حمداوي في كتابه مكوّنات القصّة القصيرة جدّا": "هي تلك الأركان الثابتة في تشكيل المعمار النصّي". وبالاحتكام إلى ما هو ثابت ومتحوّل يمكن أن نحاصر هذه الأركان.
في البدء نلاحظ أنّ الحدث حافظ في القصّة الوجيزة على رتبته الأولى في هذه الأركان. فبدون خبر وحكاية وحدث لا سرد. فيأتيك الكاتب المتميّز بالحدث القصصي ركيزة أساسيّة في معماره النصّيّ، ثم يلحقه بسمة القصر الشديد.
ومتى نظرنا في أقصر قصّة قصيرة جدّا بعنوان "تواصل"(5)، عثرنا على فضاء سرديّ متكوّن من ستّ كلمات، لكنّه لم يفتقر إلى القصصيّة:
انتظرت ردّه. كان صمته طلقةَ رصاص.
من الواضح أنّ القاصّ الواجز يحتاج إلى إلغاء التّفاصيل، وقد يكتفي بفعل أو فعلين حسب الحاجة والمقصد. لكنّ الحدث يتشكّل فكرة أو حالة تمثّل لحظة قصصيّة مفاجئة وخاطفة غالباً ما تكون مقتطعة من الحیاة الیومیّة. على غرار هذه اللّحظة القصصيّة بين المرأة وهذا الرجل الذي نجهل نوع الصلة بينهما، لكنّ الحدث بينهما يستدعي انتظار جواب عل طلب مسكوت عنه. ترى ماذا طلبت حتّى تلقى منه صمتا قويّا قاتلا بوقع رصاصة؟
فالكاتب يثير القارئ بتجاوزه للمتعارف عليه. ويوقظ الأسئلة في ذهنه بمهارة العارف بمكوّنات القصّة الوجيزة. فيزعزع ذوقه بوعي سرديّ جريء شكلا ومتنا وبناء، وله وراء ذلك مقاصدُ مدروسةٌ تخلخل ذلك العقد المبرم بين الكاتب وقارئه. فهو لا يحفل بالفعل بقدر احتفاله بخلق إحساس عميق بالحالة.
ورغم أنّ هناك تنظيراً حول بنية القصّة القصيرة، فإنّنا لا نستطيع البناء عليها في القصّة القصيرة جدّاً لتعقّد الموقف، وتشظّي الأحداث التي تخلّصت من بنائها الثلاثي السّائد. فما عدنا نجد بداية بسماتها المعروفة والمتدرّجة نحو الأزمة فالحلّ، بل يدخل الكاتب في الحدث مباشرة.
في حين أنّه يولي أهمّية قصوى للنهاية \ القفلــــة، قفلة مفاجئة، منها ينطلق التّأويل، وإليها يستند الـتّعليل، قفلة غير متوقّعة، تأتي عفوية وتبعث على التّأمل والتّساؤل، وتضفي جمالية دلالية على النّص لما تكتنزه من عوالم ممكنة تقفز إلى ذهن القارئ، مثل هذه القصّة بعنوان "الفساد"(6):
فاجأهم العسس. حاصروهم.
حجزوا بضائعهم المعروضة على الطريق العام.
تعذّر عليهم حجز بضاعتها.
أوقفوها. قدّموها أمام العدالة من أجل:
"التحريض على العنوان".
مخاتلة بارعة للقارئ بإعادته إلى رأس القصّة وهو العنوان، بنية دلاليّة دائريّة متّصلة، لن نفهم عجزهم عن حجز بضاعتها المعروضة إلاّ بالدمج بين آخر كلمة في القصّة "العنوان" وعنوان القصّة "الفساد"، تصوير قصّة بغيّ تعرض جسدها بضاعة للبيع، فتمثل أمام العدالة بتهمة التحريض على الفساد.
والخاتمة تُعدّ مقوّما أساسيّا في القصة القصيرة جدًا لأنّ فيها التّحفّز والإدهاش. وشدّتني كثيرا النهايات المثيرة وغير المتوقّعة أبدا مثلما هو وارد في هذه القصّة بعنوان "نصيب" من نفس المجموعة:
رمت الخاتم في وجه خطيبها.
وضعت رسالة على الطاولة.
صفقت الباب خلفها.
وقع بورتريه قديم لوالدها على الأرض.
فتحت الأمّ الرسالة: "ماما. تسعدني سعادتك"
قفلة غير متوقّعة وصادمة، من كان يتوقّع أنّ هذه الشابة التي عبّرت عن غضبها بردود أفعال عنيفة: رمت الخاتم، صفقت الباب، هي مغدورة من أمّها التي خانتها مع خطيبها. وسقوط صورة والدها أرضا، هو سقوط رمزيّ فيه احتجاج على سقوط القيم وتدهورها ونزول النّاس عند أهوائها ونزواتها وشهواتها. فهل الحرمان العاطفي والجسدي والفراغ المعنوي يمكن ان يكون عذرا لتخون أمّ ابنتها؟
صورة وامضة، مشعّة لتمرير رسالة اجتماعيّة هادفة. فالكاتب لا يفصّل السرد ولا يسهب في التفسير، بل يفجّر ذهن القارئ بالتفاصيل، فترتسم القصّة بحيثياتها وفق فهم القارئ وثقافته وبيئته.
فالخاتمة هي من أهمّ المواضيع التي تستثيرنا في كتابة القصّة الوجيزة، فهي حصيلة الفكرة، بل تتويج للقصّة، وهي لحظة الكشف عند القارئ، لحظة الصّدم والإدهاش والإرباك.
فالقصّة الوجيزة تتوفّر فيها المقوّمات السرديّة كالأحداث والشخصيّات والمكان والزمان والأساليب، ولكن تُوظّف كلّها بكثافةٍ وإيحاء لتتّخذ سمات جديدة لم يألفها المتلقّي، إلى أن تصبح الشّخصيّة عبارة عن علامة سيميائيّة تحضر بضمائر مختلفة في متن يقصر إلى أن يصير سطرا.
شخصيّات نكرة، لا تحمل هويّة ولا اسمًا ولا صفات إلّا بما يجود به الكاتب من صفات محدودة وظيفيّة ينتقيها لغايات دلاليّة. وقد يغيب الزمان والمكان في بعض القصص، كما هو الحال في قصّة "نشر"(7):
جاءته تطرطق العلك.
نظر إليها. بلع ريقه.
مدّت له محاولتها الشعريّة.
قرأها. كتب عليها: "صالحة للنشر".
ابتسمت. حدّد لها موعدا.
نشرها قبل الموعد.
لا أطر محدودة، ولا هويّة مكشوفة، ولا صفات مُرسلة، بل هو الاقتصاد ما أمكن، والاقتضاب المتمكّن الذي لا يحتمل الزوائد المخلّة بجماليّة هذا الجنس. بل اعتمد الإيحاء الشديد ليجعل القارئ يبذل جُهدًا كي يتفاعل مع النصّ ومدلولاته، وتحفّز ذاكرة المُتلقّي وتحثّ خياله على التأويلٍ والتفسيرٍ والاستنتاجٍ الإيديولوجيّ انطلاقا من المفردات التي يستعملها الكاتب بعناية فائقة. فكلمة "نشر" مشحونة بالإيحاء ولن تبخل المعاجم بتزويد القارئ الباحث بالدلالات الممكنة في هذا السياق المخصوص بين شاعرة وناشر.
+ التحوّلات في مستوى اللّغة وأساليبها:
° اللّفظ: إنّ الكتابة الأدبية ليست مجرّد فصاحة في اللغة وتدفّق في الأسلوب وجموح في الخيال. وكاتب القّصة الوجيزة يستعمل اللّغة استعمالا خاصّا، يختار ألفاظه بعناية، يمرّ بنا عبر لغة مكثّفة، عبر محطّات يجبرنا فيها على التوقّف والتأمّل في العمق الدّلالي، وإعادة القراءة للخروج بحصيلة ممتعة من الصور التي تبني عالم القصّة، بل الكاتب بأسلوبه يكثّف لقطة ويشحنها بفلسفته وثقافته ومواقفه.
والأسلوب هو "تفجّر طاقات التعبير الكامنة في اللّغة" عند شارل بالي. فتطالعنا ظاهرة أسلوبيّة قد تبدو في الوهلة الأولى متعارضة مع سمات الوجيز، وهي تواتر المفردة وتكرارها وتقاربها في المخارج، كما نعثر على ذلك في قصّة "وداد"(8):
ودّا لو يلتقيان.
التقيا.
ودّ لو يقطف شهدها.
ودّت لو تبرق النجوم بين عينيه نهارا.
ودّ...
ودّت...
تدانيا.
كادت ترفع يدها لولا أنّ سكّرها ذاب في فنجان عينيه...
تصوير للحظة ودّ ووصال برع الكاتب في خلق موسيقى داخل لغة السّرد وكأنّي باللّغة تدندن لهذين العاشقين بترديد حرف الدّال وتتغنّى بلقائهما بإنشاد لو المتكرّرة. وهذه خاصّيّة أسلوبيّة تضمنها ثقافة الكاتب وموهبته الفذّة في نسج نصوصه بتقنيات عديدة، وذائقته الجماليّة الفنّيّة التي تنهل من حقول عدّة: الشعر وإيقاعاته، الموسيقى، المسرح، السينما...
فإنّ لغة القاصّ الواجز خصوصًا، لغة سرديّة شاعريّة إيحائية، لا تكتفي بأن تسرد وتصف، وإنّما تشترط أن تحمل شحنة عاطفية بكثافات متفاوتة.
° التكثيف: من الأساليب الثابتة في القصّة القصيرة جدّا التكثيف، ولا بدّ أن نشير إلى أنّ التكثيف خصيصة أسلوبيّة أقرّها الدّارسون في فنّ الأقصوصة. في حين أنّ التحوّل الذي تشهده القصّة الوجيزة يكمن في درجة التكثيف وفي اتّساع طاقة المفردة وتعدّد إمكانات تأويلها، كما هو واضح في قصّة "غابة"(9):
كان الأطفال يرسمون الرّبيع.
تسلّلت بندقيّة.
روّعت الطيور والفراشات...
جمل قصيرة تختزل أفعال الطغاة وجرائم الإرهاب المتسلّل إلى المجتمعات، من اغتيال للطفولة واغتصاب للأحلام وتشويه للوجود. فالكاتب اختزل أحداثا إنسانيّة قد تُسيل الحبر للتعبير عن تفاصيل المعاناة في مئات الصّفحات، اختزلها في تسع كلمات. كلّ كلمة في هذه القصّة نواة تتفجّر في ذهن القارئ إلى شظايا من الصّور. فالإيجاز والتكثيف يولّدان بياضات وإيحاءات تحتاج قارئا يسدّها عبر إعادة بناء القصّة بآلية التخيّل والتأويل. والقارئ الذي لا يملك من المعاول للتفجير سوى ذكائه وذوقه وثقافته المشتركة مع المؤلّف يصبح في السرد المكثّف منتجا ويجد مخيّلته أَمَامَ تَحِدٍّ حَقيقيٍّ لينسجَ مع الكاتب نَصًّا نَاضِجًا مُكْتَمِلاً.
وهذا التكثيف الشديد قد يخفق فيه الكثير من الكتّاب لصعوبته. إذ من اليسير الوقوع في السرد الطلسمي والتعتيم، فيستغلق المعنى، ويضيع الفتيل بين الكاتب والقارئ ويغيب الخيط وتتوارى الدّلالة فيأتي الظلام. كمال العيادي في حديثه عن القصّة القصيرة جدّا في مقال منشور بجريدة القاهرة يقول: "غرفة السرد لا نثقلها ضوءا، ولا نحرقها ظلاما، هي كتابة تتخفّى وراء غمزة الإشارة وغنج العبارة، وتتقنّع وتتمنعّ ".
ولعلّ التكلّف في التكثيف والتركيز سينتج نصوصا ينبغي علينا أن نجد لها تجنيسا مغايرا للقصة القصيرة جدا.
° السّرد والوصف: واللّافت للنّظر هيمنة الأفعال على جمل السّرد لتأكيد جانب الحدثيّة والحركة والفاعليّة. فالفعل يملك طاقة قويّة لتخزين الدلالات. فهو بؤرة القصّة القصيرة جدّا. وبدا هذا واضحا في قصّة "كلّ شيء إلاّ..."(10) حيث أتى السرد متقطّعا ومتطوّرا خاليا من الرّوابط:
دأبت تهاتفه وتطرق بابه.
دأب يتجاهلها.
ردّ عليها اليوم.
شكّت في الأمر.
ذهبت إليه في أبهى حللها...
دخلت. سلمت. جلست تترقّب...
قام نحو الباب. أحكم إغلاقه. انصرف...
يئست من فتح الباب، من عودته.
تصوّرت كلّ شيء، إلّا أن يعود في حالة غير طبيعيّة،
بعد الفجر، و...
استفاق ظهرا. وجدها تبكي.
شدّ يدها. سار نحو الخارج يجري...
هذا السيل من الأفعال شحذ القصّة بالحركة. جمل فعليّة برقيّة مقتضبة وسريعة تتحرّك في مناخ لغويّ مفكّك تهيمن عليه مواطن الفصل إذ عمد الكاتب الى تغييب تامّ لوسائل الرَّبط اللفظيَّة، وتتجاور الجمل في استقلال واضح لتبقى الروابطُ المعنوية وسيلة القارئ لتحقيق الاتِّساق والانسجام الدّلالي في النص. وهذا الفصل الظاهر بين الجمل الخاطفة والمتوالية ظاهرة لافتة في كتابة القصّة الوجيزة تتلاءم مع التكثيف الذي يعتمد التلميح والإيحاء دون إلغاز، فالحادثة تصوّر علاقة حبّ من طرف واحد، حكاية امرأة كسرت الحدود بين الحبّ والكرامة ولم تحفظ ماء وجهها، فأذاقها الحبيب ألوانا من الذلّ والهوان والاحتقار: تجاهلها، احتقرها لمّا أتت إليه، تركها وانصرف، وهي على حالها تترقّب عودته، ولمّا عاد فجرا أساء إليها وأبكاها، وهي إساءة مضمرة، للقارئ أن يتأوّلها، ربّما اعتدى عليها ضربا أو تجريحا أو اغتصابا.. كلّ الإمكانات واردة مع امرأة أضعفها الحبّ وحوّلها إلى أنثى رخيصة مستعدّة للتنازل عن كرامتها لتكون قريبة ممّن تحب. يثير الكاتب قضايا إشكاليّة مسكوتا عنها في المجتمع العربيّ، الحبّ والكرامة عند المرأة العربيّة ونظرة الرّجل إليها.
ولم يتجرّد سرد الأفعال الوجيز والسّريع من الوصف. ولكن إن حدث وحضر الوصفُ، يكون أفعالا واصفة وموجزة ومقصودة دون استطراد أو جملا اسميّة واصفة مثلما هو وارد في قصّة "ممرّ"(11) يصف الكاتب حالة مريض يموت في إهمال في ممرّ المستشفى بعد معاناة مستمرّة ومواعيد مؤجّلة:
شحب. هزل.
تأجّل موعده مرارا.
هي في الطابور.
هو ممدّد أرضا في الممرّ.
أخيرا ناداه مناد.
رفع رأسه. ابتسم. و...
صرخت زوجته...
وصف هادف ليس على وجه الترف أو الإغناء، بل دوره أساسيّ مثل السرد في بناء المعنى وتشكيل الصور. وإذا كانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فحتماً لن يكتبها غير متمرّس خبير باللّغة، قاصٍّ بارعٍ في البلاغة ومتقنٍ للّغـة بمستوياتها.
° الحذف والإضمار:
وأمر آخر ملفت للانتباه في لغة القصّة الوجيزة يتجلّى في علامات الحذف وعلامات الوقف، تقنية للتواصل غير اللّغوي مع القارئ، ودعوة مضمرة إلى قراءة أمتع بملء مساحات البياض وتأويل الفراغات. فبلاغة الحذف تعني أنّ الكاتب يقول الكثيرَ من خلال ما لا يقوله! وقد تحقّق الحذف والإضمار في مجاميع علي بنساعود بالنقاط المتتالية وهي ظاهرة لافتة لا تخلو منها قصّة، وأحيانا بحذف بعض الحروف من الكلمة، في نص "رحلة"(12):
حاولنا سدّ الثقوب...
كنّا نغرق...
نغر...
نغ...
أو حذف كلمة كاملة ليتمّها القارئ، مثلما يظهر ذلك في قصّة "رسالة":
يصل المركب متأخّرا.
أزدحم مع المنتظرين...
لم يكاتبني أحد.
أتأبّطني و...
أو في نص "مطر":
كانت السماء غائمة ذلك الصباح.
تجمّعوا ينتظرونها أن تمطر.
أرعدت. أبرقت. ما أمطرت.
توسّلوا. تضرّعوا. ما أمطرت.
صرخوا. زمجروا. ما...
غضبوا. أرعدوا. أبرقوا.
وأمطروووا.
انبعثت العيون والمجاري.
كنست الأزقّة والشوارع.
رُويت الحقول...
أينعت. أزهرت. و...
وعلامات الحذف هي أساس الإضمار ولها مهام دلاليّة وجماليّة، تعكس شكلا معيّنا من أشكال التفكير، بل علامات الوقف ليست مجرّد محطّات تنفّسيّة بل هي من توابع التفكير ولا يضبط مقاديرها ومواطنها قانون سوى الفكرة المعبّر عنها كما يقول نوفارينا: "الفكرة تنفّس"، وهو ما تؤكّده قصّة "رحلة":
حاولنا سدّ الثقوب...
كنّا نغرق...
نغر...
نغ...
وما الحذف هنا سوى تجسيد لانقطاع النفس أثناء الغرق، والمقصد إشعار القارئ بمشهد الغرق وألم الاختناق عبر الحذف، فهو عمليّة تجسيد للأفكار وتشكيل تعبيريّ للمعنى.
وهذا الحذف حقيقة مُغر ومثير، له بلاغته، ويصبح فيه القارئ هو الفاهم والمعبّر والباني. وهنا تصبح العملية معكوسة، فيكتفي الكاتب بالإشاره ليتيح للقارئ العباره، وننتقل من حيز الفهم الواحد إلى رحاب الفهم المتعدّد. والمتلقّي اللّبيب يكتشف المضمر ويمتعه البحث وملء الفراغات
أمّا المفارقات والسخرية والتناصّ والرّمز فهي سمات لم تختصّ بها القصّة القصيرة جدّا بل أقرّها الدّارسون منذ تعريفهم للأقصوصة وقد يشتر ك فيها الشعر والسرد. فهي أدوات ووسائل توظّف بكلّ عناية في كلّ عمل فنّي: في الشعر، في القصة، في الرواية، في الرسم التشكيلي، في النّحث، في المعمار، في الرّقص ... فهذه السمات تسكن الحياة، وتغني النص وتمنحه أبعادا.
3) التحوّلات الشّكليّة في الفضاء البصري:
عموماً التّكثيف والإيجاز واللّغة الإيحائيّة... كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد والشّطط والإطناب. لذلك تحوّل حجم القصص من القصير إلى المقتضب. فمجموعات علي بنساعود شهدت تفاوتا ملحوظا في حجم قصصه:
+ أقصر قصّة تتكوّن من سطرين وستّ كلمات: "تواصل"(13) وعلى غرارها قصّة "إتقان"(14): أجروا له عمليّة غسل دماغ... صدئ...
+ أطول قصّة قصيرة جدّا تتكوّن من 13 سطرا و80 كلمة: "نظرة"(15)، وهي قصّة طويلة نسبياً تعادل صفحة.
والمجال الفضائي في النّصوص الوجيزة ليس جانباً هامشياً أو ترفاً فكرياً أو لعبة مجانيّة، بل توجد قصديّة من وراء ذلك التشكيل الهندسي للكلمات والسطور. فإنّ النص القصصي القصير جدا لم تعد خصائصه الفنية الجماليّة ترتكز على اللغة فحسب بل تُراعي الجانب البصري مثلما وزّع علي بنساعود كلماته بين السواد والبياض، حيث نثر النص على طريقة القصيدة الحرَّة مما يعطي القصة انطباعًا شاعريًّا،
وأحيانا يرسم الكلمة مقطّعة عموديّا و أفقيّا، كلّ حرف منها في سطر: "ميثاق" من مجموعة ظلال ذابلة:
تعاهدا على الحلو والمرّ.
تارة هُو ي
ج
رُّ
أخرى هي ت
د
ف
ع
ا ن ق ط ع الحبل
... ا
ل
ه
ا
و
ي
ة.
وهذا التشكيل التعبيري البصري إيحائي جدّا تتوافق علاماته مع طبيعة الفعل: فتقطيع الكلمة عموديّا حرفا حرفا يناسب وتيرة الجرّ أو الدفع والسقوط نحو الهاوية بعد انقطاع الحبل، رمزا لفشل العلاقات المتنافرة المحكومة بالعناد والتعنّت ومآلها المأساوي بسبب سقوطها في الصراعات القاتلة شيئا فشيئا حدّ الهلاك كسقوط الكلمات حرفا حرفا حتّى الاندثار والتلاشي.
وأحيانا يخرج عن المسار العمودي إلى المسار المائل يمينا أو يسارا ليرسم بذلك المسار ذلك الانحدار أو الاختناق أو الاهتزاز أو النوم في اللحظة التي تتعرّض إليها الشخصية، كما يرد ذلك في قصص: تاجر \ حيّة\ هذا القادم\ لوحة.. ويقول في "لوحة"(16):
وقف أمامها.
بدت له تتحرّك. تغمز. تتعرّى. تهمس: "هيت لك".
حوقل. صرخ: "معاذ الله"
طعنها...
انفضّ الج
م
هـ
و
ر
انفضاض الجمهور فردا فردا كانفراط الكلم حرفا حرفا. وذلك لتحقيق غاية مقصودة واعية وهي الإدهاش وإثارة فضـول القارئ وكسر أفق توقع القارئ المعتاد وما ألفه من كتابة خطّي للسرد، وتأسيسا لأفق جديد.
فالكاتب يمتلك القدرة على شحن كمٍّ هائل من الدلالات بتشكيله وتنضيده نصه على الشكل الذي قدم على الرغمِ من قصر نصه
الخاتمة:
إنّ النماذج التي يقدّمها الكاتب بنساعود في القصة الوجيزة تشي بأنّ هذه التحوّلات هي حركة جديدة تجاوزيّة تحثّ على القراءة وتُعنى بالشأن الثقافي والنقدي باعتبار الكتابة فكرا حيّا وخيالا متجدّدا ومشروعا ثقافيّا هادفا وليست مجرّد تسلية.
القصّة القصيرة جداً تتسع لكلّ الأفكار الممكنة. لكن قد يكرر القاص نفسه. ووجدت في تجربة بنساعود ما يرضيني وما لا يرضيني، ولعلّه يبتهج لأيّ عملية نقدية تقويمية، تحدّد خصائصها، وتبرز محاسنها، وتقف على نقائصها سواء في موضوعاته، أو طرائق الكتابة، أونمطية الأسلوب.
لكن يبقى السؤال المهمّ: هل يمكن أن تهدّد هذه التحوّلات المتجدّدة في مكوّنات القصّة كيان القصّة وتنزع منها هويّتها؟ وإن حدث أ لا ينبغي علينا أن نجد لهذه النصوص الجديدة قالبا وقلبا تجنيسا آخر مناسبا ومغايرا للقصة القصيرة جدا حتّى نحافظ على هذا الجنس من خطر الانسلاخ؟
1- علي بنساعود أستاذ للتعليم الثانوي، إعلامي وقاص من المغرب، مدير سابق لجريدة "فضاء سجلماسة" الجهوية، ومراسل للعديد من الصحف الوطنية، نشر بالعديد من المنابر الورقية والإلكترونية الوطنية والعربية. صدر له: ظلال ذابلة (ق.ق.ج) \ انحناءات ملتوية (ق.ق.ج) \ رايات بلا عبير (ق.ق.ج) \ رسومك حيطاني (ق.ق.ج) \ حائك العتمات (ق.ق.ج) \ دوامة الخيول المرحة (قصة قصيرة).
2- علي بنساعود، رسومك حيطاني، الرباط، مطبعة الأمنية، 2016، ص41.
3- علي بنساعود، حائك العتمات، المغرب، مطبعة وراقة بلال، 2018، ص92.
4- أبو المعاطي أبو النجا، القصّة القصيرة والبحث عن خصوصيّة الذات، كتاب العربي، عدد31، 1993، ص11
5- علي بنساعود، ظلال ذابلة، الرباط، مطبعة الأمنية، 2013، ص117.
6- المصدر نفسه، ص62.
7- ظلال ذابلة، الرباط، مطبعة الأمنية، 2013، ص30.
8- ظلال ذابلة، الرباط، مطبعة الأمنية، 2013، ص23.
9- المصدر نفسه، ص109.
10- ظلال ذابلة، ص50.
11- المصدر نفسه، ص76.
12- ظلال ذابلة، ص95.
13- ظلال ذابلة، ص117.
14- انحناءات ملتوية، ص90
15- حائك العتمات، ص53
16- ظلال ذابلة، ص36.
بقلم الباحثة إلهام بوصفارة مسيوغة (تونس)،