خالد جهاد - خريف يسبق العاصفة

المقال رقم (٢٧) ضمن سلسلة مقالات (القبح والجمال)..


لم يكن من المصادفة أن يتبع احتلال العراق عدة تغيرات سياسية واجتماعية في مختلف أنحاء العالم، حيث كان يجب أن تنتهي الكثير من الأشياء الجميلة وأن تصل الكثير من الأمور إلى حدودها القصوى وتختفي الجماليات تدريجياً من حياتنا شيئاً فشيئاً، وأن تتراجع الآداب والثقافة والفنون والأخلاقيات وحتى المفاهيم الحقيقية للأديان ليحل النقيض، وتحل ثقافة القبح والتعصب والفوضى في كل مكان وفي مختلف الأمور حتى في التعامل فيما بين الناس..

وبدأ التردي في المخبر يوازيه تردٍ حتى على صعيد المظهر وهو ما لاحظناه في انتشار الثياب التي تظهر الملابس الداخلية أو من خلال ارتداء الذكور لقطع كانت حكراً على الإناث، كما تمت إستعادة إطلالات مستوحاة من الستينات والسبعينات في ظل عدم القدرة على تقديم شيء جديد وجميل، لذا تعتبر هذه التفاصيل وغيرها محطاتٍ هامة ونقاطاً جوهرية نحصد ثمارها اليوم لأننا لم نلقي لها بالاً في ذلك الوقت، تجتمع اليوم لتكون صورةً حقيقية عن الواقع خاصةً وأن الألفية الجديدة وبعد نهاية عقد التسعينيات شهدت عدة تحولات ومنها تحولات على صعيد الإعلام الذي ألقى بظلاله على المجتمع ككل، وعرف في تلك الفترة بزخمه وضخامة انتاجاته والذي أسماه البعض بعقد الترفيه والمنوعات، فساهمت كل تلك العوامل في تغيير الذوق والثقافة والمزاج العام وحتى في طبيعة الإنسان نفسه في مختلف المجتمعات (مع وجود استثناءات قليلة) بالتوازي مع متغيراتٍ أخرى اقتصادية وحياتية هامة في الكثير من دول العالم..

فشهدت القنوات الهامة والشبكات التليفزيونية في الولايات المتحدة أو بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بشكلٍ رئيسي دخول أفكارٍ جديدة تدريجياً عن المجتمع أو المرأة أو (الآخر) أو الحريات أو الغرائز سواءاً كان ذلك في البرامج الحوارية أو الترفيهية أو حتى البرامج التي تصنف بأنها تصلح للمشاهدة العائلية، والتي بدأت تدريجياً بتقديم نماذج تشمل تحرراً أكبر في العلاقات الجنسية بطريقةٍ لم تكن مسبوقة أو تحظى بحاضنة عبر قوانين شرعت لحمايتها، وكان تدشينها بشكل أو بآخر يتم (فعلياً) عبر استخدام شاشات التليفزيونات الرسمية التابعة للدولة للترويج لها كأمر واقع والذي يتم استباقه بتقديم (جرعة تمهيدية) عبر القنوات الخاصة..

في ذلك الوقت وتقريباً في نهاية العام ٢٠٠٤ وبداية العام ٢٠٠٥ بدأ (البعض) من الجمهور الفرنسي (والذي لا يسلط الضوء عليه في الإعلام) بالتزامن مع بداية هذا التغيير بالتخطيط لترك العاصمة الفرنسية باريس بإتجاه الريف ومدن أكثر محافظةً في فرنسا اعتبار منهم أن ما يحدث ويتم تمريره هو اختراق وتغيير للهوية الفرنسية وتدمير للأجيال القادمة عن طريق تمرير العلاقات الجنسية المختلفة والنماذج الغريبة ضمن البرامج والمسلسلات المعتادة، عدا عن ظهور بعض الرجال الذين يرتدون ثياباً نسائية بشكل دائم وكنوع من الكوميديا في البداية ليتحول تدريجياً إلى أمر عادي ومقبول (وذلك من خلال تقرير مصور عن رأي الشارع تم بثه آنذاك على إحدى الشاشات الفرنسية)، وهو ما رأيناه أيضاً ضمن مسلسلات أمريكية كوميدية شهيرة مثل مسلسل (فريندز) ومسلسل (آلي مكبيل) الذي تنشط بطلته الممثلة الأمريكية (كاليستا فلوكهارت) في منظمة (الآيباك) وهي لجنة الشؤون العامة الأمريكية الصهيونية، والذي انتقلت هذه الثقافة معه عبر حدوث خطوات مشابهة تدريجياً في العديد من الدول الأوروبية أهمها محطة (Rai 1) الإيطالية ضمن برنامجها الإجتماعي الرئيسي الذي تم تقديم عدة نسخ منه في العالم العربي، وأيضاً عبر محطتي(ARD1) و (zdf) الألمانيتين على سبيل المثال لا الحصر، كما حصل تغير وإن كان بشكل أقل بكثير عبر إعلام دول مختلفة تأرجحت تجربتها بين التلفزيون الرسمي المحافظ والقنوات الخاصة التي تحمل معها ثقافة أكثر تحرراً وعولمة كالإعلام الياباني والإعلام الهندي الذي عرف الإنفتاح والقنوات الخاصة والمنصات المدفوعة منذ زمن، وكانت لديه نسخته المحلية لأهم القنوات والشبكات التليفزيونية العالمية التي كان يواكبها بزخم كبير، أما الإعلام الكوري (التابع لكوريا الجنوبية) فكان ولا زال مجرد نسخة من الإعلام والحياة الأمريكية (على الشاشة) بكل تفاصيلها..

وفي هذه الفترة كان المجتمع العربي يمر بتحولات متلاحقة على مختلف المستويات يؤثر بعضها على الآخر وينتقل صداها أيضاً من بلد لآخر وفي فتراتٍ قصيرة ومتقاربة وبشكل متضارب أيضاً، حيث شهدت تلك المرحلة تراجع ارتداء الحجاب لدى الكثير من (الوجوه المعروفة) بعد سنوات عرفت إقبالاً واسعاً على ارتدائه في الوقت الذي شهد فيه انتشاراً كثيفاً بين مختلف الطبقات في الكثير من الدول العربية، لكنه أثار في الجمهورية التونسية جدلاً واسعاً بعد التضييق عليه وعلى ممارسة الشعائر الدينية، فكانت تلك الإجراءات الغير مسبوقة عربياً عنواناً يتصدر البرامج الحوارية في الكثير من وسائل الإعلام العربية والتي تزامنت مع إجراءات مشابهة في فرنسا أثارت الكثير من النقاش والبلبلة والحديث عن العلاقات بين الغرب والعالم العربي، فيما كانت القنوات الموسيقية الخاصة تضخ في ذات التوقيت جرعات هائلة من العري والأغنيات الهابطة والمبتذلة التي غيرت شكل المجتمع وسلوكه وتفكيره وتطلعاته وذوقه وحتى أيقوناته، كما تراجعت الموسيقى الشرقية في مختلف الإصدارات ككل لصالح أعمال لا تحمل هوية موسيقية واضحة وهو ما انتشر في مختلف أنحاء العالم تقريباً، عدا عن مساهمة الفيديو كليب وانتشاره الشديد في تلك الفترة أيضاً في إنهاء الشكل التقليدي للإعلانات وما عرف بالفوازير والإستعراضات كما ساهم في تدمير صناعة السينما بعد أن تحولت بعض الكليبات أيضاً إلى تقديم القصة، فاستخدمت بذلك كل هذه الأفكار واستنفذت خلال سنوات قليلة عبر الأغنيات المصورة ومنابر عرضها..

وشاركت الكثير من الأسماء في هذه الموجة لكن عشوائية التنفيذ منعتها من الإستمرار، عدا عن غياب الموهبة والإعتماد على الإثارة فقط وأحياناً بشكل يجنح إلى السذاجة والبلاهة التي كانت محل تندر الناس أيضاً، ولكن بعض الأسماء تركت أثراً سلبياً واضحاً لا يمكن أن يمر مرور الكرام وتم على مرحلتين قصيرتين نسبياً لثلاثة مخرجين أولهم (جاد شويري) الذي بدأ (كمغني) واستمر أيضاً كمخرج لكليبات تعتمد على العري والإثارة والإغراء ولوجوه لا تمتلك أدنى مقومات التواجد على الشاشة وليس لديها ما تقدمه سوى جسدها، والتي انتهت معه باكراً بعد سنوات قليلة ليظهر بعدها اسم آخر على نفس النهج هو (جاد صوايا) الذي زاد من جرعة الإباحية والسوقية في كليباته وانتهى سريعاً كسابقه بعد أن جمع مبلغاً مالياً كبيراً منها كان كافياً ليتحول إلى رجل أعمال أسس شركته المتخصصة في عالم البناء والعقارات عدا عن اقتحامه لعالم السياسة منذ سنوات وترشحه للإنتخابات النيابية وانتسابه لأحد الأحزاب المعروفة..

أما الإسم الثالث فسيكون محور مقال المقبل لأهمية واختلاف ما قدمه، وستكون توثيقاً لنهاية عالم الأغنيات المصورة التي انتهى عصرها تحديداً مع بداية الأحداث التي مر بها العالم العربي بدءاً من تونس والتي تبعها لاحقاً اغلاق وتراجع القنوات الموسيقية وعالم الأغنيات ككل مع وجود استثناءات نادرة تظهر بشكل متفرق أحياناً من هنا وهناك دون تحقيق أثر يذكر..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى