بدأت الظروف الاقتصاديّة والأوضاع السياسية والاجتماعية تتدهور لضعف الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، فأدّى ذلك إلى رغبة الناس بالهجرة من الوطن ، ثم كثرت الهجرة من بلدان العرب لا سيما من لبنان وسوريا إلى بلاد أمريكا ، وكان من بينهم مفكّرون وشعراء وأدباء اعتنوا باللغة العربية والأدب العربي واطلاع العالم كله على نتاج الفكر العربي الأدبي ، وإعلاء صوت العربية ، وركّزوا على القضايا العربية ، وعملوا على المحافظة على الكيان العربي ، وكوّنوا فيها جمعيةً أدبيةً ، وأخرجوا صحفاً ومجلات تُعنى بأدبهم ، وهم في بداية القرن العشرين انقسموا إلى فريقين : فريق في أمريكا الشمالية ، وفريق في الجنوبية ، ثم نشأت لديهم فكرة إنشاء مدرسة فكرية تختصّ بهم ، فأقام الأدباء الذين يسكنون في أمريكا الشمالية مدرسة تسمّى ” الرابطة القلميّة ” ، والذين يسكنون في أمريكا الجنوبية مدرسة تسمّى ” العصبة الأندلسية ” . وبصرف النظر عن هاتين المدرستين ، كانت هناك عدّة من المدارس الأدبية ، مثل ” رابطة منيرفا ” و ” الرابطة الأدبية ” و ” جامعة القلم ” وغيرها ، لكنهما نالتا سمعةً وشهرةً لم تحظ بها مدرسة أخرى ، لأن نقاد العرب قد اعتنوا بهما عنايةً خاصةً ، وغالباً ما يشير أدب المهجر إلى هاتين المدرستين . فكلّ أدب خرج من أقلامهم يطلق عليه ” أدب المهجر ” .
وكان هذا الأدب مليئاً بالتحدّث عن اغترابهم وعن الحنين إلى وطنهم ، وبمشاعرهم وعواطفهم ، وتجاربهم . ” مع بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين ، اجتمعت عدة عوامل دفعت بالكثير من أهالي الشام – خاصةً لبنان وسوريا – إلى الهجرة أفواجاً إلى القارتين الأمريكيتين . . . وبعد أن استقر بهؤلاء المهاجرين المقام ، عزم أدباؤهم على تشكيل جماعات وروابط وأندية أدبية تصدر عن قيم وأهداف واحدة ” [1] . ويذكر الناعوري : ” منذ أواخر القرن التاسع عشر ، شرعت تنزح إلى بلاد كولمبوس جماعات من أبناء البلاد العربية ، ولا سيما من لبنان وسوريا ، بعضها هرباً من جور الأتراك ، وبعضها انتجاعاً للرزق ، والبعض الثالث للسببين معاً . . . ينقسم هؤلاء الأدباء المهجريون إلى فئتين : فئة المهجر الشمالي ، أي الولايات المتحدة الأمريكية ، وفئة المهجر الجنوبي ” [2] . ويقول عبد المنعم خفاجي عن أنشطتهم الأدبية : ” نقلوا اللغة العربية والأدب العربي إلى تلك المهاجر البعيدة ، وكان من بين المهاجرين أدباء وشعراء ، فأنشأ المهاجرون في تلك الديار النائية أدباً ، يعبّرون به عن مشاعرهم ، وكتبوا شعراً يصورون فيه عواطفهم ومختلف أحاسيسهم وتجاربهم ، ويتحدّثون فيه عن غربتهم وحنينهم إلى الوطن ، ويصفون فيه حياتهم وما تعرضوا له من عناء وشقاء وتجارب مريرة مثيرة ، وكان أدبهم هذا هو أدب مدرسة المهجر ، وشعرهم هو الشعر المهجري الذى أصبح مدرسة شعرية من مدارس الشعر الحديث ، وعني به الأدباء والنقاد عناية كبيرة . وقد ولد هذا الأدب والشعر مع القرن العشرين ، ثم نشأ ونما وترعرع وازدهر ، حتى بلغ ما بلغ في الثلاثينيات وما بعدها ” [3] .
أبرز مدارس المهجر :
(ا) الرابطة القلمية (ب) العصبة الأندلسية (ج) الرابطة الأدبية (د) رابطة منيرفا
(ا) الرابطة القلمية :
تأسست الرابطة القلمية على أيدي الأدباء العرب المهاجرين الذين كانوا ينشرون في البداية أعمالهم الأدبية والفنية في مجلة ” الفنون ” التي يصدرها نسيب عريضة في نيويورك ، ثم في مجلّة ” السائح ” التي يصدرها عبد المسيح حداد ، والتي أصبحت فيما بعدُ ملجأً للأدباء والشعراء المهجريين . وخلال هذا ، بدأ المهاجرون يفكّرون في إنشاء رابطة أدبية التي تضمّ أكثر أدبائهم وشعرائهم ، ليحافظوا على الأدب العربي ، فأقيمت سنة 1920م تحت عنوان ” الرابطة القلمية ” ، وعيّن جبران خليل جبران ” عميداً ” لها ، وميخائيل نعيمة ” مستشاراً ” ووليم كاتسفليس ” أميناً ” ، وسبعة آخرون سُمُّوا باسم ” العمال ” ، وهم : إيليا أبو ماضي ، عبد المسيح حداد ، نسيب عريضة ، ندرة حداد ، رشيد أيوب ، إلياس عطاء الله ، ووديع باحوط ، ووضع ميخائيل نعيمة أهدافها ونظامها . ” في أبريل عام 1920م التقت آراء جماعة من أدباء المهجر في أمريكا الشمالية حول فكرة واحدة هي ضرورة إنشاء رابطة توحد جهودهم وتكتل قواهم ، وقد أطلقوا عليها اسم الرابطة القلمية ” [4] .
ويتحدث الدكتور عيسى الناعوري عن تأسيس الرابطة : ” في ليلة العشرين من نسيان ، عام 1920م ، ولدت فكرة ” الرابطة ” في مجلس ضم باقة طيبة من الشبان اللبنانيين والسوريين ، كانت الغيرة على الأدب العربي تتلهب في نفوسهم ، والأسف على حالته المؤلمة يلعج في قلوبهم ، وكل منهم يتلمس أجدى السبل لإقالته من عثرته الطويلة وجموده الثقيل . وسرعان ما التأمت الآراء على استحسان الفكرة ، وعلى مباشرة العمل لأجل تحقيقها . ولم يمض أكثر من أسبوع حتى خرجت الرابطة من حيّز التفكير إلى حقيقة الوجود ، يرأسها جبران ” عميداً ” ويعاونه في إدارتها ميخائيل نعيمة ” مستشارا ” ، ووليم كاتسفليس ” خازنا ” ، ويعمل تحت لوائها سبعة آخرون ، يحملون اسم ” العمال ” هم : إيليا أبو ماضي ، نسيب عريضة ، وعبد المسيح حداد ، ورشيد أيوب ، وندرة حداد ، ووديع باحوط ، وإلياس عطا الله ” [5] .
تعتبر ” الرابطة القلمية ” من أبرز المدارس الرومانسية في أمريكا الشمالية التي ساهمت بحظ وافر في تطوّر الشعر العربي الحديث ، وخاصة في تمثيل المذهب الرومانسي . وربط شعراء المهجر مفهوم الشعر بالحياة ، ودعوا إلى التجديد في الشعر العربي شكلاً ومضموناً ، وفي مضمون القصيدة وشكلها ، واتجهوا إلى التحرر من القديم والثّورة عليه . والتفتوا إلى النزعة الإنسانية ، لأن أدبهم موجه لكل الناس دون تحديد ، وهي تفاعلهم مع الإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه .
” بدأ الشعراء المهاجرون يتجهون بشعرهم للتعبير عن حياتهم الجديدة ، وكانت فرحتهم بإحساسهم بالحرية ، إلى جانب عدم اهتمامهم بالتراث العربي القديم ، دافعاً إلى التحرر من القيود الشعرية التقليدية ” [6] . ويقول مصطفى هدّارة : ” قد تألفت في أمريكا الشمالية جماعة ( الرابطة القلمية ) لتنظم الثورة على الأدب القديم العتيق ، وتقيم الدعائم القوية لأدب حيّ ناهض ، أدب يستمد غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها . وقد كان قيام الرابطة نفسه ثورة منظمة ضد الأدب الرجعي الذي لا حيلة بينه وبين الحياة التي نحياها ، وكان أعضاء هذه الرابطة مؤمنين جميعاً بوجوب حدوث هذه الثورة ” [7] .
عاشت هذه الرابطة إلى سنة 1931م حين توفي عميدها جبران خليل جبران سنة 1931م ثم تلاه رشيد أيوب وإلياس عطاء الله ، وعاد بعضهم إلى وطنه فانحلّ العقد الذي انتظم حياة الرابطة مدّةً من الزمن وتآلفت أرواح أصحابه عدداً من السنين . ومهما يكن من أمر فقد كان للرابطة القلمية الأثر الملموس في الشرق العربي واستطاعت بفضل مفكريها وأدبائها أن تكون إطاراً ثقافياً عاماً في المهجر .
(ب) العصبة الأندلسية :
أسّسها الشاعر المهجري ” ميشال معلوف ” في ” سان باولو ” في برازيل عام 1932م ، على الأرجح ، ولكن المؤرخين اختلفوا في تاريخ تأسيسها ، فمنهم من قال : إنها تأسست عام 1922م ، ومنهم من ذهب إلى أنها أنشئت عام 1923م ، ومنهم من ذكر أنّ قيامها كان 1935م ، ومنهم من ذكر أنها أقيمت عام 1933م ، ورأَسها ميشل بنفسه ، وأصبح بعده الشاعر القروي ” رشيد سليم الخوري ” رئيساً لها ، ثم انتخب ” شفيق معلوف ” رئيساً لها ، وانتخب ” داؤد شكور ” نائباً للرئيس ، ونظير زيتون أميناً للسر ، وانتخب يوسف البعينى أميناً للصندوق ، ومن أبرز أعضائها ، ” شكر الله الجر ” و ” إلياس فرحات ” و ” عقل الجر ” و ” رياض معلوف ” وغيرهم ، وأصدرت العصبة مجلّةً أدبيةً لنشر أفكارها وآرائها وأدبها برئاسة ” حبيب مسعود ” . وكانت العصبة الأندلسية متأثرةً بالأدب الأندلسي ، وخاصةً من موسيقية الموشّحات والتوسّع في اختيار قوافيها وحلاوتها الفنّية ، وتختصّ العصبة بالمهاجرين إلى أمريكا الجنوبية . ” قد أسس فيه ( أمريكا الجنوبية ) المهجريون ” العصبة الأندلسية ” وذلك بعد نهاية الرابطة القلمية بسنة واحدة ، فانتقلت القيادة من الشمالية إلى الجنوبية ، وكانت قويةً بشعرائها وأعضائها في مدينة سان باولو بالبرازيل عام 1351هـ ( 1932م ) بقيادة ميثيل معلوف ، ولها مجلة باسمها ” العصبة الأندلسية ” ، وقد عاشت هذه الرابطة عشرين عاماً ” [8] . ويتحدث عبد المنعم خفاجي عن قيامها فيقول : ” قامت هذه الجماعة الأدبية في المهجر الأمريكي الجنوبي ، في البرازيل بمدينة سان باولو ، وكان المؤسس لها هو الشاعر المهجري ميشال معلوف ، وتولى رياستها ، ثم خلفه الشاعر القروي . . . ويشير اسم ” العصبة الأندلسية ” إلى مدى تأثر المهجريين بالأدب الأندلسي ، وخاصةً بالروح الغنائى ، وبالموسيقى ، والعذوبة الفنية ، في الموشحات التي بلغت نهاية الترف والجمال . . . قد أنشأت ” العصبة الأندلسية ” مجلةً أدبيةً حملت اسمها أيضاً ، فصار هذا الاسم علماً على هذه الجماعة الأدبية . . . تولى رياسة تحرير المجلة الأديب المهجرى حبيب مسعود . . . وكانت العصبة الأندلسية مكونةً من : ميشال معلوف رئيساً ، وداود شكور نائباً للرئيس ، ونظير زيتون أميناً للسر ، ويوسف البعينى أميناً للصندوق ، وجورج حسون معلوف خطيباً ” [9] .
(ج) الرابطة الأدبية :
أنشأها الشاعر ” جورج صيدح ” في الأرجنتين عام 1949م عقب زيارة الوفد العربي إلى الأرجنتين ، ولم تستمر سوى سنتين ، وكان أكبر الغرض من إنشائها هو اتحاد الأدباء ، ولكن كانت مختلفةً عن الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ، لأن مؤسسيها لم يضع لها نظاماً ولا دستوراً ، وكانوا يعقدون جلسةً لها كل أسبوع . ” أنشئت هذه الرابطة الأدبية في عاصمة الأرجنتين عام 1949م ثم اختفت بعد عامين ، وقد أنشأها صيدح على غرار الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ” [10] . ويقول إلياس قنصل : ” أنشئت تلك السنة ( 1949م ) ” الرابطة القلمية ” وغايتها الرئيسية جمع كلمة الأدباء وإعلاء مركز الأدب . واختلف عن غيرها من الندوات الأدبية بأن لا نظامات رسمية لها ، فقانونها ما يميله الضمير الحي والغيرة على الأدب . وراحت تعقد جلساتها كل أسبوع ، حيث تتلى المنتوجات الأدبية الجديدة ، ويجري البحث فيها تحبيذاً أو استنكاراً ” [11] . ” كان من أعضائها : صيدح ، يوسف الصارمى صاحب مجلة المواهب الشهرية ، عبد اللطيف الخشن صاحب جريدة العلم العربي الأسبوعية وكتاب ” المغتربون ” ، زكى قنصل ، وغيرهم ” [12] .
(د) رابطة منيرفا :
أنشأها الشاعر المصري ” أحمد زكي أبو شادي ” عام 1948م في نيويورك برئاسة نفسه ، وكان عبد المسيح حدّاد نائباً للرئيس ، ولكن لم تستمرّ طويلةً ، ولم تؤثر في الشعر المهجري . ” أسسها الشاعر المصري الكبير الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1948م في نيويورك ، وكان هو رئيسها ؛ ونائب الرئيس فيها الشاعر المهجرى عبد المسيح حداد ؛ وكانت على غرار جمعية أبولؤ المصرية ؛ ويبدو أنها قد انتهت بوفاة الشاعر أبي شادي . . . وليس لها كبير أثر في الشعر المهجرى . وكان من أعضائها كريمة الدكتور أبي شادي ، وهى الأديبة الشاعرة الآنسة صفية أبو شادى . . . وقد أسهم فيها بجهد كبير الشاعر نعمة الله الحاج ” [13] .
لا ريبَ في أنّ الأدب المهجري قد تأثر كسائر الآداب الأخرى بمؤثرات كثيرة سرت فيه وذابت ، ولكنه لم ينحصر فيه ، بل تعدّى طَور التأثر إلى طور التأثير ، فقد أثّر في الأدب العربي تأثيراً بالغاً ، لما فيه من قوة التجديد والخروج من دور الجمود والتقليد إلى دور الابتكار ، ومع هذا قد نقّد بعض أدباء العرب الأدبَ المهجر والشعراءَ المهجر ، خاصةً منهم ” عزيز أَباظة ” و ” طه حسين ” ، فيتحدّث عزيز أباظة في تصديره لكتاب ” محمد عبد الغني حسن ” ، بأن لا يوجد أي التجديد في هذا الأدب ، ولم يفتح شعراء المهجر آفاقاً جديدةً ، كما زعم البعض ، يقول : ” أنّ شعراء المهجر – مع تقديري البالغ لكثير منهم – لم يفتحوا آفاقاً جديدةً في الفن عجز عن الصعود إليها إخوانهم في لبنان ، وأن الأدب المهجرى لم يتبلور بعد ، ولم يتخذ صورةً واضحة المعالم ، بحيث يفرد له أثر بعيد المدى في تطور الأدب العربي المعاصر . وموقف الشعر المهجري من الشعر العربي في هذه الفترة كموقف أدباء أمريكا من اللغة الإنجليزية ” [14] . ويتحدّث طه حسين في مجال التعليق على نتاجات المهجريين : ” ولكنني حائر حقاً في أمر هذا النحو من الشعر وهذا الفريق من الشعراء ، قوم منحوا طبيعةً خصبةً ، وملكات قويةً ، وخيالاً بعيد الآماد ، وهم مهيئون ليكونوا شعراء مجودين ، ولكنهم لم يستكملوا أدوات الشعر ، فجهلوا اللغة أو تجاهلوها ، ثم اتخذوا هذا الجهل مذهباً ، فأصبحنا من أمرهم في شكٍّ مريب ” [15] . وأجابهم ميخائيل نعيمة عندما قال : ” نقم أنصار التقليد والجمود عليها فما كانت نقمتهم إلا لتزيدها قوةً وحماسةً واندفاعاً ولتنتمي عدد أنصارها ومريدها ومقلديها والمعجبين بها في كل قطر عربي حتى حار في أمرها أصحابها وأعداؤها على السواء ” [16] . وعلّق الأستاذ الدكتور عبد الرحمن على هذا بأن ” الأستاذ عزيز أباظة في رأيي متعصب في حكمه كما كان حكم طه حسين عنيفاً على الشعر المهجري . وكلاهما يغضّان الشعر المهجري قدراً على الرغم من أنّ له المعجبين الكثيرين في العالم العربي ” [17] . ويقول جمال الدين الرمادي إجابةً عن نقد طه حسين : ” الحق أن الدكتور طه حسين على صواب فيما يراه بالقياس إلى بعض الشعراء المهجري . أما إطلاق الحكم على هذا الشعر كله بهذه الصورة فقاس وعنيف ” [18] . ودافع أيضاً عباس محمود العقاد عن الأدب المهجري فيقول : ” إنه ثمرة أربعين سنة ، وإنه ثروة وربح للغة العربية ” [19] .
وخلاصة القول أن الرابطة في المهجر قد تنوّعت تأثيراتها في الشعر العربي حتى تكيف الشعر بكيفيات من الصدق الخالص والأمانة والمشاعر الشعبية التي قد خلا الشعر العربي قبل ذلك إلى حدّ ما . والأدب بهذه الفكرة اختار الطرق غير الطرق التي سادت العصور الماضية في جميع الأقسام من اللغة والشعر والنثر وما إلى ذلك . فضلاً عن دور الرومانسية كمذهب أدبي في دفع حركة التطور في الشعر العربي إلى الأمام . وأنّ المهاجرين لعبوا دوراً أساسياً في تطوّر الأدب العربي ، وإنّ هجرتهم إلى البلاد الأجنبية أثّرت تأثيراً كبيراً في مضامينهم وأساليبهم الأدبية ، وكذلك أثّر أدبهم في الأدب العربي في أشكاله وقوالبه وأغراضه ، وجدّدوا الشعر العربي في الأوزان والقوافي ، وتحرّروه من القيود وأزالوا عنه غبار الماضي ، وأفسحوا مجال الشعر وأعطوا للشاعر الحرية في التعبير ليستطيع الإفصاح عما في صدره وأدخلوا موضوعات جديدةً في الشعر العربي ، مثلاً الحنين إلى الوطن ، النزعة الإنسانية ، التشاؤم ، التفاؤل ، النزعة الصوفية ، التأمل والتفكر ، الحرية ، وغيرها ، ثم انتشرت نتاجاتهم الأدبي ، وأقبل النقاد العرب على الاطلاع على ذلك النتاج .
* جامعة كشمير ، سري نغر .
[1] د . أحمد صلاح وحامد الشيمي ، ” الأدب العربي في العصر الحديث ” ، عالم الأدب للترجمة والنشر ، ط : مصر ، 2020م ، ص 28 و 29 .
[2] د . عيسى الناعورى ، ” أدب المهجر ” ، دار المعارف ، ط : مصر ، 1977م ، ص 17 .
[3] د . محمد عبد المنعم خفاجي ، ” حركات التجديد في الشعر الحديث ” ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، ط : الإسكندرية ، 2001م ، ص 174 .
[4] د . صابر عبد الدايم ، ” أدب المهجر ” ، دار المعارف ، ط : مصر ، 1993م ، ص 18 .
[5] د . عيسى الناعورى ، ” أدب المهجر ” ، دار المعارف ، ط : مصر ، 1977م ، ص 22 .
[6] د . سيد حامد النساج وزملاءه ، ” الأدب العربي الحديث ” ، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ، ط : القاهرة ، 1991م ، ص 63 .
[7] د . محمد مصطفى هدّارة ، ” التجديد في الشعر العربي ” ، دار الفكر العربي ، ط : القاهرة ، 1957م ، ص 52 .
[8] د . مسعد بن عيد العطوي ، ” الأدب العربي الحديث ” ، مكتبة الملك فهد الوطنية ، 2009م ، ص 128 .
[9] د . محمد عبد المنعم خفاجى ، ” قصة الأدب المهجرى ” ، دار الكتاب اللبناني ، ط : بيروت ، 1973م ، ص 91 – 94 .
[10] المصدر نفسه ، ص 107 .
[11] إلياس قنصل ، ” أدب المغتربين ” ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، ط : دمشق ، 1963م ، ص 52 .
[12] د . محمد عبد المنعم خفاجى ، ” قصة الأدب المهجري ” ، دار الكتاب اللبناني ، ط : بيروت ، 1973م ، ص 107 .
[13] المصدر نفسه ، ص 106 .
[14] محمد عبد الغني حسن ، ” الشعر العربي في المهجر ” ، مكتبة الخانجي ، ط : قاهرة ، 1958م ، ص 18 .
[15] طه حسين ، ” حديث الأربعاء ” ، الجزء الثالث ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، ط : قاهرة ، 2012م ، ص 775 .
[16] ميخائيل نعيمة ، ” جبران خليل جبران ” ، مطبعة لسان الحال ، ط : بيروت ، 1934م ، ص 174 .
[17] د . عبد الرحمن واني ، ” ميخائيل نعيمة : الأديب المهجري العملاق ، روز ورد بوكس ، ط : نيو دلهى ، الهند ، 2016م ، ص 227 .
[18] نقلاً عن عبد الرحمن ، ” ميخائيل نعيمة : الأديب المهجري العملاق ” ، ص 227 .
[19] د . محمد عبد المنعم خفاجى ، ” دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه ” ، دار الجيل ، ط : بيروت ، 1992م ، ص 330 .
وكان هذا الأدب مليئاً بالتحدّث عن اغترابهم وعن الحنين إلى وطنهم ، وبمشاعرهم وعواطفهم ، وتجاربهم . ” مع بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين ، اجتمعت عدة عوامل دفعت بالكثير من أهالي الشام – خاصةً لبنان وسوريا – إلى الهجرة أفواجاً إلى القارتين الأمريكيتين . . . وبعد أن استقر بهؤلاء المهاجرين المقام ، عزم أدباؤهم على تشكيل جماعات وروابط وأندية أدبية تصدر عن قيم وأهداف واحدة ” [1] . ويذكر الناعوري : ” منذ أواخر القرن التاسع عشر ، شرعت تنزح إلى بلاد كولمبوس جماعات من أبناء البلاد العربية ، ولا سيما من لبنان وسوريا ، بعضها هرباً من جور الأتراك ، وبعضها انتجاعاً للرزق ، والبعض الثالث للسببين معاً . . . ينقسم هؤلاء الأدباء المهجريون إلى فئتين : فئة المهجر الشمالي ، أي الولايات المتحدة الأمريكية ، وفئة المهجر الجنوبي ” [2] . ويقول عبد المنعم خفاجي عن أنشطتهم الأدبية : ” نقلوا اللغة العربية والأدب العربي إلى تلك المهاجر البعيدة ، وكان من بين المهاجرين أدباء وشعراء ، فأنشأ المهاجرون في تلك الديار النائية أدباً ، يعبّرون به عن مشاعرهم ، وكتبوا شعراً يصورون فيه عواطفهم ومختلف أحاسيسهم وتجاربهم ، ويتحدّثون فيه عن غربتهم وحنينهم إلى الوطن ، ويصفون فيه حياتهم وما تعرضوا له من عناء وشقاء وتجارب مريرة مثيرة ، وكان أدبهم هذا هو أدب مدرسة المهجر ، وشعرهم هو الشعر المهجري الذى أصبح مدرسة شعرية من مدارس الشعر الحديث ، وعني به الأدباء والنقاد عناية كبيرة . وقد ولد هذا الأدب والشعر مع القرن العشرين ، ثم نشأ ونما وترعرع وازدهر ، حتى بلغ ما بلغ في الثلاثينيات وما بعدها ” [3] .
أبرز مدارس المهجر :
(ا) الرابطة القلمية (ب) العصبة الأندلسية (ج) الرابطة الأدبية (د) رابطة منيرفا
(ا) الرابطة القلمية :
تأسست الرابطة القلمية على أيدي الأدباء العرب المهاجرين الذين كانوا ينشرون في البداية أعمالهم الأدبية والفنية في مجلة ” الفنون ” التي يصدرها نسيب عريضة في نيويورك ، ثم في مجلّة ” السائح ” التي يصدرها عبد المسيح حداد ، والتي أصبحت فيما بعدُ ملجأً للأدباء والشعراء المهجريين . وخلال هذا ، بدأ المهاجرون يفكّرون في إنشاء رابطة أدبية التي تضمّ أكثر أدبائهم وشعرائهم ، ليحافظوا على الأدب العربي ، فأقيمت سنة 1920م تحت عنوان ” الرابطة القلمية ” ، وعيّن جبران خليل جبران ” عميداً ” لها ، وميخائيل نعيمة ” مستشاراً ” ووليم كاتسفليس ” أميناً ” ، وسبعة آخرون سُمُّوا باسم ” العمال ” ، وهم : إيليا أبو ماضي ، عبد المسيح حداد ، نسيب عريضة ، ندرة حداد ، رشيد أيوب ، إلياس عطاء الله ، ووديع باحوط ، ووضع ميخائيل نعيمة أهدافها ونظامها . ” في أبريل عام 1920م التقت آراء جماعة من أدباء المهجر في أمريكا الشمالية حول فكرة واحدة هي ضرورة إنشاء رابطة توحد جهودهم وتكتل قواهم ، وقد أطلقوا عليها اسم الرابطة القلمية ” [4] .
ويتحدث الدكتور عيسى الناعوري عن تأسيس الرابطة : ” في ليلة العشرين من نسيان ، عام 1920م ، ولدت فكرة ” الرابطة ” في مجلس ضم باقة طيبة من الشبان اللبنانيين والسوريين ، كانت الغيرة على الأدب العربي تتلهب في نفوسهم ، والأسف على حالته المؤلمة يلعج في قلوبهم ، وكل منهم يتلمس أجدى السبل لإقالته من عثرته الطويلة وجموده الثقيل . وسرعان ما التأمت الآراء على استحسان الفكرة ، وعلى مباشرة العمل لأجل تحقيقها . ولم يمض أكثر من أسبوع حتى خرجت الرابطة من حيّز التفكير إلى حقيقة الوجود ، يرأسها جبران ” عميداً ” ويعاونه في إدارتها ميخائيل نعيمة ” مستشارا ” ، ووليم كاتسفليس ” خازنا ” ، ويعمل تحت لوائها سبعة آخرون ، يحملون اسم ” العمال ” هم : إيليا أبو ماضي ، نسيب عريضة ، وعبد المسيح حداد ، ورشيد أيوب ، وندرة حداد ، ووديع باحوط ، وإلياس عطا الله ” [5] .
تعتبر ” الرابطة القلمية ” من أبرز المدارس الرومانسية في أمريكا الشمالية التي ساهمت بحظ وافر في تطوّر الشعر العربي الحديث ، وخاصة في تمثيل المذهب الرومانسي . وربط شعراء المهجر مفهوم الشعر بالحياة ، ودعوا إلى التجديد في الشعر العربي شكلاً ومضموناً ، وفي مضمون القصيدة وشكلها ، واتجهوا إلى التحرر من القديم والثّورة عليه . والتفتوا إلى النزعة الإنسانية ، لأن أدبهم موجه لكل الناس دون تحديد ، وهي تفاعلهم مع الإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه .
” بدأ الشعراء المهاجرون يتجهون بشعرهم للتعبير عن حياتهم الجديدة ، وكانت فرحتهم بإحساسهم بالحرية ، إلى جانب عدم اهتمامهم بالتراث العربي القديم ، دافعاً إلى التحرر من القيود الشعرية التقليدية ” [6] . ويقول مصطفى هدّارة : ” قد تألفت في أمريكا الشمالية جماعة ( الرابطة القلمية ) لتنظم الثورة على الأدب القديم العتيق ، وتقيم الدعائم القوية لأدب حيّ ناهض ، أدب يستمد غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها . وقد كان قيام الرابطة نفسه ثورة منظمة ضد الأدب الرجعي الذي لا حيلة بينه وبين الحياة التي نحياها ، وكان أعضاء هذه الرابطة مؤمنين جميعاً بوجوب حدوث هذه الثورة ” [7] .
عاشت هذه الرابطة إلى سنة 1931م حين توفي عميدها جبران خليل جبران سنة 1931م ثم تلاه رشيد أيوب وإلياس عطاء الله ، وعاد بعضهم إلى وطنه فانحلّ العقد الذي انتظم حياة الرابطة مدّةً من الزمن وتآلفت أرواح أصحابه عدداً من السنين . ومهما يكن من أمر فقد كان للرابطة القلمية الأثر الملموس في الشرق العربي واستطاعت بفضل مفكريها وأدبائها أن تكون إطاراً ثقافياً عاماً في المهجر .
(ب) العصبة الأندلسية :
أسّسها الشاعر المهجري ” ميشال معلوف ” في ” سان باولو ” في برازيل عام 1932م ، على الأرجح ، ولكن المؤرخين اختلفوا في تاريخ تأسيسها ، فمنهم من قال : إنها تأسست عام 1922م ، ومنهم من ذهب إلى أنها أنشئت عام 1923م ، ومنهم من ذكر أنّ قيامها كان 1935م ، ومنهم من ذكر أنها أقيمت عام 1933م ، ورأَسها ميشل بنفسه ، وأصبح بعده الشاعر القروي ” رشيد سليم الخوري ” رئيساً لها ، ثم انتخب ” شفيق معلوف ” رئيساً لها ، وانتخب ” داؤد شكور ” نائباً للرئيس ، ونظير زيتون أميناً للسر ، وانتخب يوسف البعينى أميناً للصندوق ، ومن أبرز أعضائها ، ” شكر الله الجر ” و ” إلياس فرحات ” و ” عقل الجر ” و ” رياض معلوف ” وغيرهم ، وأصدرت العصبة مجلّةً أدبيةً لنشر أفكارها وآرائها وأدبها برئاسة ” حبيب مسعود ” . وكانت العصبة الأندلسية متأثرةً بالأدب الأندلسي ، وخاصةً من موسيقية الموشّحات والتوسّع في اختيار قوافيها وحلاوتها الفنّية ، وتختصّ العصبة بالمهاجرين إلى أمريكا الجنوبية . ” قد أسس فيه ( أمريكا الجنوبية ) المهجريون ” العصبة الأندلسية ” وذلك بعد نهاية الرابطة القلمية بسنة واحدة ، فانتقلت القيادة من الشمالية إلى الجنوبية ، وكانت قويةً بشعرائها وأعضائها في مدينة سان باولو بالبرازيل عام 1351هـ ( 1932م ) بقيادة ميثيل معلوف ، ولها مجلة باسمها ” العصبة الأندلسية ” ، وقد عاشت هذه الرابطة عشرين عاماً ” [8] . ويتحدث عبد المنعم خفاجي عن قيامها فيقول : ” قامت هذه الجماعة الأدبية في المهجر الأمريكي الجنوبي ، في البرازيل بمدينة سان باولو ، وكان المؤسس لها هو الشاعر المهجري ميشال معلوف ، وتولى رياستها ، ثم خلفه الشاعر القروي . . . ويشير اسم ” العصبة الأندلسية ” إلى مدى تأثر المهجريين بالأدب الأندلسي ، وخاصةً بالروح الغنائى ، وبالموسيقى ، والعذوبة الفنية ، في الموشحات التي بلغت نهاية الترف والجمال . . . قد أنشأت ” العصبة الأندلسية ” مجلةً أدبيةً حملت اسمها أيضاً ، فصار هذا الاسم علماً على هذه الجماعة الأدبية . . . تولى رياسة تحرير المجلة الأديب المهجرى حبيب مسعود . . . وكانت العصبة الأندلسية مكونةً من : ميشال معلوف رئيساً ، وداود شكور نائباً للرئيس ، ونظير زيتون أميناً للسر ، ويوسف البعينى أميناً للصندوق ، وجورج حسون معلوف خطيباً ” [9] .
(ج) الرابطة الأدبية :
أنشأها الشاعر ” جورج صيدح ” في الأرجنتين عام 1949م عقب زيارة الوفد العربي إلى الأرجنتين ، ولم تستمر سوى سنتين ، وكان أكبر الغرض من إنشائها هو اتحاد الأدباء ، ولكن كانت مختلفةً عن الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ، لأن مؤسسيها لم يضع لها نظاماً ولا دستوراً ، وكانوا يعقدون جلسةً لها كل أسبوع . ” أنشئت هذه الرابطة الأدبية في عاصمة الأرجنتين عام 1949م ثم اختفت بعد عامين ، وقد أنشأها صيدح على غرار الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ” [10] . ويقول إلياس قنصل : ” أنشئت تلك السنة ( 1949م ) ” الرابطة القلمية ” وغايتها الرئيسية جمع كلمة الأدباء وإعلاء مركز الأدب . واختلف عن غيرها من الندوات الأدبية بأن لا نظامات رسمية لها ، فقانونها ما يميله الضمير الحي والغيرة على الأدب . وراحت تعقد جلساتها كل أسبوع ، حيث تتلى المنتوجات الأدبية الجديدة ، ويجري البحث فيها تحبيذاً أو استنكاراً ” [11] . ” كان من أعضائها : صيدح ، يوسف الصارمى صاحب مجلة المواهب الشهرية ، عبد اللطيف الخشن صاحب جريدة العلم العربي الأسبوعية وكتاب ” المغتربون ” ، زكى قنصل ، وغيرهم ” [12] .
(د) رابطة منيرفا :
أنشأها الشاعر المصري ” أحمد زكي أبو شادي ” عام 1948م في نيويورك برئاسة نفسه ، وكان عبد المسيح حدّاد نائباً للرئيس ، ولكن لم تستمرّ طويلةً ، ولم تؤثر في الشعر المهجري . ” أسسها الشاعر المصري الكبير الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1948م في نيويورك ، وكان هو رئيسها ؛ ونائب الرئيس فيها الشاعر المهجرى عبد المسيح حداد ؛ وكانت على غرار جمعية أبولؤ المصرية ؛ ويبدو أنها قد انتهت بوفاة الشاعر أبي شادي . . . وليس لها كبير أثر في الشعر المهجرى . وكان من أعضائها كريمة الدكتور أبي شادي ، وهى الأديبة الشاعرة الآنسة صفية أبو شادى . . . وقد أسهم فيها بجهد كبير الشاعر نعمة الله الحاج ” [13] .
لا ريبَ في أنّ الأدب المهجري قد تأثر كسائر الآداب الأخرى بمؤثرات كثيرة سرت فيه وذابت ، ولكنه لم ينحصر فيه ، بل تعدّى طَور التأثر إلى طور التأثير ، فقد أثّر في الأدب العربي تأثيراً بالغاً ، لما فيه من قوة التجديد والخروج من دور الجمود والتقليد إلى دور الابتكار ، ومع هذا قد نقّد بعض أدباء العرب الأدبَ المهجر والشعراءَ المهجر ، خاصةً منهم ” عزيز أَباظة ” و ” طه حسين ” ، فيتحدّث عزيز أباظة في تصديره لكتاب ” محمد عبد الغني حسن ” ، بأن لا يوجد أي التجديد في هذا الأدب ، ولم يفتح شعراء المهجر آفاقاً جديدةً ، كما زعم البعض ، يقول : ” أنّ شعراء المهجر – مع تقديري البالغ لكثير منهم – لم يفتحوا آفاقاً جديدةً في الفن عجز عن الصعود إليها إخوانهم في لبنان ، وأن الأدب المهجرى لم يتبلور بعد ، ولم يتخذ صورةً واضحة المعالم ، بحيث يفرد له أثر بعيد المدى في تطور الأدب العربي المعاصر . وموقف الشعر المهجري من الشعر العربي في هذه الفترة كموقف أدباء أمريكا من اللغة الإنجليزية ” [14] . ويتحدّث طه حسين في مجال التعليق على نتاجات المهجريين : ” ولكنني حائر حقاً في أمر هذا النحو من الشعر وهذا الفريق من الشعراء ، قوم منحوا طبيعةً خصبةً ، وملكات قويةً ، وخيالاً بعيد الآماد ، وهم مهيئون ليكونوا شعراء مجودين ، ولكنهم لم يستكملوا أدوات الشعر ، فجهلوا اللغة أو تجاهلوها ، ثم اتخذوا هذا الجهل مذهباً ، فأصبحنا من أمرهم في شكٍّ مريب ” [15] . وأجابهم ميخائيل نعيمة عندما قال : ” نقم أنصار التقليد والجمود عليها فما كانت نقمتهم إلا لتزيدها قوةً وحماسةً واندفاعاً ولتنتمي عدد أنصارها ومريدها ومقلديها والمعجبين بها في كل قطر عربي حتى حار في أمرها أصحابها وأعداؤها على السواء ” [16] . وعلّق الأستاذ الدكتور عبد الرحمن على هذا بأن ” الأستاذ عزيز أباظة في رأيي متعصب في حكمه كما كان حكم طه حسين عنيفاً على الشعر المهجري . وكلاهما يغضّان الشعر المهجري قدراً على الرغم من أنّ له المعجبين الكثيرين في العالم العربي ” [17] . ويقول جمال الدين الرمادي إجابةً عن نقد طه حسين : ” الحق أن الدكتور طه حسين على صواب فيما يراه بالقياس إلى بعض الشعراء المهجري . أما إطلاق الحكم على هذا الشعر كله بهذه الصورة فقاس وعنيف ” [18] . ودافع أيضاً عباس محمود العقاد عن الأدب المهجري فيقول : ” إنه ثمرة أربعين سنة ، وإنه ثروة وربح للغة العربية ” [19] .
وخلاصة القول أن الرابطة في المهجر قد تنوّعت تأثيراتها في الشعر العربي حتى تكيف الشعر بكيفيات من الصدق الخالص والأمانة والمشاعر الشعبية التي قد خلا الشعر العربي قبل ذلك إلى حدّ ما . والأدب بهذه الفكرة اختار الطرق غير الطرق التي سادت العصور الماضية في جميع الأقسام من اللغة والشعر والنثر وما إلى ذلك . فضلاً عن دور الرومانسية كمذهب أدبي في دفع حركة التطور في الشعر العربي إلى الأمام . وأنّ المهاجرين لعبوا دوراً أساسياً في تطوّر الأدب العربي ، وإنّ هجرتهم إلى البلاد الأجنبية أثّرت تأثيراً كبيراً في مضامينهم وأساليبهم الأدبية ، وكذلك أثّر أدبهم في الأدب العربي في أشكاله وقوالبه وأغراضه ، وجدّدوا الشعر العربي في الأوزان والقوافي ، وتحرّروه من القيود وأزالوا عنه غبار الماضي ، وأفسحوا مجال الشعر وأعطوا للشاعر الحرية في التعبير ليستطيع الإفصاح عما في صدره وأدخلوا موضوعات جديدةً في الشعر العربي ، مثلاً الحنين إلى الوطن ، النزعة الإنسانية ، التشاؤم ، التفاؤل ، النزعة الصوفية ، التأمل والتفكر ، الحرية ، وغيرها ، ثم انتشرت نتاجاتهم الأدبي ، وأقبل النقاد العرب على الاطلاع على ذلك النتاج .
* جامعة كشمير ، سري نغر .
[1] د . أحمد صلاح وحامد الشيمي ، ” الأدب العربي في العصر الحديث ” ، عالم الأدب للترجمة والنشر ، ط : مصر ، 2020م ، ص 28 و 29 .
[2] د . عيسى الناعورى ، ” أدب المهجر ” ، دار المعارف ، ط : مصر ، 1977م ، ص 17 .
[3] د . محمد عبد المنعم خفاجي ، ” حركات التجديد في الشعر الحديث ” ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر ، ط : الإسكندرية ، 2001م ، ص 174 .
[4] د . صابر عبد الدايم ، ” أدب المهجر ” ، دار المعارف ، ط : مصر ، 1993م ، ص 18 .
[5] د . عيسى الناعورى ، ” أدب المهجر ” ، دار المعارف ، ط : مصر ، 1977م ، ص 22 .
[6] د . سيد حامد النساج وزملاءه ، ” الأدب العربي الحديث ” ، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ، ط : القاهرة ، 1991م ، ص 63 .
[7] د . محمد مصطفى هدّارة ، ” التجديد في الشعر العربي ” ، دار الفكر العربي ، ط : القاهرة ، 1957م ، ص 52 .
[8] د . مسعد بن عيد العطوي ، ” الأدب العربي الحديث ” ، مكتبة الملك فهد الوطنية ، 2009م ، ص 128 .
[9] د . محمد عبد المنعم خفاجى ، ” قصة الأدب المهجرى ” ، دار الكتاب اللبناني ، ط : بيروت ، 1973م ، ص 91 – 94 .
[10] المصدر نفسه ، ص 107 .
[11] إلياس قنصل ، ” أدب المغتربين ” ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، ط : دمشق ، 1963م ، ص 52 .
[12] د . محمد عبد المنعم خفاجى ، ” قصة الأدب المهجري ” ، دار الكتاب اللبناني ، ط : بيروت ، 1973م ، ص 107 .
[13] المصدر نفسه ، ص 106 .
[14] محمد عبد الغني حسن ، ” الشعر العربي في المهجر ” ، مكتبة الخانجي ، ط : قاهرة ، 1958م ، ص 18 .
[15] طه حسين ، ” حديث الأربعاء ” ، الجزء الثالث ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، ط : قاهرة ، 2012م ، ص 775 .
[16] ميخائيل نعيمة ، ” جبران خليل جبران ” ، مطبعة لسان الحال ، ط : بيروت ، 1934م ، ص 174 .
[17] د . عبد الرحمن واني ، ” ميخائيل نعيمة : الأديب المهجري العملاق ، روز ورد بوكس ، ط : نيو دلهى ، الهند ، 2016م ، ص 227 .
[18] نقلاً عن عبد الرحمن ، ” ميخائيل نعيمة : الأديب المهجري العملاق ” ، ص 227 .
[19] د . محمد عبد المنعم خفاجى ، ” دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه ” ، دار الجيل ، ط : بيروت ، 1992م ، ص 330 .