د. علي خليفة - خيال الظل...

أغلب الظن أن العرب لم يبتكروا فن خيال الظل، ولكنهم نقلوه عن الصين أو الهند، وكان انتشار مسارحه عندهم في القرن السادس الهجري، وما تلاه من قرون. وهناك خبر ورد في كتاب "الديارات" للشابشتي، وكتاب "جمع الجواهر في الملح والنوادر" للحصري القيرواني، ومضمونه أن الشاعر دعبل الخزاعي – عاش في القرنين الثاني والثالث الهجريين – هدد مخنثًا بأنه سيهجوه، فقال له هذا المخنث : والله لئن هجوتني لأخرجن أمك في الخيال. ولو صح هذا الخبر لكان العرب قد عرفوا خيال الظل منذ القرن الثالث الهجري، ولكنني أشك في صحته، وأظن أنه لو كان صحيحًا فإن المقصود بالخيال هنا شيء آخر غير خيال الظل، وذلك لأنه
لا توجد إشارة أخرى لمعرفة العرب فن خيال الظل قبل القرن السادس الهجري غير هذا الخبر، وأيضًا لأن الخليفة المتوكل حين تولى الخلافة سنة 232هـ أمر بإحضار الملهين لبلاطه، فرأينا فيهم المهرجين والمخنثين – الذين كانوا يقومون بأداء عروض تمثيلية أشبه بما كان يقوم به المحبظون – والمغنين والراقصات من الجواري، ولكننا لم نقرأ أنه جلب أصحاب خيال الظل؛ مما يؤكد ظني في أن العرب لم يعرفوا فن خيال الظل إلا في القرن السادس الهجري، وما تلاه من قرون.
وفن خيال الظل – في رأي فريق من الباحثين – لا علاقة له بجذور الدراما عند العرب؛ لسوقية ألفاظه، ولتفاهة موضوعاته، ولغلبة المجون عليه، ومن أصحاب هذا الرأي الدكتور محمد مندور، والدكتور عبد المعطي شعراوي، ولكن هناك فريقًا آخر من الباحثين يرون خيال الظل أحد فنون الفرجة التي عرفها العرب، ومنهم من يعده أحد أشكال المسرح، فهو مسرح ظلي له نصوص يتم تجسيدها بوساطة عرائس في قاعات مغلقة ويشاهده جمهور. ومن أصحاب هذا الرأي الدكتور علي الراعي، والدكتور عبد الحميد يونس. ويرى الدكتور علي الراعي أن بابات خيال الظل – أي مسرحياته – تتشابه مع مسرحيات العصور الوسطى في أوربا، ففي كليهما كان – أحيانًا – يظهر ملك الموت، وتتم عروضهما في ثلاثة أيام متتالية.
وفن خيال الظل كالمسرح – بالمعنى الذي نفهمه الآن
عنه –، فهو فن جماعي، فيه يؤلف المؤلف باباته، وفيه العرائس التي تصنع من جلود الجمال ويحركها المُخَايل من خلف ستارة بيضاء أمام ضوء مصباح يعكس ظل هذه العرائس على الشاشة البيضاء، وفيه الحازق الذي يلون صوته مع اختلاف شخصيات العرائس، وقد يشترك معه آخرون في عمله خلال العرض، ويشرف على كل القائمين بعرض خيال الظل شخص يدعى الريس، وهو أشبه بالمخرج في المسرح.
وفن خيال الظل تتم عروضه في قاعات مغلقة ليلاً وأحيانًا نهارًا، وأحيانًا يكون المكان الذي يتم فيه العرض ثابتًا وأحيانًا يكون متنقلا.
ويعد ابن دانيال الكحال أهم من كتب بابات خيال الظل – في القرن السابع الهجري –، ووصل لنا ثلاث بابات نشرها الدكتور إبراهيم حمادة، وحذف كثيرًا من العبارات الماجنة فيها.
وابن دانيال من أصل موصلي، ولكنه رحل من العراق لمصر وعنده نحو 19 سنة بعد احتلال التتار للعراق، وعمل في مصر طبيبًا للعيون، وكان له محل بباب الفتح بالقاهرة، ولم يكن يربح كثيرًا من مهنته هذه، ولهذا يقول في شعره:
يا سائلي عن حرفتي في الورى
وا ضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه
يأخذه من أعين الناس
وحسن حال ابن دانيال بعد أن مدح بعض الأمراء والوجهاء، ونال عطاياهم. ويقول بعض الكتاب القدماء: إن ابن دانيال كان له ديوان كبير، ولكنه فقد، ولم يصل إلينا غير القليل من شعره.
وتأتي أهمية ابن دانيال لتلك البابات التي ألفها، وكان يخرجها
– إلى جانب عمله بكحالة العيون وقوله الشعر –، ومن باباته بابة "طيف الخيال" أو "الأمير وصال"، وفيها يعرض وصالاً الذي رحل لمصر، وطلب إلى خاطبة أن تزوجه فتاة جميلة، فدلست عليه، وزوجته من فتاة قبيحة، وحين اكتشف قبحها ليلة الدخلة، كال لها السباب وللخاطبة، ثم عزم على التوبة من ذنوبه، وحج لبيت الله الحرام.
ويرى بعض النقاد المعاصرين أن ابن دانيال عنى بالأمير وصال في هذه البابة الخليفة العباسي الذي عينه بيبرس في منصبه، وكان منصبًا شرفيًّا له، فلم يكن له من الأمر شيء، ولو صح هذا التأويل لكان لبعض بابات ابن دانيال أبعاد رمزية.
أما بابته "عجيب وغريب" فيعرض لنا فيها نحو 27 شخصًا من بني ساسان الذين احترفوا الكدية، وكان منهم بطلا مقامات الهمذاني والحريري، ومن هؤلاء الساسانيين الذين عرضهم ابن دانيال في هذه البابة القرداتي، والحاوي، وغيرهما، وتتشابه هذه البابة في عرضها لأصحاب الكدية هؤلاء مع ما جاء عنهم في المقامة "الرصافية" للهمذاني، وقد يكون الكاتب الإنجليزي بن جونسون تأثر بهذه البابة أو بالمقامة الساسانية في مسرحية "سوق بارثيلوميو" لعرضها هي أيضًا عددًا كبيرًا من الحواة، والقرداتية، وغيرهم من المهرجين، والمحتالين.
أما بابة "المتيم" فقد امتلأت بالمجون، وضعيف الشعر، حتى قال بعض النقاد: إنها مدسوسة على بابات ابن دانيال؛ لأنه لا يمكن أن يقول شعرًا ضعيفًا كالذي ورد في هذه البابة.
وعلى الرغم من أن فن خيال الظل منقول – في الغالب – عن الصين أو الهند فإنه أخذ الملامح العربية، والمصرية على وجه الخصوص بعد استنباته في بلادنا، وتأثر كثيرًا بأسلوب المقامة، فكان يجمع بين الشعر والنثر، ولكن لغة البابات اختلفت عن لغة المقامات، فقد كانت تكتب المقامات بالفصحى. أما البابات فتكتب بلغة تجمع بين الفصحى والعامية، ولكن يغلب عليها الفصحى، وبالطبع في هذا رغبة واضحة من كتاب البابات في مجاراة الناس في اللغة التي كانوا يتحدثونها آنذاك؛ ليتواصلوا مع هذه البابات خلال عروضها.
ويغلب عل لغة البابات الكلمات المسجوعة، واستخدام سائر المحسنات البديعية، والبابات يكون الحدث فيها غالبًا غير مشوق،
ولا صراع فيها، وغالبًا ما كانت تبدأ بحمد الله من المخايل أو الريس،
ثم يبدأ التمثيل بعد ذلك، ويكثر في البابات الخطب والنكات الماجنة، وهي أقرب للمهزلة – الفارس – في تصنيفها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى